في رفقة الحلنقي ولفائف التبغ تربصت بي كل نفثات نزار قباني الشعرية وعلى خيوط الدخان المتسللة من حنجرتي الشاعرين احتجزت (صديقتي وسجائري) مقعدها بيننا، لاحقت والحلنقي سحائب الدخان المسافرة بجنون امرأة تركض كالخيل الجامحة لتختبئ في دخان سيجارة، ونزار يحكي وله أنثى تقبع كقطة ناعمة في لحظة تدخين: "واصل تدخينك/ يغريني رجل في لحظة تدخين، هي نقطة ضعفي كامرأة، فاستثمر ضعفي وجنوني/ ما أشهى تبغك والدنيا تستقبل أول تشرين/ والقهوة والصحف الكسلى ورؤى وحطام فناجين/ دخن لا أروع من رجل يفنى في الركن ويفنيني". حبسية لفائف الأغنيات ومع ما بين الشاعرين من اختلاف تساءلت: هل ثمة امرأة ظلت حبيسة لفائف الحلنقي يا ترى؟ لكن الشاعر الرقيق سرعان ما وضع فلسفة لعلاقة التدخين والمرأة. وأجاب: لا أذكر أن لي محبوبة شغفت بدخان سجائري، وذلك لأن الأزهار لا تحتمل العيش مع دخان يخنق عبيرها. وظلت حكاية السيجارة الأولى في ذاكرة الشاعر المُتقدة بسهرة كسلاوية نفض فيها أعقاب نفثاته الأولى، ويحكي الحلنقي: في سهرة كسلاوية الملامح قدم لي أحد الإخوان السيجارة الأولى ولم أتردد في استلامها والإبحار من خلال دوائر دخانها إلى عوالم أخرى، وأذكر أنني في اليوم التالي ذهبت أبحث عن هذه الجميلة التي أرهقت صدري، لكنها أراحت مشاعري، وبالرغم من أن دوائرها سوداء تضع مسماراً في نعش كل من يتعامل معها ويسعى لامتلاكها إلاّ أن استعبادها لي كان فيه مُتعة الذين يحترقون بالحب، ويتمنون أن لا يتوقف اللهب. خضوع القوافي لرائحة التبغ بسيجارة، يستدعي الحلنقي أغنياته النافرة فتأتي كما الغزلان، مرحة وجزلة، يقول: جل قصائدي كتبتها وأنا أدخن، والتدخين أحياناً يجبر الأغنية المتمردة على الخضوع لمن يريد أن يكتبها، قد يكون ذلك ضرباً من الوهم، لا أنكر ذلك، لكن العاشق كُتب عليه أن يتوهم أن في ابتسامة المحبوبة سبيل إلى اقتناء اللؤلؤة، رغم وجود فرق بين أن تحترق على نارٍ لفافة تبغ تشعل رئتيك، وبين عيون تجعل صباحك سهراً، وليلك سهر. الإقلاع عن التدخين يواصل: أبحرت مع التدخين كثيراً، وبعد أن وصل بي إلى مرحلة الإدمان واللهفة على السفر على أجنحة الدخان السوداء مع كل صباح، وبالرغم من أنها رحلة قد تكون مميتة إلا أن استعباد لفافة التبغ أصبح من أولوياتي. الآن أقلعت عن التدخين ولن أعود إليه مرة أخرى ما بقيت أنفاس اتنفسها ينفى الحلنقي اختراق اللفائف لقصائدة. وأردف: لم أكتب قصيدة عن التدخين لأنني في داخل نفسي أعلم أن لفافة التبغ تسعى إلى قتل من يعشقها لذلك لم تجد مكاناً في قصيدي. احتراق الأصابع بسيجارة حمراء وللحلنقي – في موضوع التدخين – قصة مع والده، ما زالت أنامل فتى العشرين آنذاك تتذكرها، يروي: أذكر أن والدي رحمه الله فاجأني مرة بزيارة في غرفتي وكنت ممسكاً في يدي بسجارة، فما كان مني إلا أن أطبقت عليها بأصابعي خوفاً من أن يراني فتتفاقم عليّ الأحزان، أفضل أن تحترق أصابعي من أن يراني والدي وأنا أدخن. ولأن السيجارة العادية تسمى حمراء، فإن الحلنقي يرى أن الإحمرار ارتبط بها لأن الحمرة دلالة على الستائر الحمراء في مخامل الدفء الممنوعة من الاقتراب. عزيزي القارئ إنها نفثات شاعر في مادة وسيجارة مُستعادتين! صحفية سودانية مقيمة في بريطانيا اليوم التالي