( الآن أيها الناس الطيبون دعونا نعتبر ما هو داعي الشرف الذي يدعونا إلى تقليد أولئك الهنود الفقراء المتوحشين الذين لا يعبدون إلهاً، في عادتهم القذرة.. تلك العادة المؤذية للأنف والمضرة للمخ، الخطرة على الرئة، وكأن ذلك الدخان المرعب برائحته السيئة ينبع من حفرة لا قعر لها).. الحديث عزيزي القارئ ليس لطبيب من أطباء الصدر الحاذقين المشهورين، وإنما هو للملك البريطاني جيمس الأول الذي تولى العرش الملكي بعد وفاة الملكة إليزابيث الأولى، وهو كان من أشد المؤمنين بمبدأ (الحق الإلهي للملوك) أي أن الملوك يستمدون الحكم من الله أكثر من إجماع الشعب عليهم، وقد قام بفرض الضرائب الباهظة على تجارة التبغ واتبع استهجانه للتدخين بتأليف كتابه (إدانة التبغ).. وقد أُطلق على انجلترا (انجلاند) أو أرض الأناجلة Angles الذين قدموا إليها في القرن الخامس بعد الميلاد، ومن الملوك من كان يحلو له أن يسميها بلاد الملائكة angellykes ، لأن البابا غريغوري اختاره لها، ومن الطرائف أن اللغة الإنجليزية تنادي الحبيبة اصطلاحاً my Angle، إضافة للتعابير المعهودة my sweet , my honey وعلى نقيض الملك جيمس نجد الشاعر الثوري الثائر على قوالب الشعر العربي (نزار قباني) فهو كان داعية التدخين الأول في الأدب والفن، ففي كتاب سيرته الذاتية (قصتي مع الشعر) أخذ يشي بالأهمية البالغة للتدخين في حياته بقوله: (لا تهمني ضخامة الأشياء.. إن إمرأة تخرج من حقيبتها ورقة كلينكس وتمسح بها جبيني وأنا أسوق سيارتي، تتملكني، وأن أمرأة تضع يدها علي كتفي وأنا أكتب.. تعطيني كنوز الملك سليمان، أما المرأة التي تتناول رماد سيجارتي براحتها وأنا مستغرق في التدخين.. تذبحني من الوريد إلي الوريد)، وهو قد كتب أشعار في الدعوة إلى التدخين نقتطف أبيات: واصل تدخينك يغريني رجل في لحظة تدخيني هي نقطة ضعفي كأمراة فاستثمر ضعفي وجنوني ما أشهي تبغك والدنيا تستقبل أول تشرين أشعل واحدة أشعلها أشعلها من جمر عيوني وهنالك أيضاً قصيدته التي تغنيها مطربة الروائع ماجدة الرومي (مع الجريدة)، وفي البال تقف دوماً إلياذته بلقيس: أين زجاجة القرلان والولاعة الزرقاء أين سيجارة ال(كنت) التي ما فارقت شفتيك وفي السودان يقف الشاعر الرقيق التجاني حاج موسي في زمرة أجل من استخدم آثار التبغ في نص شعري، ونلمح ذلك في رائعة أبو عركي البخيت أغنية (واحشني). وأنت لم تسيبني وتسافر خت في بالك أنو دنياي في مدارك وجد لفافات الصبر دخنتها وكل المقاطع في غناي طوعتها وهذه الروائع تجعلني أتحسر وأتساءل لماذا لا يغنيها المطرب الشاب طه سليمان عوضاً عن قصيدته فاقدة المضمون (باكو السجائر.. يا باكو السجائر ولع لي النحرقو) التي تداهمنا كجيوش التتر في كل مكان، والغريب أن المطرب الشعبي المصري شعبان عبد الرحيم (شعبولا) رغم انه من زمرة مطربي (قائمة الحنجرة بلا ثقافة) كان أفضل حالاً من طه سليمان وهو يغني حاثاً الشباب الإقلاع عن التدخين في أغنيته الشهيرة (هبطل السجائر) هبطل السجائر وأكون إنسان جديد من أول يناير خلاص ح أشيل حديد وربما أن هنالك علاقة وطيدة عزيزي القارئ بين الدخان وفن الغناء الهابط، فالأول يزول تأثيره بزوال مؤثره وكذلك الغناء الهابط يزول بمجرد انتهاء مدعي الفن من غنائه، أي لا يكون له موطء قدم في أرض الفن الخالد، الذي يتباهى به تاريخ الشعوب لذلك يكفي ما قاله الشاعر القديم في ذم الدخان : تواضع تكن كالنجم لاح لناظريه على صفحات الماء وهو رفيع ولا تك كالدخان يرقى إلى طبقات الجو وهو وضيع والكاتبة الجزائرية الرائعة أحلام مستغانمي تلتقط قفاز الالهام في كتابها الضجة (نيسان Com) لتجمع بين (الأعقاب والآداب)، وهي توظف السجائر في أدبها الرفيع قائلة على لسان بطلتها التي كانت تئن من جرح حبيبها المخادع الغائر وتقول في ألم أنكأ القلوب التي ترهف إخلاصاً (كم منّت نفسها بإنقاذه من النيكوتين، لكنه يوم أقلع عن التدخين، أطفأ آخر سيجارة في منفضة قلبها وتركها رماد امرأة، وأهدي أيامه إلي امرأة تدخن الرجال) وفي الختام حتى الملتقي أعزائي القراء أسأل الله لكم اليقين الكامل بالجمال حتى يقيكم شر الابتذال في الأشياء.