علَّق الرئيس السوداني، عمر حسن البشير، جرس النقاش مجدداً حول إمكانية عودة الشمال والجنوب إلى الوحدة، بكشفه نهاية الأسبوع الماضي، خلال مؤتمر حزبي في الخرطوم، أن حكومته تلقت اعتذارات من قوى دولية، لم يسميها، عملت من أجل فصل الجنوب بغية تدمير الشمال، وأن تلك الجهات الدولية تطالب الآن بإعادة النظر في انفصال الجنوب، والعمل على إعادة الوحدة بين السودان ودولة جنوب السودان. حكومة جنوب السودان ردت على لسان وزير الإعلام فيها، مايكل مكواي، بأن "العودة للوحدة مجدداً مع السودان خيار غير مطروح"، وشككت في صحة ما صرح به الرئيس البشير وطالبته بتسمية الجهات الدولية التي قال إنها اعتذرت وطالبت بإعادة الوحدة للسودان. رد لم يغلق باب الجدل الذي لا يقتصر على الطرفين الرسميين في الدولتين، إذ أدلى رئيس "هيئة تحالف أحزاب المعارضة السودانية"، فاروق أبو عيسى، الذي عقَّب على تصريح الرئيس البشير بالقول: إن حكومة جنوب السودان أبلغت هيئة المعارضة أنها مستعدة للعودة إلى خيار الوحدة مع الشمال، إذا ما توفر شرط نظام ديمقراطي برحيل نظام حكم الرئيس البشير. بدورهم، لا يستبعد سياسيون جنوبيون أن تقود تداعيات الحرب في جنوب السودان إلى طرح الوحدة مجدداً مع الشمال، بنظام كونفدرالي، ومنهم القيادي في "الحركة الشعبية" جورج أموم، الذي نوَّه إلى وجود "خيار ثالث" يطالب بتطبيق التسوية التي اقترحتها دول شرق أفريقيا "الإيقاد" لوضع حد للحرب في الجنوب، بتخلي الرئيس سلفاكير عن كرسي الرئاسة، مقابل ابتعاد معارضه ونائبه السابق رياك مشار عن خوض مواجهات مسلحة ولعب دور سياسي خلال الفترة القادمة، وهو ما رفضه سلفاكير ومشار. وباعتقاد قادة سياسيين جنوبيين معارضين للرئيس الجنوبي ونائبه السابق، إن استبعاد الرجلين يمكن أن يخلق فرصة واقعية للعودة إلى خيار الوحدة بين الشمال والجنوب، إذا تطابقت المصالح المشتركة بين الشعبين، لاسيما في ضوء تراجع ملحوظ في مواقف النخب السياسية الجنوبية التي كانت ترى، حسب جورج أموم، في خيار الانفصال فرصة لإقامة دولة خاصة بشعب الجنوب، وذلك على وقع الحرب الأهلية الدائرة في دولة جنوب السودان، والمشاكل السياسية والاقتصادية والاجتماعية المستفحلة، وخطر المجاعة، جراء الصراع القبلي الدموي، وسيطرة المتمردين على المناطق الغنية بالنفط. المتحمسون في الشمال والجنوب لفكرة طرح خيار الوحدة مجدداً يدافعون عن واقعية فكرتهم بوجود نخب سياسية جنوبية داعمة لها، وهو ما لم ينفيه وزير الإعلام في حكومة جنوب السودان، حيث اعترف بأن ثمة "عناصر جنوبية ترى أن هناك إمكانية لوحدة البلدين مرة أخرى"، وأضاف: "نعلم أن بعض عناصر من المتمردين مع رياك مشار لديها ميول بعودة جنوب السودان إلى السودان"، لكنه وصف تحقيق ذلك بأنه "أمر بعيد المنال، بل من رابع المستحيلات". ويضع أولئك في كفتهم ما تردد عن أن جهات نافذة في واشنطن وعواصم القرار في دول الاتحاد الأوروبي، اقترحت فعلاً على حكومتي السودان وجنوب السودان "قيام اتحاد كونفدرالي على أسس جديدة مقابل دعم عالمي مادي كبير". ناهيك عن مصالح السودانيين في الشمال والجنوب، التي تضررت بفعل الانفصال عام 2011، بفقدان الحكومة السودانية لما يقدر ب 70% من الموارد النفطية التي ينتجها الجنوب، وتفكك العلاقات الاقتصادية التي كانت قائمة بين الشمال والجنوب في دولة الوحدة، وزيادة حالة عدم الأمن والاستقرار، والخشية المتزايدة من أن تتحول دولة الجنوب إلى دولة فاشلة لفترة طويلة قادمة، تعصف بها الصراعات القبلية بين أكثر من ستين قبيلة أكبرها قبيلتا "الدينكا" و"النوير"، إلى ما لا نهاية. بالإضافة إلى العديد من العوامل الديمغرافية والاقتصادية والاجتماعية، التي لم تكن في صالح خيار الانفصال، وعدم قدرة دولة الجنوب على الاستغناء عن علاقات متميزة مع السودان بفعل موقعها الجغرافي، والعلاقات التاريخية بين أبناء الجنوب والشمال. بالمقابل، يرى المشككون في واقعية فكرة إمكانية العودة إلى خيار الوحدة، وهم حتى الآن يشكلون غالبية النخب السياسية في الشمال والجنوب، أنه ربما فات أوان جمع "اللبن المسكوب" بعد الانفصال، فالأكثرية الساحقة من الجنوبيين صوتوا في استفتاء كانون الأول/يناير عام 2011 إلى جانب خيار الانفصال بنسبة 98%، وما زالت النسبة الأكبر من النخب السياسية والحزبية- القبلية في الجنوب ضد العودة للوحدة. ويرى معارضو الرئيس البشير أن نظام حكمه لا يسعى بالفعل إلى خلق حوافز لاستعادة الوحدة مع الجنوب، وأنه غير مستعد لدفع ثمن ذلك بإصلاحات دستورية جذرية تقوم على أساسها دولة الوحدة الجديدة، وتؤمن شراكة حقيقية بين كل الأطراف، من خلال إرساء لامركزية سياسية، والاعتراف بالحقوق السياسية والدينية والثقافية للأقليات العرقية. وقبل هذا حل المشاكل الكبيرة التي يعاني منها السودان جراء استمرار الصراع المسلح مع الحركات المتمردة والانفصالية في دارفور والنيل الأزرق وولاية جنوب كردفان. كما أن المواقف الرسمية الدولية والإقليمية، وتحديداً الأميركية والأوروبية ودول جوار السودان الأفريقي، لم يطرأ عليها تغيير معلن بخصوص دعم انفصال الجنوب عن الشمال، ودعم حكومة سلفاكير، علماً بأن الولاياتالمتحدة والدول الأوروبية كانت داعمة على الدوام لتقسيم دولة السودان. إلا أن العديد من دول الجوار الأفريقي للسودان كانت غير متحمسة لفكرة انفصال جنوب السودان، انطلاقاً من مخاوف أن يشكل ذلك سابقة، تجر إلى حالات مشابهة في هذه الدول التي تعاني من انقسامات عرقية ودينية وقبلية، إذا ما طبق حق تقرير المصير على المنوال السوداني. وحاضراً أضيف إلى مخاوفها خطر تحول جنوب السودان إلى بؤرة صراع مفتوح يزعزع الأمن والاستقرار في المنطقة برمتها، التي تعاني من مظاهر عدم الاستقرار أصلاً. وإذا كان خيار الوحدة بين السودان ودولة الجنوب غير مرشح للتحقيق في المدى المنظور، لكنه سيظل في دائرة الجدل، على قاعدة توفير أرضية تجعل منه خياراً واقعياً بإرادة أبناء البلدين، الذين كانوا في الأمس القريب مواطني بلد واحد. أنباء موسكو