الأمر أسوأ من أن تتم مدارته، أو أن يتم السكوت عنه. هكذا قدّر الدكتور غازي صلاح الدين الذي كان يقف – حينها – على رأس الكتلة البرلمانية لنواب المؤتمر الوطني. ولعل هذا ما جعل غازي يخرج إلى الصحفيين، وهو يتهندم جلبابه ناصع البياض الذي يحرص عليه، بمثل حرصه على ضبط عباراته، وترتيب أفكاره. قال غازي للصحافيين بعد خروجه من جلسة البرلمان المخصصة لمناقشة البرنامج الثلاثي: "إن البرنامج الذي وضعته وزارة المالية على منضدة البرلمان لاطلاع النواب عليه، ومن ثم تنفيذه، هو عبارة عن ألغاز". هكذا قال الدكتور غازي، دون أن يمضي لحال سبيله. فقد بدأ الرجل حينها خطوات طويلة وممتدة لإصلاح وتقويم حزبه. لكن أحداً من العصبة المنقذة لم يتفطّن لأحاديث غازي إلا ضُحى الكارثة. ومع أن الذي قاله الدكتور غازي عن هذا النظام، والذي تسبب لاحقاً في طرده من حزب المؤتمر الوطني، قالته أحزاب المعارضة قبل ربع قرن من الزمان. وتحديداً منذ أجهز انقلابيو الجبهة الإسلامية على الديمقراطية الثالثة. إلا أن الدكتور غازي انتزع إعجاب المراقبين، بعد أن صبّ جام نقده بصورة قوية على "البرنامج الثلاثي"، الذي راهنت الحكومة عليه لإخراج البلاد من الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي دخلت فيها جراء فقدان النفط الذي ذهب مع انفصال الجنوب. وأهم من ذلك كله، أن الأيام أثبتت فشل البرنامج الثلاثي، إذ أنه لم يمتص الصدمة والآثار الكارثية التي حلت على المشهد الاقتصادي. بل أن الأزمة هي ذاتها، والضائقة المعيشية تزداد سوءاً مع الأيام. والعملة الوطنية لا تزال تتراجع أمام النقد الأجنبي في السوق الموزاي، وأسوأ من ذلك كله، أن الدولار تجاسر على الجنيه السوداني بما نسبته 30% منذ أن تم إعلان وتنفيذ البرنامج الثلاثي المنوط به كبح جماح الغلاء، وإخماد نيران النقد الأجنبي التي تشتعل بضراوة. الآن تتجه الحكومة للرهان على "البرنامج الخماسي"، لتلافي المترتبات والآثار الاقتصادية القاسية الناتجة عن الفشل السياسي. الحكومة ستفعل ذلك دون أن تقوم بإخضاع البرنامج الثلاثي إلى تقييم حقيقي. مع أن المنطق يُحتّم تقييمه من قبل خبراء اقتصاديين مستقليين، لا تربطهم علائق المصلحة أو التنظيم بالحزب الحاكم، حتى يكتبوا وصفة طبية صادقة تضع يدها على الحرج، وروشتة حاذقة تقول الحقيقة بعيداً عن المسكات. خصوصا ًوأن البرنامج الثلاثي كان بمثابة مرجعية اقتصادية طوال الأعوام الثلاثة الماضية. أقول هذا مع أن واقع الأشياء، وظاهر المشهد الاقتصادي يؤكدان أن البرنامج الثلاثي فشل في تحقيق حتى المرامي الأساسية التي جاء من أجلها. وهذا يُثبِّت ما قاله الدكتور غازي صلاح الدين حول أن البرنامج عبارة عن ألغاز وفوازير، في إشارة إلى غموض الأهداف والرؤية الكلية. حسناً.. فمن حق الحكومة أن تراهن على ما تؤمن به من برامج خطط، لكن ليس من حقها أن تحاول تسويق ما تم تجريبه، على أساس أنه الضامن لعبور البلاد إلى الضفة الآمنة، تحت دعاوى وحجج أن "الموازنة المقبلة ستخلو من فرض ضرائب جديدة"، لأن الواقع والمنطق الاقتصادي يقول بغير ذلك. بل أن الواقع يقول إن خلو الموزانة المقبلة من الضرائب لن يُنهي الأزمة الاقتصادية، ولن يزيل العبء عن كاهل المواطن، بل أن الأزمة ستظل حاضرة في كل الأحوال، لأن الضرائب المفروضة مسبقاً تعتبر فوق طاقة المواطن، حتى إذا تم تخفيضها إلى النصف. صحيفة (الصيحة)