إن من أكثر الشعارات المطروحة على الساحة السياسية السودانية حالياً شعار " توحيد قوى التغيير"، وهو الشعار الذي طُرح بقوة بعد توقيع الجبهة الثورية وحزب الأمة على إعلان باريس، حيث ورد فيه طرح مشروع توحيد قوى التغيير بشكل محوري، فيما عدا ذلك فإن الشعار مطروح في أدبيات قوى التحالف الوطني وأدبيات الجبهة الثورية وغيرها. يتم طرح هذا الشعار كبديل لتلكؤ النظام أو عدم رغبته أو نكوصه عن السير بجدية في برنامج الحوار الوطني كطريق آمن ومجمع عليه للتغيير. وتقوم فكرة الحوار الوطني على أن الوطن ليس ملكاً لأحد، فرداً أو تنظيماً، حتى يتحكم فيه بمفرده ويقرر وجهته ومصير، حتى وإن كان حزب المؤتمر الوطني الحاكم، فالحوار بشأن مستقبل البلد هو حق للجميع ومنهج آمن وطريق مجمع عليه لإخراج البلاد من مأزقها الحالي في أن تكون أو لا تكون، وأن هذه القوي، قوى التغيير، ستسير في هذا الإتجاه كخط إستراتيجي، برفقة المؤتمر الوطني أو بدونه، أي سواء أن واصل الحوار بجدية أو توقف. لقد قدم إعلان باريس بارقة أمل في إدماج حركات مسلحة إحتجاجية في الأقاليم، وأحزاب سياسية وسطية كبيرة كحزب الأمة، وتنظيمات يسارية كالحركة الشعبية في برنامج توافقي يحدد مستقبل البلاد مما يضمن لها الإستقرار ووقف التنازع، وقد اتفقت الأطراف على التبشير والتعبئة لهذا النهج، كلٌ فيما يليه، لكسب المباركة والتأييد له ولما سيفضى إليه من نتائج، محلياً وإقليمياً ودولياً. إن نجح هذا المسعى فهو سيحقق إختراقاً كبيراً، وذلك بتوحيد المشروعات السياسية التي لا تمتلك أدوات ضغط كافيه (مشروعات الأحزاب السياسية المعارضة)، وبرنامج الحركات الإحتجاجية المسلحة التي لا تمتلك مشروعية سياسية، كما أن هذا سيغير توازن القوة لمصلحة التغيير، وهو الميزان الذي ظل راجحاً لمصلحة استمرار الوضع الراهن، كما أن هذا النهج سيقدم الأمل في أن التغيير يمكن أن يكون توافقياً، في ظل إتفاق مسبق بين كل مكونات الوطن. هذا، ورغم أن شعار "التغيير" المرفوع الآن يجد القبول والإجماع من غالبية القوى السياسية، وحتى من قبل المؤتمر الوطني الحاكم نفسه، إلا أنه لم ينبرى أحد حتى الآن ليحدد ما المقصود ب"التغيير"، وما هي حدوده وشروطه وعناصره. بالتأكيد فإن مفهوم "التغيير" عند المؤتمر الوطني يختلف عنه لدى الآخرين. فإذا كان التغيير لدى المؤتمر الوطني يعني مثلاً تغيير الأشخاص أو الأجيال، فهو قد يعني عند البعض استئصالاً كاملاً للإسلاميين من السلطة والإقتصاد والثقافة، وقد يراه البعض تغييراً من نظام استبدادي قاهر إلى نظام ديمقراطي حر، وقد يريده البعض تغييراً من هيمنة قوى المركز وثقافته إلى نظام لا مركزي يعترف بحقوق المهمشين والضعفاء والأقاليم ورد الإعتبار لثقافاتهم، ويريده االبعض تغييراً للهوية من عريبة-إسلامية إستعلائية إلى هوية متعددة متنوعة، ويريده البعض تغييراً من توجه إسلامي متزمت إلى توجه علماني متحرر، ويريده البعض تغييراً من توجه إسلامي شمولي أصولي إستغلالي للدين إلى توجه إسلامي مستنير ومعتدل يعترف بالآخر (الوطني والديني)، ويريده البعض تغييراً من الديني إلى الوطني.... وهكذا إلى ما لا نهاية من الثنائيات المتناقضة التي مكنت النظام الحالي من استغلالها وطرح شعار: إما إستمرار النظام وإلا فإن البديل هو الفوضى العارمة، وقد ساعده في ذلك الكثير من الأمثلة المعاصرة في سوريا وليبيا واليمن وغيرها... هناك من يكتفي بطرح الشعار (توحيد قوى التغيير) كأيديولوجية توحيدية قوية في وجه النظام، ويصمت عن تحديد المبتغى من التغيير والهدف منه والمآل المطلوب، باعتبار أن كل ذلك يمكن أن يكون حديث تفتيت وتفرقة للمعارضة في الوقت الراهن يخدم النظام؛ بالتالي فهو يؤجل الإجابة إلى ما بعد حدوث التغيير، أو أنه قد يعتبر أن الإجابة هي أجندة المرحلة المقبلة (ما بعد التغيير) باعتبار أنه لن يكون هناك أسوأ مما هو كائن الآن كيفما كانت نتيجة التغيير. وبينما يتمسك البعض بالتحقيق الكامل لأهدافه دفعة واحدة، هناك من يتحدث عن صيغة جديدة لإسقاط النظام سماها الإسقاط بالتقسيط (عبد العزيز حسين الصاوي)، وهذا تدبير لا يخلو من الحكمة والتدبر ولكنه يمكن أن يكون سلاحاً ذو حدين، فمهما صدق أو كذب تقديرنا بأن استمرار الوضع الحالي قد يقود إلى تفتيت السودان وزواله فلن نكون متأكدين من أن التغيير، في ظل هذا الإختلاف، لن يقود لما هو أسوأ من الوضع الحالي. لهذا جاءت ضرورة الحوار الوطني وضرورة توحيد قوى التغيير من باب الحرص على مستقبل الوطن، ما دام أن التغيير قد أصبح حتمياً، ويؤمن به من هو في السلطة ومن هو في المعارضة. وعموماً فإن الإختلافات حول مفهوم "التغيير" وعناصره ومداه كما هو موصوف أعلاه، تجبر"قوى التغيير" على إدارة حوار للإتفاق على مبادئ عامة أساسية. اللافت في الأمر أيضاً، أنه لم يتصد أحد لتعريفنا بالمقصود ب"قوى التغيير" أو القيام بجرد ميداني للواقع السوداني ليضيف أو يستبعد أي من القوى الموجودة، أو تصنيفها على أساس ما إذا كانت "قوى تغيير" حقيقية أم "قوى تخذيل". في حديث لي مع شاب سوداني بسيط متوسط التعليم والثقافة السياسية غير مرتبط حزبياً عن التغيير وقوى التغيير، قال لى: هؤلاء لديهم مصالح مرتبطة بإستمرار النظام ولن يقبلوا بتغيير إلا إذا كان لمصلحتهم، وعندما سألته عن تصنيفه لقوى الساحة على أساس من مع التغيير ومن هو ضد التغيير، قدم رأياً يمكن لى أن أوضحه إختصاراً على النحو الآني: ليس ضمن قوى التغيير: 1. صقور المؤتمر الوطني والأحزاب المتحالفة مع الحكومة 2. القيادات الكثير من القيادات الحزبية الطائفية والعقائدية والقبلية وتلك التي تحاور النظام العليا للحزب الإتحادي قيادة الميرغني 3. قطاع كبير من الصفوة والمثقفين النفعيين والمداهنين للنظام 4. قطاع كبير من الطبقة الوسطى التي خلقها الوضع الراهن وارتبطت مصالحها باستمراره 5. قطاع كبير من الإدارات الأهلية التي تم تدجينها ودمجها في النظام 6. قوى نظامية وشبه نظامية خلقها النظام لحمايته 7. خدمة مدنية موالية وأجهزتها النقابية 8. العديد من منظمات المجتمع المدني شبه الحكومية وشبه الأمنية 9. قوى دينية رسمية وغير رسمية ضمن قوى التغيير 1. قطاع ليس صغير داخل النظام والحزب الحاكم أو منشق عنه 2. الجيل الثاني أو الثالث من الإسلاميين 3. الشباب الساخط عموماً 4. المرأة عموماً غير المنضوية تحت النظام 5. المجتمع المدني (غير المدجن أو الذي خلقه النظام) 6. القوى والمنظمات الحديثة 7. المهجر أو الدياسبورا 8. المعارضه السياسية السلمية بالداخل 9. الحركات المسلحة الشباب وتيارات التجديد في الأحزاب التقليدية ورغم أني قد أتفق أو أختلف مع أجزاء مما ذكر بهذا الشكل الفطير والمتداخل، إلا أنه توجد مؤشرات يمكن الإستعانة بها في هذا الشأن، وأن هذا يمثل رؤية ليس بالضرورة فردية، بل قد تمثل رؤية قطاع كبير من الشباب السوداني للواقع الحالي. وبقدر ما يمكننا القول بأن استمرارية هذا النظام مستحليلة حتى إن أفلح في جمع تحالف للإسلاميين، يمكننا أيضاً القول بأن تجاوزه بالكامل بقفزة واحدة وإحداث قطيعة كاملة، ثقافية وإجتماعية، قد يجبر البلاد على دفع ثمن باهظ. قد يمثل هذا القول للكثيرين قصةً يصعب إبتلاعها أو تجاوزها، ولكن لا بد من تحمل آلام مخاض الإنتقال الآمن. ولهذا فكل من صنف نفسه وأعتبرها ضمن قوى التغيير ينبغي أن لا يتم تصنيفه على غير ذلك وقفل الباب في وجهه مهما كان الرأي فيه والتقييم لمسيرته. إن من مصلحة تيار التغيير أن يكون هو الراجح، بالتالي يجب عدم صد المقبلين عليه وإجبارهم على إختيار خندق مقاومة اتغيير، خصوصاً وأن خيار التفكيك والإسقاط الكامل جعلنا نفقد ربع قرن من أعمارنا دون جدوى ولإعتبارات كثيرة. عبد العزيز الصاوي تحدث عن خطر الإستهانة باحتمال انهيار البلاد الكامل إذا إختفى النظام بين عشية وضحاها، لأن الفاشلين في إدارة السلطة مؤهلين للتخريب إذا ما انتزعت منهم. هذا المنهج، هو الخيار الأمثل للنظام والمعارضة، وأن العقبة الرئيسية الآن أمامه هي ممانعة النظام ورفضه لخيار التغيير الإرادي الآمن، وهو بهذا يعزز ويقوى تيار التصفية والإستئصال الكامل. هذان التياران، حتى الآن، يغذيان بعضهما البعض، ويبرر كل منهما الآخر، وهما ، وللأسف، المسيطران على الساحة السيسية في السودان حتى الآن، وإلى أن يوردان نفسيهما الهلاك ولكن سيهلكان معهما الوطن إن لم تتحرك قوى التغيير وذلك بتوحيد نفسها وتقديم طرحها بقوة وجرأة. [email protected]