مجلس الأمن يعبر عن قلقله إزاء هجوم وشيك في شمال دارفور    أهلي القرون مالوش حل    مالك عقار – نائب رئيس مجلس السيادة الإنتقالي يلتقي السيدة هزار عبدالرسول وزير الشباب والرياض المكلف    وفاة وزير الدفاع السوداني الأسبق    بعد رسالة أبوظبي.. السودان يتوجه إلى مجلس الأمن بسبب "عدوان الإمارات"    السودان..البرهان يصدر قراراً    محمد صلاح تشاجر مع كلوب .. ليفربول يتعادل مع وست هام    أزمة لبنان.. و«فائض» ميزان المدفوعات    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    شاهد بالفيديو.. نجم السوشيال ميديا "أدروب" يوجه رسالة للسودانيين "الجنقو" الذين دخلوا مصر عن طريق التهريب (يا جماعة ما تعملوا العمائل البطالة دي وان شاء الله ترجعوا السودان)    شاهد بالفيديو.. خلال إحتفالية بمناسبة زواجها.. الفنانة مروة الدولية تغني وسط صديقاتها وتتفاعل بشكل هستيري رداً على تعليقات الجمهور بأن زوجها يصغرها سناً (ناس الفيس مالهم ديل حرقهم)    اجتماع بين وزير الصحة الاتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    شاهد بالفيديو.. قائد الدعم السريع بولاية الجزيرة أبو عاقلة كيكل يكشف تفاصيل مقتل شقيقه على يد صديقه المقرب ويؤكد: (نعلن عفونا عن القاتل لوجه الله تعالى)    محمد الطيب كبور يكتب: السيد المريخ سلام !!    حملات شعبية لمقاطعة السلع الغذائية في مصر.. هل تنجح في خفض الأسعار؟    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سبيل الدموستنارة ( الديموقراطية-الاستنارة ) قراءة في كتاب "ديموقراطية بلا أستنارة " لعبد العزيز الصاوي " 3 – 3 أبو بكر عبد الله ادم

الجزان الاول والثاني شرحا رؤية الكاتب حول الجذور العميقة لازمة التطور ممثلة في تضعضع الوزن النوعي للقوي الحديثة صانعة التقدم والديموقراطيه، ومن ثم هيمنة الاسلاميين علي المجتمع والسلطه، اساسا بسبب تدهور الاقتصاد والنظام التعليمي. بناء علي هذا يقترح عبد العزيز الصاوي استراتيجية تقوم علي ضرورة تضمين العمل المعارض للنظام مكونات بأتجاه بعث الحياة في هذه القوي في مجالي الاصلاح التعليمي وتنمية المجتمع المدني باعتبار أن المصدر الأساسى لتطور العقلية السودانية التقليدية نحو الحداثة ونشوء الكتلة التاريخية كان النظام التعليمى العصري . اما المجتمع المدنى اللا سياسى فأهميته ترتبط بكونه المصدر الأساسى المتاح حاليا للتدريب العملى على السلوك والوعى الديمقراطي. وبالنظر لعمق الازمة وتشعبها فأن مؤلف الكتاب يري ان قوي التغيير الديموقراطي تحتاج الي روافع مساعدة خلال المرحلة الاولي من عملية احياء القوي الحديثة وتفكيك البنية التحتية للنظام الحالي وهما التحالف الثقافي مع الغرب والتواصل مع بؤر الاسلاميين التي خرجت موضوعيا واحيانا فعليا من المجري الرئيسي للحركه .
ثالثا: ملاحظات نقدية:
فى الصفحات السابقة حاولنا قدر الامكان تقديم قراءة استنساخية لمضمون كتاب الاستاذ عبد العزيز الصاوى ( محمد بشير ) والذى احتوى على افكار جريئة اثارت مناقشات هامة فى الوسط السياسى والفكرى . وهو بذلك يعتبر مساهمة حقيقية فى توليد الاستنارة بغض النظر عن قراءتنا الخاصة لمضمون الخطاب السياسى الذى ينطوى عليه الكتاب. فى هذا الجزء الاخير سوف احاول ابداء بعض الملاحظات حول خطاب الصاوى فى ثلاث جوانب متكاملة: منهج التحليل وفرضياته, المضمون السياسى للخطاب واشكاليته.
من حيث المنهج يلاحظ ان مقاربة الكاتب السوسيولوجية لازمة الديمقراطية قد مكنته من لمس المسببات القاعدية للازمة مما سمح بالتوصول الى نتائج صحيحة ولكنها مرعبة حول العمق الاجتماعى للسلطة. وهى نتيجة يدعمها حال العمل العام فى الجامعات والمجتمع المدنى كما اوضح الكاتب فى مواضع عديدة فى الكتاب وان كانت لا تروق للمعارضة لانها تمنح السلطة مبررا لادعاء شرعية سياسية باعتبار ان الأخيرة فى التحليل النهائى ما هى الا في القبول بحكم الشعب. الواقع يؤكد ما خلص اليه الكاتب فى ان القوي الحضرية الحديثة زادت كما وتقلصت كيفا واصبحت ارضاً خصبة للاسلام الخام بعد ان كانت ركيزة للحركات اليسارية وتيارات التجديد فى أحزاب الوسط واليمين( ص16).
وبالرغم من ان مقاربة الكاتب اتسمت بالعمق فى التحليل كما ان استخدامه القوى التقليدية والقوى الحديثة كمفاهيم تحليلية هى فى تقديرى اكثر تعبيرا عن طبيعة المجتمع السودانى مقارنة بمفاهيم اخري شائعة فى الخطاب اليسارى مثل المفاهيم الطبقية وغيرها , الا ان عدم التحديد الكافى لبعض المفاهيم وعدم ربط المحدد السوسيولوجى بتحليل النظام الفكرى والثقافى الذى يكشف الافق الابستمى الذى يحدد صياغة الرؤى والتصورات حرم القارئ من ابعاد هامة فى مسببات الازمة.
من اجل المساهمة فى النقاش الذى فتحه الكتاب وخطابه المسيطر نحاول تقديم رؤية حول تطور البنى الاجتماعية التى شكلت العقل السياسى السودانى فى نقطة اولى قبل تناول الافق الابستمى الذى يحدد مقولاته ويصوغ مفردات خطابه .
أ- السياق التاريخى لتشكل البنى التقليدية والحديثة
بالنسبة للمفاهيم يلاحظ ان الصاوى اعتمد على مفهومى البنية التقليدية الريفية والبنية الحضرية المدنية والطبيعة المتعارضة لهما ولعقليتهما. ولاهمية هذين المفهوميين فى كشف جذور أزمة الديموستنارة نقوم بتحديدهما ومضامينهما السياسية والفكرية باعتماد مقاربة تاريخية لتشكلها وصيرورتها .
1- جدلية البنى القبلية والطائفية :
البنى التقليدية الريفية بمرتكزيها الطائفى والقبلي تتمايزان من حيث طبيعة الروابط بين اعضائها كما انهما كانتا تاريخيا فى حالة تعارض وتصادم اذ ارتبط ظهور الطوائف بتخلخل الروابط القبلية القائمة على النسب والدم وإعادة صياغتها فى روابط اوسع تقوم على الولاء الدينى الشعبى او الصوفى كما هو موضح ادناه.
تاريخيا كانت الوحدة الرئيسية للتنظيم الاجتماعى والسياسى حتى القرن الخامس عشرهى الوحدات القبلية حيث كانت كل منها تشكل وحدة اجتماعية سياسية تحمل قيمها الخاصة وثقافتها "ايديلوجيتها" وعقليتها المتميزة. كانت التناقضات فى وبين وحدات المجتمع القبلى تتحدد وتحسم من خلال الصراعات والتسويات . و التراتبية داخل القبيلة الواحدة، او الأتحادية القبلية، الناتجة عن توزيع السلطة والثروة بها, تاتى فى درجة ثانوية لا تسمح بالحديث عن تناقضات جوهرية بين ابناء القبيلة الواحدة على اساس طبقى بالاعتماد على علاقات الانتاج وادواتها. وبالتالى تتحدد القيمة الأجتماعية ومكانة الأنسان فى سودان المجتمع القبلى حسب قوة القبيلة ومكانتها بين القبائل الأخرى لأن العلاقات الأجتماعية مبنية على الولاءات والقرابة انطلاقا من "ايديولوجيا" ألانتساب الى جد واحد وان العالم فى عقل القبلى جد محدود اذ لا يتعدى دياره وقبيلته ومن ثم فهو لا يعى الا بيئته التى لا يستطيع انفصالا عنها حتى ذهنيا, فليس للاخر وجود لديه بل ان الفرد نفسه لا يستمد تقييمه لذاته من حيث هو فرد ولكن لمجرد كونه عضوا لجماعة ينتمى اليها و يتماهى معها ويلتمس حمايتها. فهو بذلك يذوب فيها. هذا على المستوى الاجتماعى، اما على مستوى النظام الفكرى السائد فان البنية القبلية تسود فيها العقلية الجماعية وتشتغل على أوالية ( ميكانيزم ) الاقصاء والأحتواء وهى عقلية تقوم فى بنيتها العامة على الاسطورة والخرافة. أما السلطة السياسية داخل هذا النسق الاجتماعى السياسى فهى باترومونيالية سلالية يندغم فيها الدينى احيانا ولكن فى الغالب يتمايز هذا الأخير الذى كان يحتكره ممثل الاله أشيك او الكجور او الشيخ والفكى او غيرهم.
وبسبب التطورات السياسية والأجتماعية فى السودان منذ القرن الخامس عشر التى حركها تزايد انتشار الاسلام والهجرات العربية عبر البوابة الغربية بدأ التمايز بين الجنوب- الذي حافظ لحد كبير على بنيته القبلية سياسيا واجتماعيا -والاجزاء الشمالية التى ظهرت فيها ممالك قبائلية مركزية (فور. مساليت. فونج ...) تجاوزت سلطتها والمجال الجغرافى لممارساتها القبيلة الواحدة. وكما بدا منذئذ المجال الدينى والرمزى يستقل اكثر واكثر عن المجال السياسى بسبب ضعف التكوين الدينى للقيادات السياسية على مستوى جهاز الدولة والزعماء القبليين الشئ الذى أدى الى بروز دور فقهاء السلطة مركزيا وفقهاء الكرامات والشفاعات على المستوى الشعبى. ومع تزايد جاذبية الممالك السودانية لرجالات الدين من العالم الاسلامى فى تلك المرحلة التى شهدت انحدار الحضارة الأسلامية فى مراكزها, بدأت بنى اجتماعية جديدة تتشكل منبنية على الدينى وتعمل على زحزحة البنى القبلية وثقافتها وعقليتها . فقد وجد مشايخ الطرق الصوفية من الأحترام والتأييد ما مكنهم من بسط نفوذهم خارج الأطر التقليدية للقبائل ليخترق الولاء الصوفى الولاءات القبلية وبالتالى تمتد سلطات الشيخ الى افاق جديدة خارج التقيسيمات القبلية التقليدية الشئ الذى ادى الى ظهور تجمعات طائفية اساسها الولاء لشيخ الطريقة "فى اطار العقيدة الأسلامية والمذهب المالكى". ومن ثم كان الولاء للطريقة ارحب من الولاء القبلى الضيق. وقد حايث هذا التغيير على المستوى الأجتماعى تحولات فى دلالات بعض الرموز الاجتماعية كما بين ذلك د. يوسف فضل فى دراسته حول الشلوخ. والاهم من ذلك حايثها تغيير فى العقليات و الافق الابستمى العام. هكذا افرزت حركة التطور التاريخى انذاك فواعل اجتماعية ذات طموح سياسى تعتمد على المقدس كمصدر مادى ورمزى تسعى به لتقويض رابطة القرابة القبلية رغم انها قد تلونت بمحيطها القبلى وتشبعت منذ تشكلاتها الاولى بمحتوى قبلى واقليمى واضحين كما هو ظاهر حتى الان فى الخارطة الطائفية السودانية. فالطوائف بذلك شكلت وحدات اجتماعية اكثر تطورا من القبيلة حين وضعت الولاء الدينى بديلا عن القبلى الشئ الذى يسمح بالقول ان الطائفية الدينية فى عمقها ومنطقها الداخلى هى تجاوز ونفى للقبلية ورابطها. وكان من الممكن ان يحسم هذا التناقض لصالحها لولا تسارع الأحداث بتأثير خارجى منذ العقد الثانى من القرن الثامن عشر لتحول دون نضوج شروط هذا التناقض وحل عقدته اجتماعيا ثم سياسيا بقيام دولة صوفية او شرفاوية كما حدث فى ارجاء اخرى من العالم الأسلامى مثل مغرب القرن السابع عشر.
ومع تزايد انتشار الطُرقية والطائفية الذى تزامن مع ظهور فئات التجار كفئات بدأت تستقل نسبيا عن كل من الطائفية والقبلية ولكن دون الانفكاك عنهما, بدأت السلطة المركزية فى سنار تتفكك قبل انهيارها النهائى عام 1821. فالطائفية نجحت فى نشر الاسلام وتوطين ايديولوجيا كشفية باطنية توافق الديانات المحلية التى تؤمن بوجود قوى خفية غامضة تسير حياة المجتمع(روح دينج عند الدينكا وروح الاسلاف التى يتقمصها الكجور عند النوبة...الخ). وبذلك نجحت فى طرح التفكيك فى روح القبيلة تمهيدا لطرح التركيب البديل ولكن قبل ذلك انهارت دولة الفونج كبرى الممالك القبلية السودانية تحت ضربات الغزو التركى المصرى الذى تزامن مع الحمية الأستعمارية النامية فى اوربا التى انقشعت عنها الظلامية وكذلك بسبب تزايد النشاط التجارى فى السودان مع افواج "الجلابة" الوافديين.
وبقيام الحكم التركى المصرى بمفاهيمه وقيمه السياسية والدينية التى تجاوزت الولاءات التقليدية بطرح ولاء دينى رسمى، دخل التطور الاجتماعى مرحلة جديدة انطوت على تغييرات اجتماعية واقتصادية هامة. فقد وفر الكيان المركزى القوى ارضية مواتية لتزايد النشاط التجارى المتزاوج مع التبشير الدينى الاسلامى الرسمى وبالنتيجة ظهور فئات اجتماعية اصبحت زبناء موضوعيين لبعض الطرق الصوفية التى استطاعت بهيكليتها وبعض مظاهرها الجذابة ان تستقطبهم اليها لتدعيم نفوذها الدينى, كما وجدت فيها هذه الفئات سندا لتدعيم مراكزها الأجتماعية والأقتصادية. وقد ساهم التنافس الأقتصادى والتجارى فى ترسيم خارطة الولاءات الطائفية فى بعض أرجاء البلاد وبامتداد النشاط التجارى الى تجارة الرقيق وجدت اولى العقبات امام تفاعل العقل السياسى الجنوبى مع الممكنات التوحيدية المتعلقة بالشخصية العربية الأسلامية والتى يبدو أن جهود الوحدة فى سودان تكسرت عندها الان مع ظهور دولة فى الجنوب ومناورات الكونفدرالية التى ينادى بها بخجل بعض الفواعل فى دارفور وغيرها.
2- , القوى التقليدية, ألاسلام الرسمى والمهدية:
ومع توطد الحكم التركى وتمأسسه ظهر بجانب الاسلام الشعبى - بطرقه المختلفة- اسلام رسمى بمؤسساته ومجالاته (مؤسسة دينية من العلماء, مجلس افتاء بالخرطوم ومجالس قضائية محلية) وبالنتيجة ظهر تمايز بين العقلية الباطنية الصوفية والعقلية السنية السلفية. غير ان هذا التمايز لم يصل فى بدايات العهد التركى الى تناقض واضح بين المجتمع وايديلوجيته الباطنية الكشفية والسلطة المركزية بايدلوجيتها السنية السلفية. وقد حاولت الطائفية الدينية استثمار النظام الابستمى الذى وفر لخطابها زبناء اجتماعيين وسياسيين لحل التناقض لصالحها عندما دعا الشيخ السمانى محمد شريف نور الدائم الى تأسيس سلطة بديلة عن الاتراك وتأسيس كيان سودانى صوفى بعد توحيد صفوف قادة الطرق الصوفية. ولكن المحاولة فشلت بسبب نشوء الصوفية على الأستلاب الغيبى الكامل لذوات اعضاءها مما جعلهم زاهدين عن السلطة والزعامة السياسية.
وبفشل فكرة تحقيق اجماع قادة الطرق الصوفية كان العقل السياسى مطالبا بأستثمار القوة الروحية- ولكن بتجاوز سلبية الأستلاب الغيبى- بصياغة مقولات نابعة عن المجتمع وقادرة على تدشين عملية التغيير السياسى الذى نضجت شروطه الأجتماعية والفكرية والسياسة. وهو ما قام به الأمام محمد عبدالله المهدى بعد ان تمكن من التقاط فكرة المهدى المنتظر من المخيال الاجتماعى السودانى وصياغتها برنامجا وشعارات, وتقديمها للناس, ثم تولى توجيه الأحداث وادارة الصراع. وبذلك نجح فى تجسيد الوعى المجتمعى وطرح ايدلوجيته. وخاضت الثورة المهدية صراعا أيدلوجيا مزدوجا, ضد الأسلام الرسمى من جهة, وضد بعض الطرق الصوفية من جهة ثانية. وباستخدامه لايدولوجية باطنية فى معركته الأولى استطاع الأمام المهدى أخذ زمام المبادرة من العلماء الرسميين فى مجتمع مشبع بالغيبيات والروحانيات الصوفية والأستشراف .وبالأعتماد على مقولة الجهاد بمضامينها الثورية فى بيئة نضجت فيها شروط الفعل الثورى كسب الأمام رهانه ضد الطوائف السلمية والمتعاونة مع الأتراك والمتشككة فى مهديته. وبذلك تحولت الثورة المهدية الى حركة ثورية تعتمد على ولاء الأنصار الدينى. وبعد اعادته لانتاج الرمزية النبوية- كما تفعل كل الحركات المهدوية- بهجرته الى الغرب ونجاحه فى كسب ولاء قبائله, تمكن المهدى المنتصر من التوجه شرقا وتقويض السلطة التركية وتاسيس دولة مركزية فى السودان. ولأن طائفة ألأنصار قد حققت مشروعها السياسى باحتضان القبلية دون تذويبها فى اطار ولائها الأوسع, فقد تداخلت وتعايشت ولاءات ثلاث فى اطار الدولة المهدية (قبلى وطائفى وامّوى،نسبة للامة الاسلاميه). وهذه الولاءات بمرتكزاتها الأجتماعية وعقلياتها كانت وراء مختلف العمليات والرهانات السياسية التى تجرى منذ أكثر من قرن، وحتى الان لم ينفك العقل السياسى السودانى من تأثير هذه الولاءات المتعارضة والمتعايشة فيه, حيث انها تغذيه وتفسر وصف ألأستاذ الصاوي للعقل السياسى الراهن بانه "عقليات تخفى وراء حداثتها الشكلية نزوعات تقليدية غالبة"(ص178) وهى ولاءات تتعايش فى كل القوى السياسية التقليدية التى اكتست اطارا حزبية حديثا. المهم فى الحقبة المهدية التى كان القوى التقليدية تلعب فيها دورا رائدا كان الوزن النسبى لهذه الولاءات يتغير حسب شروط المرحلة, فالولاء الطائفى كان المتغير الحاسم فى مرحلة النقاء الثورى والتأسيس للمهدية كما يتضح من شروط الأنصارية وقاعد تسمية الخلفاء واواليات تداول السلطة. غير ان الغياب المبكر لمؤسس الدولة وشراسة الهجمات الاستعمارية على افريقيا بعد مؤتمر برلين أديا الى تراجع الولاء الطائفى لصالح الروابط القبلية الاكثر رجعية ، وان كان الخطاب السياسى لا يحمل مفردات قبلية صريحة على الأقل عند مقارنتها بما يقال فى سودان اليوم. اما بالنسبة للولاء الأمّوى فقد تمثل فى خطاب الدولة لتوحيد الأمة الآسلامية تحت راية المهدية من السودان كقاعدة للفتح الاسلامى ومنذئذ بدأت النزعة السلفية للعقل السياسى السودانى التى تحولت تدريجيا الى عقل سائد انبنى عليه الخطاب السياسى للنخبة الحاكمة اليوم والذى لامس فى نفس الوقت اوتارا حية لدى الطائفية الدينية والسياسية وقياداتها بما فيهم قيادات حداثوية نهلت الحداثة من ينابيعها الأساسية فى أوكسفورد والسوربون وهارفارد وغيرهم .
ولتقعيد الاحداث والخطابات فى سياقاتها لا نتردد فى القول بأن النزعة السلفية فى السياق السودانى عندئذ كانت نزعة ايجابية اذا ما تم النظر اليها فى سياقها التاريخى العام. فالمهدية جاءت ضمن الأنحدار الحضارى الأسلامى العام وفى وقت ما زالت فيه تجربة الدولة ألاسلامية حقيقة حية. فقد حاولت من خلال ايدلوجيتها السلفية الاصلاحية تجاوز الحركات الصوفية وايدلوجيا الاسلام الرسمى برهان ذكى على قيادة الأمة وتوحيدها ( دلالة اختيار السنوسى الليبى خليفة ثالث لمهدى), واستخدام المهدى لفكرة الأنتساب لال البيت الذى قوى من فرصه وشرعيته كأمام شريف هو ما اعطى للثورة المهدية بعدا عربيا وكان سببا ونتيجة لاندراجها وتأثرها بحركات الأصلاح الدينى التى ظهرت فى القرن التاسع عشر واتخذت عمقا قوميا واسلاميا واضحا . فالحركة المهدية من هذا المنظور ربما يمكن النظر اليها كجزء من حركة النهضة العربية فى مصر والشام سواء من حيث اصول فكرها او اهدافها السياسية او حتى قواعدها البشرية (ثقافيا لا اثنيا). وهذا التوجه القومى للحركة المهدية أدخل رافدا اخر للعقل السياسى السودانى سيبقى تأثيره متزايدا منذئذ وحتى الآن. بمعنى أن العقل السودانى سيبقى معنيا بقضايا محيطه العربى ومقيدا بالنظام الفكرى السائد فيه كما يتضح بتصفح الخارطة السياسة والأيدولوجية للفواعل التى تتسرب من الخطاب القومى والخطابات المتعارضة او المتناقضة معه.
3- الاستعمار والقوى الحديثة:
مثلما حال الغزو التركى المصرى دون نضوج شروط التناقض وحله ذاتيا, كذلك حالت الصراعات والمؤامرات الخارجية دون وضوح وتكريس نموذج الدولة المهدية وتحقيق مقولاتها على أرض الواقع. فالاستعمار البريطانى أدى الى تقويض عملية التطور الاجتماعى ومن ثم تشويه العقل السياسى بقدر ما إنه ساهم فى توفير الشروط اللازمة لظهور القوى الحديثة حاضنة التغيير بتعبير الأستاذ الصاوى. ففى المرحلة الاولى عمل الاستعمار على تقويض ركائز الطائفية التى كانت تقود المعارضة بالحركات المهدوية والعيسوية(نسبة للنبى عيسى) التى ظهرت فى العقديين الاوليين للحقبة الأستعمارية,, وذلك قبل ان يعود للتحالف معها- اى الطائفية - التى تحالفت بدورها مع القبلية عندما بدأت ارهاصات صعود القوى الحديثة منذ عشرينات القرن السابق كما يؤكد الصاوى فى اكثر من موضع فى الكتاب . فالاستعمار قد قام بتحديث البنيات الأجتماعية والسياسية والاقتصادية لضروراته الذاتية, ولكنه مع ذلك كان غير مستعد للقبول بالنتائج المنطقية لعملية التحديث. فالتحديث افرز فئات اجتماعية حديثة غير ان وعيها الديمقراطى هو نتاج لعوامل اكثر تعقيدا من المدخل التحديثى الذى انبنت عليه اطروحة الصاوى. فهو من جهة نتاج تصادمها مع الوعى التقليدى بعد تحالف القبلية والطائفية ومن جهة ثانية نتاج الصراع مع الاستعمار وحلفائه من القوى التقليدية من اجل التحرر . كما انه ايضا نتاج للتفاعل مع حركات التحرر الوطنية المصرية والتحولات الدولية. بمعنى اخر ان التحديث الاستعمارى وفر دعائم الديموستنارة من تعليم حديث ومهن عصرية واحتكاك مع الخارج ( ثلاثية الصاوى التى سوف نعود اليها فى الفقرات الاحقة). ولكن هذه الدعائم لم تكن كافية لتفجير وعى ديموستنارى ( ديموقراطي – استناري ) قادر على خلق تيار وثقافة جديدة بالرغم من ومضات مضئية ظهرت فى عشرينات القرن الماضى من خلال منتديات وخطابات القوى الحديثة (الاتحاد السودانى, اللواء ألابيض, جمعية ابوروف, الفجر, المسرح الخ) ووصل لحد رفع "مطالب الشعب السودانى" وتفجير ثورة اللواء ألأبيض عام 1924. ان انحسار هذه القوى وتراجعها منذ السبعينات لم يكن نتاج الزلزال الاقتصادى والاجتماعى والسياسى الذى تحدث عنه الصاوى واوردناه فى الجزء الأول بقدر ما هو نتاج لضعف تكوينه الذاتى الذى كشفة الزلزال. فالقوى الحديثة بفئاتها المختلفة لم تستوعب مقولات الاستنارة وتتمثلها للدرجة التى تجعلها قوى تغيير جذرى فى المجتمع لانها كانت وما زالت تعتمد على القوى التقليدية. ولذلك اصبح عقلها مشبعا بمقولات الخطاب التقليدى الذى كشفنا بعض جوابه سابقا.
ب- ألاستنارة ومعوقات النظام الفكرى السائد
الخلفية التاريخية التى اطلنا فى تحليلها ضرورية لمعاينة مسببات الأزمة التى تمثلت فى فشل النخب الحديثه وعجز عقلها السياسى المشدود الى الماضى عن قراءة الواقع فى حركيته والعمل على تجاوزه بصياغة رؤى وخطاب سياسى استنارى قادر على التغيير فى اتجاه الديموستنارة. وهى ايضا مقدمة اساسية للوقوف على البنى الفكرية والثقافية التى افرزتها وشكلت نظاما معرفيا حال دون توليد تيار استنارى. ان القوى الحديثة التى تشكلت فى السنوات الأولى من الحقبة ألأستعمارية لم تتمكن من خلق قطيعة مع العقل التقليدى بأفقه الدينى الفقهى او تصفية الحساب مع ركام التصورات والفعاليات الذهنية التقليدية القبلية والطائفية. فالنظام الفكرى التقليدى الذى كان سائدا كعقل مكوّن بالمعنى الذى يعطيه له اندريه لالاند هو الذى كان وما زال يوجه القوى الحديثة وليس التصورات الاستنارية التى اتت مع الاستعمار. واغفال هذا الجانب فى تحليل الأزمة فوت على الكاتب اداة تحليلية هامة لكيفية تشكل العقل السياسى للنخب السودانية وتشيكل الياته فى انتاج خطاباته. والنظام المعرفى فى ثقافة ما-كما يقول الجابرى- هو بنيتها اللاشعورية التى تشكل لدى المنتميين لهذه الثقافة اللا شعور المعرفى الذى يوجه,بكيفية لا شعورية رؤاهم الفكرية والاخلاقية ونظرتهم لانفسهم وغيرهم. هذا اللاشعور المعرفى له زمنه الخاص وهو زمن متداخل ومتموج يمتد على شكل لولبى الشئ الذى يجعل مراحل ثقافية مختلفة تتعايش فى نفس الفكر وبالتالى فى نفس البنية العقلية كما تتعايش فى غياهب اللاشعور النفسى الرغبات المكبوتة المختلفة الراجعة الى ازمنة نفسية وعقلية وبيولوجية مختلفة يمكن لتصورات او معتقدات او مفاهيم تنتمى الى مراحل سابقة ان تعيش فى مرحلة تالية مع مفاهيم جديدة لتشكل الهوية الثقافية للمرحلة الجديدة(الجابرى:تكوين العقل العربى ص41). حيث ان الافق الابستمى او النظام الفكرى الذى كان وما زال سائدا يخلق شروطا تعجيزية فى انتاج فكر تنويرى بشروط انسانية قادر على وضع مفاهيم وتصورات قيمية وثقافية تضبط علاقات المجتمع على مستواه الأفقى بدرجة اكثر عدالة وفى نفس الوقت قادر على توازن السلطة رأسيا. فالنظام المعرفى الذى يعبر عن البنية الفوقية للتحولات الاجتماعية التى تابعناها سابقا كانت منذ بدايات القرن المنصرم وحتى الان تتعايش فيه تصورات طائفية وقبلية وسلفية جنبا الى جنب مع الافكار التنويرية وهو ما جعل عقل القوى الحديثة ليس عقلا حديثا بل هو عقل تقليدى مغلف ومطعم بمفاهيم وقيم قبلية وطائفية واسلامية سلفية افرزتها حقب ثقافية وتاريخية سابقة. هذا ما يمكن ملاحظته بتحليل مؤتمر الخريجين وانشقاقاته وتحالف بعض رموزه مع الطائفية وكما يمكن تأكيده من استمرارية الاحزاب الطائفية (الحديثة) كاهم فواعل الحقل السياسى السودانى ماضيا وحاضرا. و هذا ايضا ما يفسر قدرة الخطاب الاسلامى الخام لاستقطاب قطاعات واسعة وسط النخب المتعلمة. ان تعايش التصورات والقيم التقليدية مع القيم الحداثية فى المجتمع وعقل فواعله ونخبه دون حدوث قطيعة ابستمولجية تفتح المجال لتيار استنارى هو ما يفسر سودانيا ظاهرة ما اسماه الجابرى "الترحال الثقافى و "المثقفين الرحل الذين يرحلون عبر الزمن الثقافى من المعقول الى اللا معقول ومن اليسار الى اليمن بسهولة تكاد لا تصدق". باعتبار ان ترحالهم خطى "ومن كتبت عليه خطى مشاها"
صحيح ان نخب اليسار السودانى التى استفادت من التحديث قطعت اشواطاً هامة فى سبيل تمثل الاستنارة منذ بداياتها الأولى غير انها لم تكن خطوات كافية لخلق تيار استنارى يخلق قطيعة مع النظام السائد كما يظهر من تردداته وتذبذباتها الفكرية . وقد ساهم تحالف القوى التقليدية مع قطاع هام من المتعلمين، بجانب التدخلات اللا ديمقراطية وضغوط الأنظمة العسكرية، في اجهاض الممكنات التنويرية لدى هذه النخب. والصاوى يشير الى ذلك بقوله : " فى ظل واقع متخلف تاريخيا اصلا,اى لم يمر بمخاض تنوير نهضوى جذرى يصحح علاقته بتراثه,تفضى تراكمات هذه النوعية من الضغوط(= ضغوط الأنظمة الاحتكارية) الى تجريد الأنسان من أهم مكتسبات الوعى الحديث, وهو قابلية التحرر من اسر التقليديه,فتنحل عقلية وسلوكيات اغلبية النخب نفسها تدريجيا وبمرور الزمن الى اطرها القبلية والطائفية. هذا هو تفسير ما حدث ويحدث فى العراق والسودان لا سيما عندما اضيف الى هذه الضغوط ضخ المادة الدينية فى الفضاء العام بكثافة (ص250). 1
ان تكوين عقلية الفئات الحديثة ونخبها هو المسبب الرئيسى للأزمة ولا يمكن الخروج منها الا بكشف العقدة الذهنية وحلها. دخول السودان دوامة الأزمات ليس كما يرى الصاوى نتاج لتعطل دور النخبة التطويرى للمجتمع نتيجة استنزاف وقودها التنويرى( ص326 ) بل ان النخبة السياسية لم تتمكن اصلا من امتلاك عقل مستنير يقطع مع التقليد والسلفية الدينية، والاستنارة كانت دائما امكانية وحلم ولم يكن واقع . كل ما توفر هو ممكنات تنويرية وتحديثية بفضل التعليم والبنى الحديثة والقطاعات المرتبطة بهما. لقد كانت النخب اليسارية هى الأكثر تأهيلا للتفاعل مع هذه الممكنات غير ان النظام الفكرى السائد كان من القوة التى تمنعها من الدفع بوعيها الاستنارى وافقها التغييرى لنهاياتها المنطقية. وبالرغم من وجود افراد مثل " معاويه محمد نور استوعب منتجات الفكر الغربي بأفق إيجابي ونقدي معا" لم يظهر تيار حداثى ذو ملامح واضحة تدفع فى اتجاه الليبرالية السياسية, " النظام الفكرى المتكامل الذى تكون فى القرن السابع عشر والثامن عشر والذى حاربت به الطبقة البرجوازية الاوروبية الفتية الأفكار والأنشطة ألاقطاعية." ولكن مع ذلك نرى حل الأزمة هو كما فى طرح الصاوى لعصر تنوير سودانى يتم تدشينه بتفجير الممكنات الديموستارية فى الفئاات الحديثة من خلال ثورة علمية على مستوى بنية الفكر, بمعنى تحولات ابستمولوجية تقوم بخلخلة ثم تقويض النظام المعرفى السائد. وكذلك اجتماعيا بتنشيط وتطوير منظمات المجتمع المدنى واصلاح النظام التعليمى وتوسيعهما افقيا من اجل تنمية وعى ديمقراطى لأن الديمقراطية تقتضى ان يكون الشعب متنورا من خلال طرق واساليب معينة كالتعليم والمناقشات العامة. وبذلك تكون المهمة مزدوجة فمن جهة الحاجة ملحة لتفكيك الاسس التى يقوم عليها العقل السياسى السودانى ومن جهة ثانية تدشين مرحلة جديدة قائمة على العقلانية.
ج- حدود استراتيجية الصاوى :
ان الاستاذ الصاوى بحكم سيطرة الهم الديمقراطى بمفهومه الليبرالى على خطابه يبدو انه مستعد لتقديم اى ثمن من اجل استعادة ديمقراطية راسخة ومتجذرة شعبيا. غير ان طبيعة هذا النظام الذى استفاد من كل التجارب السابقة,البرلمانية والعسكرية بدرجة من المكر تمكنه من قبض الثمن بدون تقديم اى شى بالمقابل. ان مقاربة الصاوى لموضوعة التغيير تقوم على فرضية وجود دعائم اجتماعية قوية للنظام ولذلك صاغ خطابا اصلاحيا لا جذريا كما انه يسكت عن المعوقات التى تفرضها السلطة القائمة. وهى من جهة ثالثة تقوم على فرضية ان التحول الديمقراطى يمكن ان يتم بالتدريج عن طريق تنمية الوعى الديمقراطى فى ظل النظام الراهن.
يقول الصاوى بأمكانية العمل فى نطاق الشرعية السياسية الراهنة من اجل تقويضها تدريجيا بسحب القاعدة الاجتماعية التى يعتمد عليها النظام عند نجاح عملية الديموستنارة فى اعادة الحيوية المفقودة للقوى الحضرية المدينية. والصاوى يرى بصعوبة او استحالة ازالة النظام الراهن بالاعتماد على اساليب التغيير السابقة بسبب تغلغل السلطة الظلامية فى المجتمع. بالرغم من القابلية العالية للخطاب الاسلاموى المشبع بمكبوبات تقليدية بسبب النظام الفكرى السائد الذى يتغذى بالخطاب الاسلامى ويغذيه بشكل استرجاعى الا ان تغلغل السلطة الاسلامية فى المجتمع قابل للنقاش. ان نفس البنى الاجتماعية المشوهه ونظامها الابستمى الذى وفر القاعدة للسلطة الظلامية المعتمدة على الدين الخام المشبعة بتصورات وقيم تقليدية عادت بقوة الى الحقل السياسى ووفرت قاعدة لقوى معارضة عزفت على هذه القيم التقليدية كما يظهر جليا فى الحركات المسلحة فى ارجاء البلاد الاربع. ان قدرة هذه الحركات فى زعزعة سلطة النظام سياسيا واجتماعيا لا يمكن انكارها مما يعنى ان حيويتها الاستقطابية عالية. وليس صحيحا القول بان هذه القوى تعتمد على الفئات الريفية فقط حيث ان قاداتها وكوادرها بالاضافة لجزء مقدر من قواعدها هم من الفئات المدينية التى حظي البعض منهم بتعليم جيد ووظائف عصرية بالاضافة لاحتكاكهم بالخارج بدرجات متفاوتة. فسياسة التجهيل والتفقير التى مارستها السلطة الظلامية بقدر ما انها جففت منابع القوى الديمقراطية قد فجرت مكبوبات الروابط التقليدية التى شكلت هويات واطر تهدد وجودها. وتعامل السلطة مع هذه الحركات بجدية اكبر من تعاملها مع القوى الديمقراطية السلمية تعبر عن درجة التهديد الذى يشعر به النظام. وفى ظل النسق المعرفى السائد لا غرابة ان تكون ابرز مهددات النظام هو حركة العدل والمساوة التى يتشكل خطابها من توليفة خطاب دينى خام ولاء قبلى ضيق وانغلاق جهوى واضح.
اذا ما جانبنا الصواب فى تقدير قوة النظام واتفقنا مع الصاوى بانه متجذر اجتماعيا تصبح مقاربة الاصلاحية المعلنة للتغيير والتى تقوم اساسا على اصلاح التعليم وتنمية هيئات المجتمع المدنى عبر التعبئة العامة صعبة التحقق ان لم نقل مستحيله. فالنظام الراهن استفاد من كل التجارب السابقة-العسكرية والبرلمانية وطنيا وخارجيا- لبناء سلطة ايدلوجية مسنودة بقدرة عالية على استخدم العنف بكل اشكاله. فالنخبة الحاكمة التى حظيت بتكوين نظرى عالى وتدريب سياسى طويل ومكثف قادرة على هندسة الاوضاع السياسية بكيفية تجعل مشروع التنوير بهدفيه ورافعتيه والذى يؤدى الى تقويض دعائم سلطتهم سراباً دونه سراب البحث عن استنارة فى صحرائهم. قوة استراتيجة الصاوى وضعفه فى نفس الوقت هى انها استراتيجية مكشوفة تسمح لها من جهة بتحقيق بعض اهدافها التنويرية بمجرد الاعلان عنها ولكنها من جهة اخرى تنبه السلطات الى مصادر الخطر الاتى وتمكنها من استخدام كل ترساناتها الفكرية والسياسية لاجهاضها. هذا ومن جانب اخر ان عدم تورع النظام فى استخدام العنف بكل اشكاله يجعل اى محاولة لتغيير النظام من الداخل مهما كانت محدودة مغامرة.
ان المقاربة الاصلاحية لتغيير النظام والذى يبدو ان معظم القوى السياسية قد ركنت اليها تؤدى فى النهاية الى شرعنة النظام legitimization لا تقويض شرعيته. صحيح ان هناك بعض التجارب الأصلاحية الناجحة فى العالم الثالث ولكن صحيح ايضا ان طبيعة الانظمة العقائدية تحول دون اى انفتاح سياسى سلمى يؤدى الى اضعافها. ان امكانات الاصلاح من الداخل فى العالم الأسلامى اكثر حظا فى ظل الانظمة غير المستندة على عقيدة دينية او قومية كما هو الحال فى المغرب وبعض دول الخليج وباكستان وغيرها. الهامش الديمقراطى المسموح الان هو نتاج لرهانات النظام مع المعارضة الجنوبية كنتيجة لآتفاقية نيفاشا والحاق المعارضة الشمالية ما هو الا لأغراض خارجية تتعلق باعطاء النظام نوعا من الشرعية السياسية كترسانة اضافية لمواجهته مع المجتمع الدولى المطالب بالعدالة لضحاياه بدارفور.
د- :التنوير, كل التنوير ولا شئ غير التنوير
بغض النظر عن رؤيتنا لمشروع الصاوى ومالاته يكفى انه فتح الباب مشرعا لحوار جاد حول التفكير الجاد فى موضوع السلطة الاسلامية بركائزها الاجتماعية وبنيتها الفوقية وهو نقاش اذا ما قدر له ان يستقطب قطاعات المثقفين بمواردهم الفكرية المختلفة سوف يشكل الخطوة الاولى والاهم فى سبيل الديموستنارة. فالقوة الاساسية للمشروع ليست فى نجاحه فى تغيير النظام التعليمى او تفعيل المجتمع المدنى والذى هو شبه مستحيل فى ظل النظام الراهن ولكنها فى خلق تيار مستنير ينمو بالنقاش حتى يتمكن من توفير الشروط المنطقية والواقعية لتحقيقه. نمو هذه القوى لا يتعارض مع رؤيتنا بضرورة العمل بكل الوسائل لأزالة هذا النظام ولكنه يوفر الارضية الضرورية للعمل من اجل التغيير الجذرى بمجرد استرجاع النظام النيابى الذى يجب ان يكون بؤرة العمل المعارض السلمى وغير السلمى.
ان اهمية فكرة " عصر تنوير سودانى" فى تقديرى هى فى قدرتها على تسليط الضوء على اهمية النظام المعرفى فى تحقيق تغيير جوهرى . ففى عصر التنوير الأوربى حدثت قطيعة اعطت للعقل استقلالية تامة عن اللاهوت الدينى بالعودة الى اكتشاف التراث اليونانى خاصة ارسطو بواسطة الفلاسفة المسلمين خاصة ابن رشد. كما هو الحال فى سودان الان, ماسبق التنوير فى أوربا هو سلطات مطلقة وتراجيديا فى القرنين السادس عشر والسابع عشر بما فيهما من حروب دينية أدت الى الاف الضحايا. ومع سيادة الدوغما الدينية والقوى الظلامية والديكتاتورية فى السودان فان الحاجة ملحة لمراجعة نقدية شاملة للمجتمع والعقل المتحكم فى صياغة رؤاه وتصوراته كخطوة اساسية لتحرير العقل وتطوير قدراته على التعامل الأيجابى البنّاء مع الأسلام بالذات. ان مهمة تدشين عصر تنوير سودانى هى مهمة مزدوجة: من غير الممكن تحقيق ذلك بالاعتماد على" الرافعة الداخلية"من خلال البحث عن" بحيرة استنارة فى صحراء الاسلاميين" لان العقل الفقهى الذى يتحكم فى طريقة الأسلاميين فى التفكير والانتاج النظرى هو ما يسعى التنوير لتفكيكه وتجاوزه. فالحاجة للتغيير تتطلب تصفية الحساب مع النظام المعرفى الاسلامى الفقهى القائم على قواعد الشافعى ونزع القدسية عن الخطاب الدينى. كما قام الغرب باعادة اكتشاف التراث الفلسفى اليونانى فان ما نحتاجه ليس اجترار الخطابات السلفية بلغة جديدة بل اعادة اكتشاف تيارات النقد والعقلانية فى الدين والبناء على الفتوحات الفكرية لبعض الكتاب المعاصرين كالجابرى واركون ونصر ابو زيد وغيرهم. ان هذا الطموح لا يمكن ان يتحقق بالاعتماد ولو جزئيا على المستنيرين الاسلاميين المرتبطين بايديولوجيا الاسلام السياسى المنبنى على عدم التسامح والدوغما مهما تبدت لنا تقدمية بعض تخريجاتهم الفكرية ورؤاهم السياسية. ان غاية ما يمكن ان يفضى اليه اى مشروع يعتمد على الأسلاميين كرافعة هو اصلاح دينى يكرس نمط التفكير الفقهى السلفى السائد الذى لا يرقى حتى لمستوى تفكير علماء الكلام النقدى قبل الانحدار الحضارى الاسلامى. ان مقومات التنوير الثلاث المتوفرة حاليا لدى الاسلاميين و التى توهم بامكانية وجود بؤر استنارة تفقد قيمتها فى تحقيق تنوير بالمعنى الذى يقصده الصاوى لكون بنية عقلهم و طريقة اشتغالها تقاوم فكرة الاستقلالية التامة للعقل وحريته المطلقة فى التفكير دون قيود غير قيوده الذاتية. بالاضافة الى ذلك يجب التساؤل ما الذى يدفع الاسلاميين لحمل راية تنويرية تساهم فى توليد قوى سوف تكون بالضرورة ضد مشروعهم الاسلامى وامتيازاتهم الاجتماعية. فالاسلامى الذى يصل وعية لدرجة الدفع فى اتجاه التغيير الجذرى لا يمكن باى حال اعتباره اسلامى بل هو عقل طليق انتفض على ذاته ومهيأ للتصادم مع قوى الظلام.
والصاوى فى صياغته لخطابه حول التغيير اتسم بشجاعة ادبية عالية ليس فقط بأعلانه للقطع النهائى مع نمط التفكير الشمولى الذى تكّون فيه كيسارى بعثى (ص327) وانحيازه غير المشروط للديمقراطية السياسية بل ايضا فى اعلانه بضرورة التحاف مع الغرب وحتى بعض الاسلاميين من اجل استعادة الديمقراطية. هذا النمط من التفكير فى اللا مفكر فيه يساريا يغرى بمحاولة استكشاف التحولات الفكرية التى يشهدها اليسار السودانى ممثلا فى الاستاذ الصاوى الذى له مساهمات جادة فى المجالات الفكرية والسياسية سودانيا وعربيا ودوليا. واخيرا لا يسعنا الا ان نورد التعريف الذي أعطاه ادورد سعيد للمثقف ونقول ان الأستاذ الصاوى " قد وهب ملكة عقلية لتوضيح رسالة,او وجهة نظر او موقف, وجلاء هذا الموقف الى الجمهور من خلال اللغة. وهو انسان ليس من السهل على المؤسسات استيعابه" (ص 211)


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.