«تجذبني أعمال هدى بركات وجمال الغيطاني وربيع جابر» عمان : من نضال القاسم يعتبر الناقد الفلسطيني الدكتور فيصل درّاج أحد أبرز أعلام النقد العربي المعاصر، استطاع أن يضع لنفسه منهجاً نقدياً متميزاً، خاصة في نقد الرواية العربية. يتحدّث درّاج في هذا الحوار عن تعقيدات وضع الرواية العربية وسيرورتها الموسومة بانتكاسات السياسة وقمع الحريّات. عن الفردي وارتباطه بالجمعيّ، وعن رحلة نقديّة طويلة. - كيف تصف لنا رحلة فيصل دراج في عالم الأدب والنقد ؟ - تنقسم حياتي إلى طورين متعارضين: طور بناء الأحلام، حيث يهندس الإنسان فرحاً حياته، ناظراً إلى الثقافة التي يريد تحصيلها، وإلى اللغات التي ينشد معرفتها، والحركات السياسية التي يرغب أن يندرج فيها، وإلى المرأة التي يتوقع الالتقاء بها، وحلم الفلسطيني، إن كان فلسطينياً، بأن يعود إلى «قريته»، أو أن يرى حركة شعبية وطنية فلسطينية، قوامها المعرفة والثقافة والممارسة الأخلاقية. شيء قريب من معادلات «التنوريين الكلاسيكيين» العرب التي كانت تحلم بمجتمع مدرسة، وبأمة تجسّد ما تقول به المناهج المدرسية النبيلة. في مقابل هذا الطور من الحياة، المتوّج بالغبطة والطموح، يأتي، شيئاً فشيئاً، الطور الثاني الذي عنوانه انكسار الأحلام، حيث تزول مع الشباب أشياء كثيرة، لم تسمح الحياة بقدومها، أو سمحت في البداية ثم انقلبت عليها، وقد لا يكون الأمر صادراً عن الحياة في ذاتها، بقدر ما يصدر عن الخبرة المعيشة، بما يمكن أن ندعوه: تساقط الهالة، فليس في الثقافة ذلك النور المنسوب إليها، ولا في التحصيل الجامعي ذلك الألق المتوهم، وليس في الثقافة سرّ أو ما هو قريب من الأسرار، ذلك أنّ الثقافة، في التحديد الأخير ماثلة في التعامل الأخلاقي مع البشر والحياة. الطريف أنّ على الإنسان أنْ يمشي طويلاً كي يدرك أن الارتقاء الأخلاقي والقيمي هو أعلى مراحل الثقافة والتحصيل المعرفي. ينبغي القول هنا، وبشكل سريع، إن الأخلاق تقود إلى المعرفة، في حين أن المعرفة لا تشكل ضامناً أخلاقياً، حتى لو كانت معرفة عالية، محوّطة بالشهادات والألقاب. يحلم الإنسان بأشياء وتقوده الحياة إلى أشياء أخرى، لم يتوقعها، إن لم تعطه ما يعارض تمنياته ورغباته، وهذا ما يدعى بانكسار الأحلام، التي تعلن عن الانتقال من زمن متبدل كثيف ومتنوع إلى زمن شبه متجانس يحاصره الخواء. وإذا كانت الحياة بعامة، والحياة العربية بخاصة، ترمي على الأحلام بأكثر من قذيفة، فإنّ علاقتي كفلسطيني بالمكان تجعل الأمر أكثر تعقيداً. فقد انتقلت، في أطوار حياتي المختلفة، من جنوبلبنان إلى منطقة الجولان في سوريا، ثم إلى دمشق، فباريس، من أجل الدراسة، فإيطاليا، من أجل العمل، فبيروت، عودة إلى بودابست، فدمشق مرة أخرى، ثم إلى عمّان...والمقصود بذلك هو الجملة التالية: إنّ توليد الأحلام، كما إعادة توليدها، يحتاج إلى الاستقرار والتراكم والأمان. فجاء انكسار أحلامي، أو جزء منها، من طبيعة الحياة التي تعلم الإنسان ما لم يكن يعرفه، وجاء من رخاوة المكان التي تجبر الإنسان المغترب على مراقبة قدمية حين يسير. والاغتراب مُتعدّد الوجوه: تحصيل معرفة حديثة والعيش في مجتمع غير حداثي، الانجذاب إلى السياسة، في فترة، ثم اكتشاف أن السياسة «بضاعة» لها أسواقها المتحوّلة، الانبهار بالنظرية والوقوف لاحقاً على «عجز النظرية»، وأخيراً ديمومة الحرمان، فتلك القرية التي ولدت فيها لن أعود إليها، وذلك الحزب السياسي الافتراضي، الذي تصورّته ذات مرة، لم ولن يرى النور، والحكمة التي تجود بها الفلسفة على الأحياء لا تحول بينهم وبين الموت، ولا تبعد عنهم هدير ساعة الزمن، التي تقرع في العقل والقلب آناء الليل وأطراف النهار. كنت في مطلع حياتي مولعاً بمطالعة الكتب، وأصبحت الآن أنظر إلى آلام البشر، قبل أي شيء آخر، فأوجاع طفل صغير تثير في الروح أسئلة أكثر من مئات الكتب. - ما هو الهاجس الذي يحرك قلم فيصل دراج، وما هي قضيته الأساسية؟ - كان هاجسي، ولا يزال، الكتابة بشكل جيد، أن أبرهن لنفسي أننّي أحسن الكتابة وأنّ لدي أسلوباً خاصاً بي، فالإنسان هو أسلوبه، ومن يمضي في الكتابة زمناً ولا يصل إلى أسلوب خاص به يكون قد أخفق، ولكل مبدع أسلوبه مثل طه حسين في حداثته الأزهريّة وأسلوبه المُركّب البسيط الذي تحتل فيها «الأنا» دوراً مركزياً. وليس من السهل العثور في الأدب العربي الحديث على مدخل نثري يشبه ذاك الذي استهل به حسين سيرته الذاتيه «الأيام». وهناك نجيب محفوظ الناضج في اقتصاده اللغوي المدهش مثل رواية: «حضرة المحترم»، وجمال الغيطاني في دفاتره حيث لغته بعضها يتاخم الإعجاز، وإميل حبيبي في هجنته اللغوية المدهشة، التي هي مزيج من أسلوب صحافي ومعرفة عميقة بلغة المقامات. وهناك الهواجس التي تنبثق في فترة وتغادر في فترة لاحقة مثل: النظرية، ونظرية الرواية خاصة. في زمن غير هذا كنت مسكوناً بحلم وضع «نظرية عربية في الرواية»، قياساً بنظريات قائمة شهيرة، حال نظرية الرواية عند لوكاتش، ثم باختين، ثم بيير ماشريه ورينيه جيرار. لكنني وجدت أن النظريات كلها مجرد اجتهادات، لامعة في بعض وجوهها، ومتعسفة ناقصة في وجوه أخرى، ووجدت أيضاً انه لا وجود لنظرية «عامة»، وأنّ نظرية في الرواية العربية لا تستقيم إلا بدراسة التحولات الثقافية الاجتماعية التي فرضت ظهور الرواية في فترة محددة، إلى أن جاءت قضية «القارئ»، إذ أن تحوّل الرواية إلى ظاهرة ثقافية اجتماعية يقضي بوجود «قارئ مجتمعي»، وهو غير موجود عربياً، الأمر الذي فرض الانتقال إلى مسائل «غير روائية»، تبدأ بالمناهج المدرسية ومعايير الإبداع، ولا تنتهي بالسلطة السياسية، ذلك انه لا وجود لرواية من دون ديمقراطية، ولا معنى لديمقراطية لا تحرض على الإبداع وتحض عليه. ولهذا غادرني الحلم القديم واكتفيت بمتابعة الرواية العربية في إنجازاتها المتعددة. أمّا القضية التي تشغلني الآن فتتوزع على اتجاهين مختلفين: إما الاعتراف بأنّ الكتابة لا تغيّر شيئاً، وأنّ ما قد يقال قيل منذ زمن، وإمّا أن يدخل الإنسان في تأمل طويل وأن يسأل نفسه: هل هناك من جديد يقال، وما هي طريقة قوله، وما هو المدخل الملائم لقول شيء جديد في الثقافة والرواية؟ الأرجح أنني لن أترك عملاً بدأت به منذ عقود (سؤال الرواية)، والأرجح أكثر أنني لن أقدم إلاّ ما أستطيع تقديمه، الذي قد يتضمن جديداً، أو يستأنف كتابات سبقته. أظن أنّ الأمر لا يقوم في الحديث عن الجديد، وإنما يقوم في العمل المفتوح الذي يقترح، طليقاً، أسئلته وإجاباته. وهواجس الإنسان الأخيرة هي قضيته، الهواجس التي تتضمن أسئلة الغربة والاغتراب والحنين وقصر الحياة وعذابات المضطهدين. والإنسان ينتصر ويظل مغلوباً في لحظة انتصاره، لأنه لا يصل إلى الموقع الذي اعتقد، ذات مرة، بأنه قادر على الوصول إليه. - كيف تنظر إلى إبداع الروائيين العرب وخاصة أبناء جيلك؟ - السؤال بداهة يحتاج إلى إعادة صياغة، بسبب اتساع العدد من ناحية، والغموض في كلمة «جيلك» من ناحية أخرى، وقد أستطيع الإشارة إلى بعض الروائيين، من دون أن أكون قادراً على الإشارة إليهم جميعاً، حتى لو أجادوا في ما كتبوه. أعجبني جمال الغيطاني منذ كتب «يوميات شاب عاش من ألف عام»، حمل مطلعه الأدبي تميّزه، وبلغ التميّز ذروة عالية في عمله الكبير «الزيني بركات»، وضاعف تميّزه في «التجليات»، وبقي متفرداً حتى أعماله الأخيرة. وهو أحد أصوات الرواية العربية العالية في القرن العشرين، متفرد في اجتهاده، ومتفرد أكثر في معالجة قضية الزمن. ولم تعرف الرواية العربية، باستثناء محفوظ روائياً قارب قضية الزمن الإنساني بمثل هذه الرهافة. انجذبت كذلك إلى أعمال هدى بركات، صاحبة الرواية المثقفة بامتياز، التي تجلّت مشرقة في «أهل الهوى» واستمرّت، قدر استطاعتها في روايتها الأخيرة «ملكوت هذه الأرض»، التي لم تحظ بتقييّم عادل. وهناك الأنيق في روحه وأسلوبه بهاء طاهر في عمليه الكبيرين «الحب في المنفى» و»واحة الغروب» (وأعمال أخرى)، اللذين يتضمنان الفلسفة والتاريخ والسياسة ونثراً جميلاً. وكان يفتنني الراحل محمد البساطي في اقتصاده اللغوي المدهش، ناهيك عن رضوى عاشور في «أطياف» و»قطعة من أوروبا». واللافت في رضوى منظورها الثقافي الواسع، حيث السياسة تشتق من التاريخ، وحيث السياسة والتاريخ يقترحان شكلاً روائياً موائماً. في الإشارة إلى الرواية والتاريخ، يجدُر الوقوف أمام أعمال أربعة روائيين على الأقل: عبد الرحمن منيف، الذي التزم بمشروع روائي ميّزه من غيره، تكتشّفه في خماسية «مدن الملح» بقدر ما ظهر في رواية «النهايات». وثاني الروائيين هو غالب هلسا الحداثي منظوراً وأسلوباً وموضوعاً، الذي لم يُقدَر كما يجب حتى اليوم، والمغربي المتميّز «سالم حميّش» الذي آثر تخييل الماضي في «الحاكم بأمرالله» و«ابن خدلون العلامة»، والفيلسوف المتصوف: «ابن سبعين». ولا يمكن بحال من الأحوال، في حدود قراءة مجايليّ من الروائيين، بشكل نسبي، نسيان المجتهد العجيب إبراهيم الكوني الذي سجّل سيرة «ابن الصحراء»، وحاول بناء مشروع روائي يستند إلى «رؤية فلسفية»، تعارض نقاد الصحراء بدنس ما هو خارجها. روائي لبناني من جيل آخر أسهم في تجديد الرواية العربية هو ربيع جابر، الذي احتلّ حيزاً كتابياً خاصاً به، رفع صوته عالياً في «يوسف الإنكليزي، أمريكا، ودروز بلغراد». إنه الصوت الروائي الأكثر حضوراً في الطور الأخير للرواية العربية. طبعاً هناك آخرون لا يمكن التذكير بهم جميعاً، ويظل هناك ما سقط من الذاكرة، وتظل جهود روائية لا يمكن الإحاطة بها. - هل أنجزت الرواية العربية أهدافها؟ - السؤال بالنسبة لي غامض وشديد الغموض، ذلك أنّ ما يُنجِزْ أهدافه يموت. يمكن أن أقول أنّ هذه الرواية تنوّعت وتطوّرت «مكانياً» فذهبت إلى الخليج والسعودية، حيث ظهر يحيى أم قاسم صاحب «ساق الغراب» واليمني أحمد الزين والسوداني أمير تاج السر. مع ذلك يجب تأكيد أنّه وعلى الرغم من حديث مستمر عن «زمن الرواية» الذي صاحب الجوائز فإنّ الرواية العربية تعيش زمناً منقوصاً. فإذا كان كل إنتاج كتابي يتجدّد باستهلاكه، فإنّ في وضع الرواية العربية ما لا يقول بذلك. فالتوسع عربياً في الكتابة الروائية لم يحظ بتوسع موازٍ على مستوى القراءة، ولهذا ظلت الرواية، في علاقتها بالثقافة الجماهيرية، إن صح القول «جنساً كتابياً هامشياً» أشير هنا إلى مفهوم الظاهرة الكتابية التي تعني التوسع المجتمعي في قراءة ظاهرة معنية، هو أمر لم يتحقق في الرواية العربية. ويمكن النظر إلى سؤالك من وجهة نظر أخرى: إذا كان تحقيق أهداف الرواية العربية مرتبطاً بقدرتها على المنافسة عالمياً، فأظن أنّ بعض الروائيين حققوا أهدافهم ومنهم نجيب محفوظ والغيطاني ومحمد البساطي وربيع جابر وسالم حميش وغيرهم، الذين أعطوا كيفاً روائياً عالي المستوى، منظوراً وتقنية. - ما هو وضع الرواية الفلسطينية اليوم؟ - يحيل لفظ «اليوم» على لفظ لا بدّ منه هو «الأمس». والمفترض منطقياً أن يكون «اليوم» أكثر تقدماً من «الأمس»، والقائم فعلياً أنّ هذا «اليوم» روائياً أقلّ من الأمس. فقد كان في أمس الرواية الفلسطينية ما يمكن أن يدعى ب»المنفى المزهر»، حيث ان توزع الروائيين الفلسطينيين على بلدان عربية كثيرة، والمتقدمة منها ثقافياً بشكل خاص، جعل منهم عرباً وفلسطينيين في الوقت ذاته، ذلك أنهم عاشوا في دمشق وبغداد، أو أنهم بقوا في وطنهم المحتل حال إميل حبيبي. احتلّ كنفاني وجبرا إبراهيم جبرا وحبيبي، في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، مكاناً مرموقاً في الطليعة الروائية العربية. اجتهدوا في الدفاع عن قضيتهم الوطنية كما في تقديم اقتراحات روائية جديدة. استولد كنفاني المجاز الروائي وقضى حياته الأدبية القصيرة وهو يبحث عن شكل يلبّي قضيته ووضعها في رواية نفذت إلى عمق مأساتها «رجال في الشمس». في حين سعى جبرا إلى «توصيف الفلسطيني الحلم» بأشكال متعددة، وأعطى «السفينة»، إحدى أفضل الروايات العربية في القرن العشرين. أمّا حبيبي فارتكن إلى نثر عربي رفيع وإلى منظور ساخر للعالم في «المتشائل» الذي هو صورة إبداعية عن واقع «المغلوبين». كان في هذه الروايات منظور فلسطيني ومساهمة فلسطينية إبداعية في حقل الرواية. لم يستطع «أدب المقاومة» الذي جاء من اتجاه آخر في السبعينات أن يرتقي إلى مستوى «الثلاثة الكبار»، كان وعظياً ومتفائلاً و»كسولاً» على مستوى طرح الأسئلة الفنية، وإن كانت سحر خليفة قد أنجزت عملين جيدين:» يوميات امرأة غير واقعية»، و»الميراث». أما الوافد الأخير والكبير إلى الرواية الفلسطينية، فكان حسين البرغوثي، الذي حصده الموت سريعاً. كان سؤال الأدب الفلسطيني ولا يزال: كيف تجمع بين الأمل والشروط المعيشية التي تطرد الأمل، وكيف تستولد من حاضر المضطهدين بعداً تاريخياً ينفتح على المستقبل؟ كان في تجربة المنفى (...) قوة محرّضة وإيمانية رومانسية بقوة الكلمة، كما لو كان لو المنفى مجالاً «نوعياً» يعوّض عن الاستقرار اللازم للإبداع. غير أنّ توزع المنفى إلى منافي، كما تراجع الحلم الفلسطيني والعلاقة «المبكية» بين الثقافة والسياسة، كلّ هذا طرد «إمكانية التجدّد الأدبي»، واستعاض عن الرواية بحكايات بسيطة، اعتقدت، وتعتقد، أنها روايات. ما هي الشروط التي تصالح بين «رواية الأمل» والقيم الجمالية؟ سؤال صعب عالجه محمود درويش شعراً، ولم تعالجه الرواية الفلسطينية إلا في أعمال محدّدة (حبيبي ومحاولات كنفاني التي لم تكتمل). لا وجود لنزوع إيديولوجي صحيح إلاّ بوعي سياسي صحيح. والوعي الأخير لا يأتي إلاّ صدفة.