يبدو أنَّ مآسي السودان لا تنتهي، وأنَّ جراحاته المُلتهبة لن تندمل، بعد ما أضحى خاوياً من فرط أطماع (طُلاب) المُغامرة ومُدمني التآمر، المُتوشحين بالوطنية المغدورة، والقيم والمُثُل الموءودة، والمتدثرين بثوب العفاف المشروخ، ممَّن يدَّعون بأنَّهم أبناؤه! فمع كلَّ صباحٍ وليل، بل وعلى رأس الساعة، نسمع ونُشاهد ما يندي له جبين الأحرار من أفعالٍ يعجزُ اللسان عن وصفها، وهي أفعالٌ – للأسف الشديد – بأيادي (تدَّعي) بأنَّها سودانية خالصة، تنهشُ جسد الوطن الجريح والمُتآكل منذ جلاء المُستعمر، والوحيد الذي يدفع الثمن هو السودان المغلوب على أمره! الكل يأتي ليَنهَش هذا الجَسَد الذي أعيته النكبات المُتلاحقة، والتي ازدادت في حدَّتها وتسارُعها بمَقدَم المُتأسلمين الذين دمَّروا آخر دفاعاتنا وهي الأخلاق، ساعدهم في هذا الاستعداد غير المحدود لبعض الديناصورات الذين ما انفكوا ينهشون جسد البلد وأهله البُسطاء ردحاً من الزمان! قادني لهذه المُقدمة الحالة المأزومة التي يحياها السودان وأهله، والقاع الذي بلغناه وما بعدها قاع، والهاوية السحيقة التي تتهاوى فيها الدولة، مع عبثٍ (فاضح) و(مُخجل) لقلة من المُتآمرين، وصمت (مُحزن) للغالبية. فالمشهد الآن، يحمل أكثر من وجه للمسرحية العبثية التي بدأت منذ ربع قرنٍ مضى ولا تزال فصولها مُستمرَّة، إلا أنَّها أخذت أبعاداً أكثر سفوراً ومجوناً في الآونة الأخيرة، مع تسارع إيقاعات مشاهدها التي يُؤديها أكثر من طرف جميعهم يدَّعون الوطنية، وهي منهم (بُراء)! آخر هذه المشاهد المُحزنة، إقرار ما يُسمَّى بال(برلمان) لتعديلاتٍ دستورية (داعمة) لصلاحيات المليشيات المُسمَّاة جهاز الأمن والمُخابرات الذي يُقاتل مُناوئي المُتأسلمين، لتجعل منه قوة نظامية حالها كحال الجيش والشرطة، بل أعزَّ منهما، من واقع مُهمَّة هذا الجهاز التي حدَّدتها التعديلات الجديدة، والمُتمثلة في رعاية الأمن (الداخلى والخارجى) ومُكافحة المُهددات السياسية والعسكرية والاقتصادية والاجتماعية والإرهاب والجرائم العابرة! كما (عزَّزت) التعديلات الدستورية الجديدة، من صلاحيات زعيم المُتأسلمين المطلوب عالمياً ك(مُجرم) حرب في ما يخص إتاحة ترشيحه مُجدداً أو بسط يده ليعيث في البلد فساداً هو وأشقائه ومن والاه طولاً وعرضاً..! لم يكتف المُتأسلمون بهذا، وإنَّما واصلوا (عبثهم) بصورةٍ مُريبة (تنُم) عن تدبير (مُسبق) ومعلومٌ (أطرافه)، حيث نشروا قوائم (مُرشَّحيهم) في 18 ولاية بواقع 85 دائرة نسبية و425 دائرة قومية ونحو 138 دائرة خاصة بالمرأة، ليخوضوا بها ما وصفوه ب(انتخابات) مُزمع إجراؤها هذا العام، مع ترك نحو 30% من الدوائر لتتنافس عليها أحزاب ال(فكَّة)! ولتتأملوا معي جميعاً هذا الانحطاط، ليس من المُتأسلمين ولكن ممن وافق وقبل بفتات موائدهم! بل وواصل زعيمهم الهارب من العدالة الدولية، صفاقته التي تميَّز بها، حينما صرَّح بأنَّ تكوين الحكومة القومية القادمة يرتبط بالمُشاركة في ما أسموه انتخابات، وألا مجال لحياةٍ أو مُشاركةٍ إلا لمن يُقر بشرعيتها، وأكثر من هذا أنَّ القادم فقط لجماعته ومن يُواليها سواء كانوا أفراداً أو جماعة! وهي جُرأة نوعية، برزت مُؤخَّراً بصورة سافرة وواضحة في تصريحات المُتأسلمين، ولعلهم مُحقين في ما فعلوا وقالوا في هذا الخصوص، من واقع ما سنستعرض بعضه في السطور اللاحقة! فبغض النظر عن تمثيليات المُتأسلمين الغبية والمعروفة، كاستبعاد بعض وجوههم المعروفة عن الفصول القادمة للمسرحية، أو إطلاق الاتهامات نحو المجهول، وهي بالضرورة أضحت أموراً معلومة وتكتيكات مكشوفة من فرط تكرارها وسذاجتها، نجد بأنَّ ردَّة فعل الديناصورات كانت مُخجلة ومعيبة كما توقَّعنا، إلا أنَّها فاقت حدود التوقعات للدرجة التي تدفعنا للبحث عن مُفردات جديدة تفوق معاني العيب ومضامين الخزي! فقد ترك حزب الأمَّة كل المهازل والتجاوُزات الإسلاموية، واهتمَّ – على لسان الدومة – بما قاله نافع بشأن عودة المهدي! والتركيز على قضية (انصرافية) تتعلَّق برفض (رعاية) البشير للحوار! والمُفاجأة الأكثر دهشة، إعراب حزب الأمة عن اعتزامه اللجوء للقضاء بشأن أملاك الحزب، فتأمَّلوا في اهتماماتهم وانشغالاتهم مُقابل ما يجري من مهازل! وفي ذات سياق الخيبة والإحباط، مَارَسَ الميرغني وحزبه مُنافسته المُخجلة لحزب الأمة، حيث حَمَلَتْ الأنباء اجتماع الميرغني (المُغلق) بالبشير يوم 7 يناير، ليخرج لنا بالأمس ب(تأييده) ال(مُطلق) لترشيح البشير كرئيس للبلاد و(مُشاركة) حزبه في مسرحية الانتخابات! وللحقيقة توقَّعتُ هذه الخيبة، ولكن فوجئتُ بمُستوى الانحدار غير المسبوق في هذا الخصوص! ولم يختلف الحال بالنسبة لغالبية القوى السياسية الأخرى بما فيها (بعض) الحركات النضالية، حيث سادت الخلافات الانصرافية والجانبية في ما بينها من جهة، وفي ما بين الحزب أو الكيان الواحد من جهةٍ ثانية، سواء كان في شكل مُلاسنات أو في ما يخص توزيع المغانم أو المناصب أو الاتهامات المُتبادلة وغيرها من الصراعات المُحبطة البعيدة عمَّا يُعانيه السودان (الكيان) وأهله البُسطاء، أطفالاً وشباباً وشيباً، رجالاً ونساء! تجاهلتُ (عمداً) تصريحات بعض الانتهازيين و(تُمامة الجرتق)، أو الأذرع الإسلاموية المُضللة كالسائحون والإصلاح وما يقولونه بشأن المُخالفات الدستورية أو الانتخابات أو الحوار، لمعرفة الجميع بحقيقتهم المُؤلمة والقبيحة، وأدوارهم القذرة في إطار جماعتهم الكبيرة التي أدخلتنا جميعاً في هذا الدرك السحيق! ها أنا ذا أحاول عرض واقع (غالبية) قوانا السياسية (إلا القلَّة)، وهي نماذج فقط، بلا رتوش أو تجميل، وهو واقعٌ نحياه جميعاً ونراه رأي العين، وفي مُجمله يُشير ويؤكد حقيقة واحدة فقط، أنَّهم والمُتأسلمين واحد، يهتمُّون بكل شيئ إلا السودان وأهله! فالتعديلات الدستورية الأخيرة تُعدُّ خطيرة وتتقاطع تماماً مع مضامين الحرية والحوار التي ملأوا الدنيا ضجيجاً بها، سواء المُتأسلمين أو من يجلس إليهم، بما تُتيحه من صلاحياتٍ واسعة لمليشيات الأمن وإطلاق يدها لاعتقال وقمع المواطنين، وحصانة أفراد هذه المليشيات ضد العقوبة على جرائمهم السابقة والآنية واللاحقة، وهي تعديلات تُطيح بالجيش والشرطة من واقع المُهام التي تم تحديدها لهذه المليشيات، وتُكرس لسلطات المُجرم الهارب من العدالة الدولية لارتكاب المزيد من جرائمه هو وجماعته، والتي تصب جميعاً في تمزيق البلد وتدميرها، وتعود بالسودان لعهود القرون الوُسطى وحكم الإقطاعيات! وهي بالأساس، مُخالفة للدستور القائم حالياً (دستور 2005)، الذي يمنع أياً من كان إضافة أي تعديلات جديدة بمن فيهم البرلمان! إلا أنَّ المُتأسلمين أجروا ما أرادوا من تعديلات سواء في بسط أيادي مليشياتهم وتهميش القوات المسلحة وقوات الشرطة وحصانة هذه المليشيات، أو بإتاحة الفرصة أمام المجرم الهارب ليترشح رئيساً للمرة الثالثة، أو في الإطاحة بنظام الحكم اللامركزي عقب سلب الأقاليم حقها في تسمية من يحكمها من وُلاة عقب السماح ب(تعيين) هؤلاء الولاة، وغيرها من التجاوُزات التي يصعب حصرها في هذا المجال! إلا أنَّ الأخطر في الموضوع استمرار جرائم المُتأسلمين ضد المُواطنين العُزَّل في مناطق النزاعات في دارفور وكردفان والنيل الأزرق، والآخرين بالتهميش والتجويع والمرض في الشرق، أو ترك المُحتل لينال منهم كما في أقصى شمال السودان، وهم جميعاً طال ظلمهم واستطال على يد المُتأسلمين، ومُشاركة آخرين لهم باستدامة النزاع، وبالتالي القتل والدمار والتشريد والاغتصاب وغيرها من الجرائم، مع هدر الوقت في صراعاتٍ جانبية وبطولاتٍ زائفة وتسويفٍ مُخجل ومعيب! من واقع ما سُقناه أعلاه، يتضح وبما لا يدع مجالاً لأدنى شك، أنَّ الضحية الأولى هو الشعب السوداني بقطاعاته المُختلفة، وألا مجال أمامه إلا بالانتفاض على كل من دمَّره ودمَّر بلده وأرضه، سواء كانوا المُتأسلمين أو (ديناصورات) القوى السياسية أو المُتاجرين بقضايا البُسطاء! وأكررها وأقولها صريحة أنَّ المُنقذ من هذه الورطة – بعد لطف الله – شبابنا السوداني على اختلاف انتماءاته الفكرية والإيديلوجية والعقائدية والقبلية! هم وحدهم القادرون على إحداث التغيير المنشود وإنقاذ ما يُمكن إنقاذه، من المجهول الذي يقودنا إليه المُتأسلمون وطلاب المُغامرة (ديناصورات) الأحزاب والقوى السياسية، التي لا يهمها سوى أملاكهم وتعزيز مكانة أبنائهم! وكأنَّ السودان (عِزْبَة)، هم باشواتها ونحن فلاحيها و(غَفَرَها)! نعم شباب السودان على اختلافهم هم الأمل المُرتجى، بعد الله، وهو سنفرد له مقالتنا القادمة إذا عشنا وكان في العمر بقية. [email protected]