الشاعر يرتحل في ديوانه 'من رائحة الفراق' ليطارد ما فقدته روحه وما فقده العالم من حوله، يرتحل في الزمان وفي المكان، ليرثي قيم الحب والجمال. ميدل ايست أونلاين كتب محمد الحمامصي حراسكِ ما زالوا لا يؤتمنون يواصل الشاعر الدنماركي من أصل عراقي سليم العبدلي نسج رؤيته للعالم انطلاقا من الذات وعلاقاتها الشائكة والمتشابكة به، فيقدم في ديوانه الجديد "من رائحة الفراق" الصادر أخيرا عن دار الأدهم بالقاهرة تجليات هذه الرؤية روحا وجسدا عبر أمكنة وأزمنة متعددة الآفاق، وذلك في نص نثري مفعم بالفقد والغياب والشوق والحب والبحث. يرتحل الشاعر في الديوان ليطارد ما فقدته روحه وما فقده العالم من حوله، يرتحل في الزمان وفي المكان، ليرثي قيم الحب والجمال، قيم العقل والوجدان، قيم الحضارة والثقافة والفكر، قيم الحرية والعدل، ويقدم رؤية تتجلى في مفرداتها الشفافية والعمق والتلقائية. يضم الديوان سبعة فصول لسبع قصائد تحمل كل منها عنوانا دالا وكاشفا للنصوص التي تندرج تحته متراوحة بين الطول والقصر، وهي كالتالي "المدائن لمن إن لم يتسن لك البقاء" و"لولا الخطوة لما كان الطريق"، و"الموت الضيف الأخير لبيت حياتي"، و"كلما تداعت المعرفة انتصبت رماح الفهم" والآن رداء المستقبل وعطر الماضي" و"الحب غاية الحلم وأمل الآن"، و"آثار جراحي منابع آلام". سليم العبدلي عالم فيزياء كثير الترحال والتنقل بين بلدان عديدة، ذلك ما ساعد في نمو علاقة فريدة بينه وبين بعض الامكنة التي تركت شيئا ما في وجدانه. بعد ان استعرض رؤيته الى بغداد (مسقط رأسه) وكوبنهاجن وامستردام ومانهاتن واسطنبول والقاهرة والإسكندرية. في مجموعته الشعرية السابقة يكمل الشاعر مشواره مع الامكنة، مع المدائن ليصف ما وصلت اليه بعد أن يستعرض تاريخ هذه المدائن شعريا. يبدأ ببغداد، وكيف يمكن لها ان تنعت ب "دار السلام" وهي ومنذ تأسيسها باتت "كولوسيوم" لصراع الاخوة (الأمين والمأمون) ثم الحكام وحتى يصفها اليوم ب: بغداد أُجهضَ السلام فيكِ وغدوتِ دارا للعتهِ يتناوب الأسياد عليكِ وبلون الحرب .. يتبدلون مغتصبين مستعمرين أغرابا. ثم ينتقل الى دمشق التي "تغار منها بابل واوروك"، والشاعر لا يخفي مدى عشقه لهذه المدينة ولروائح اسواقها وجبالها، ولكنه يلعن فيها "حراسها" حيث ينهي القصيدة: كلما اشتقت اليكِ لعنتُ لحظةَ الدخول من بواباتك فحراسكِ ما زالوا لا يؤتمنون هنا حسرة البعد وعدم التمكن من زيارة مدائنه لان فقط لمن يتسلط عليها الحق في السماح لمن يدخل ومن يبقى ومن يخرج. آن الشاعر برثائه للمدن يصرخ بوجه المتسلطين عليها ويذكرهم باحترام تاريخها. كذلك اصفهان، عاصمة ايران السابقة، والتي سحرت زوارها وكل من مر بها.. كيف هي اليوم؟ بعد ان ساد حكم المعممين فيها ولاكثر من ثلاثة عقود. هنا يأخذنا الشاعر في شوارع المدينة، لنعبر جسرها الشهير ال "سي ڤَ سَي" ليدخل بنا الى قصورها، وهنا يجسد لنا ما آلت له هذه المدينة، حيث يرى شهرزاد "قابعة في ثوب الحداد" والخيام في حضرتها يقص آخر حكاياتها: الالف ليلة وليلتان وفيها اسمع عويلا يعلن رجوع شهريار الى عادته يذبح عدراء كل صباح أما الاسكندرية، فهنا نرى عجبه واستغرابه مما شهدته المدينة خلال الظروف الاخيرة التي مرت بها مصر، وهو يصف تحول منائرها الى حراب تطعن قبب كنائس الاولين، ثم يختم القصيدة بامل: في لغة الاسكندرانيين اشم امل القادمين ان تحنث كليوباترا بقسم القبوع في قصرها مدى الحياة وتخرج من تحت ماء البحر حبلى بمولود خامس ينهي يُتمَ المكان. في هذا الحوار مع الشاعر نضيء جوانب مهمة من رؤيته في هذا الديوان وأعماله السابقة. بدأنا مع الشاعر بالغلاف الذي جاء صورة لسلالم مهدمة، والعنوان "من رائحة الفراق" والعلاقة بينهما، وعلاقتهما معا بنصوص الديوان، حيث قال إن ذلك يتيح له الفرصة للتحدث عن المعاني الجمالية والعقلية التي يتمنى أن تصل إلى القارئ. وأضاف "أبدأها بالفهم. إننا دائما نبحث عن الفهم، ونسعى لإيجاد تفسير لما نشاهده، وما نحس به. إن كان الأمر كذلك لما كنت سأجازف في الخوض في أي شرح أو نقاش، ولكن الأمر مختلف تماما. فالأمر أصبح عند الكثير من المجتمعات هو إيجاد أي فهم أو تفسير يرضي الأغلبية فقط، بغض النظر عن مدى شمولية المعنى، أي مدى علاقة هذا المعنى بالطبيعة التي لسنا فيها إلا طرفا بسيطا في معادلتها الطويلة. فصورة الغلاف أخذت في أحد الاماكن "في مدينة كاشان" الأثرية، فيما يمكن له أن يكون قبرًا لأحد الصوفيين القدامى، أو حُجرة من منزله، وقد ألتقطت هذه الصورة بعد أن نزلت إلى أسفل المكان، حينها شدني عمق المكان، عتمته وبصيص النور في الخارج. إن إلتقاطي لها من الداخل، من أسفل المكان إلى أعلاه، وكأنني كنت أريد أن أضع نفسي مكان ذلك الصوفي - الذي أجهل اسمه، وكيف كان يرى النور، أو العالم من أعماق مكانه. ولذا فإن الصورة تعبر عن الرؤية من الداخل الى الخارج، كما هي رؤية الشاعر إلى ما يراه في الخارج من مواقع في دواخله، من أحاسيسه. هذا هو الرمز في الصورة. وإن لم يكن مفهوما فذلك ليس بالمهم، وإنما جماليتها الإيحائية، ثمة عالم هناك أمامنا، خارجنا هو ما أطمح أن يلفت نظر من يتَمعَّن في الصورة، وبذا يكون الغلاف معبرا أيضا عن معاني القصائد". وأوضح "أما العنوان فإنه يعبر عما نفتقده - ما كان علينا أن نفارقه، إن كان ذلك حبيبا، أو صديقا، أو مكانا، أو وطنا أو فكرة أو حلم... ولكننا في كل هذه الأحوال، لا نستطيع التجرد من إننا، وفي يوم ما، كنا نمتلك ذلك الحبيب أو الفكرة، كنا جزءا من العلاقة يومها، وهذه العلاقة لا تنمحي بسهولة من أحاسيسنا، ولذا جاء العنوان (من رائحة الفراق)، الفراق الذي يترك رائحته تتجول في أنحاء يومياتنا". ويمكن أن يجده القارئ واضحا في إحدى قصائد الديوان: كموجة البحر هو الماضي لا يمضي وإن مضى فإنه يعودُ أشدُ وأقوى مما كان عليه وفي كل مرة لا يبتعد إلا وقد نهش ما طاب له من ساحل الحاضر جسدا مسجى على شاطئ الوقت أي أننا، وكما في الصورة نبقى نتطلع، شئنا أم أبينا، إلى ذلك الضوء المتألق في الخارج، عسى أن يأتي لنا بما هو أفضل، حتى ولو كان شيئا من الماضي. وقد قسم العبدلي الديوان إلى فصول وكل فصل بعنوان يشكل قصيدة قصيرة كاشفة إلى حد بعيد ما بعدها من نصوص، وقد أكد أن ديوانه السابق كان كذلك، وقال "لا أميل الى عنونة قصائدي، خاصة وأن التكثيف والتجريد يغلب على شكلها. هذا من جانب، أما من الجانب الآخر، فإنني لا أنوي أن أفضح معنى القصيدة كما أراه أنا، وإنما أترك فرصة للقارئ أيضا ليجد معناه الذاتي في القصيدة لكي يستطيع أن يمتلك القصيدة. أنني أجده من الصعب تحميل موضوعا ما لقصيدة واحدة. فالقصيدة حالة ديناميكية، تتغير بوقت قراءتها وقارئها، ولا تستطيع بكل ما تضمنت من أحاسيس أن تعني بأكثر من جانب واحد من تلك الأحاسيس، وموضوعها يبقى أكبر من القصيدة نفسها. فمثلا، إن كتبت عن الحب أو الحبيب، فهل لي أن أكتفي بقصيدة واحدة؟ كلا، فإنني أجد أن حالة الحب لها أن تنعكس بأشكال وحالات وصور عديدة، ولذا أكتب قصائدي بدون عناوين، ولكني وجدت أكثر مناسبة أن أجمعها في فصول، والفصول لها عنوان، ولكن هذا العنوان قصيدة، وهنا لي أن أفضح عن موضوعة الفصل، يُصوّر حالات متعددة ومتقلبة لتلك الموضوعة. فمثلا عنوان الفصل الاول: المدائن لمن إن لم يتسنَ لي البقاء هذا العنوان/القصيدة يأخذ بيد القارئ إلى المدائن، تلك التي أحن إليها، إلى أماكن لم يتسن لي البقاء فيها، وهنا سيحس بالفراق قائما عند المغادرة، أوعندما يتغير المكان، ذلك الذي كنت أعرفه وأستشق هوائي فيه، ولكن وبتغيره، حُرِّمَ علي البقاء فيه. ولنذكر عنوان فصل آخر: الموتُ الضيف الاخير لبيت حياتي هنا أيضا لا أترك شكا عند القارئ عنما سيواجهه في قصائد هذا الفصل - الموت، والذي يمثل عندي حالة فراق أيضا، ولكن وفي معظم مجتمعات العالم، لم نتعوده بعد، ولا زلنا نجده مأساة على الرغم من أنه اليقين الوحيد الذي نعرفه منذ الولادة. سيجد القارى أن قصائد هذا الفصل "تُشَيئ" الموت أو تجعل منه "كائنا" يمكن الحديث معه، واستضافته أو رفض استقباله. على العموم إن هذا الشكل أظنه أكثر مناسبة لما أكتب، وكل أملي أن يتفق القارئ معي. قصائد المدن يحتل المكان موضوعا بارزا في تشكيل رؤية الديوان عامة وفصله الأول خاصة، الذي خصصه العبدلي لقصائد المدن كبغداد وأصفهان والاسكندرية وكوبنهاجن ودمشق وسمرقند و.. إلخ، مع العلم أن ديوانه السابق "الأمكنة مقابر الوقت" كانت فيه أيضا مجموعة من قصائد المدن لذا كان السؤال حول إمكانية جمعها في ديوان مستقل، وقد كشف بأن "هذه القصائد لم تولد سوية، ولكن موضوعها بعد نشر الديوان السابق ظل يطاردني، وبدأت مدن أخرى، غير المنشورة في الديوان السابق، "تثير عندي أحاسيس وأشجانا لم تكن موجودة سابقا. كذلك المدن التي كتبت عنها، رجعت لي هي الأخرى بأشجان جديدة وبأحاسيس تعكس جوانبا أخرى من ارتباطي بهذه الأمكنة. وعلى سبيل المثال إن مدينة بغداد ظهرت في الديوان السابق بحنين ومشاهدات شاب يافع، يتلصص مرة على بنت الجيران، ويلعن مرة أخرى حر المدينة في الصيف. أما في هذا الديوان، فاستطعت أن أرى بغداد من خلال تاريخها الدموي، منذ تأسيسها ولحد اليوم، ولذا أتعجب في بداية القصيدة لتسميتها ب دار السلام. ولا أجزم هنا، أن بغداد لن تظهر في ديوان قادم، فلمَ لا والاشجان والذكريات لم تنضب بعد. ولكن، أنت على حق، فإن الجدير بي بجمع هذه المدن وإصدارها في ديوان منفرد يتناول موضوعة المدن وعلاقتي بها، وأشكرك على اقتراحك هذا، الذي أتمنى تحقيقه إن شاءت الظروف فإنني أعدك بجمع كل المدن التي بقيت فيها وتركت ما تركت في وجداني وأحاسيسي في ديوان عن الأماكن فقط. أما الآن فلها أن تكون فصلا في هذه الديوان وذاك".