فازت لويز إردريك (1954) بجائزة ديتون الأدبية للسلام عن مجمل إنجازاتها خلال أربعين عاما من حب الأدب، خطّت خلالها أربع عشرة رواية، وعددا من كتب الأطفال والدواوين والقصص القصيرة، تؤرخ جميعها تراث الهنود الحمر وتاريخ المستوطنين الألمان، وتفك الشائك من حياة الهنود المعاصرة وتلقي بنظرة آملة على تحديات يواجهونها من أجل مجرّد البقاء. تضاف الجائزة إلى صف طويل من الجوائز تقلدتها إردريك كجائزة سو كوفمان من الأكاديمية والمعهد الأميركيين للفنون والآداب وجائزة اتحاد كليات البحيرات العظمى وجائزة الكتاب الأميريكي من مؤسسة "ماقبل كولومبوس". ترمي جوائز ديتون إلى التشديد على سلطة الأدب على تعزيز السلام والعدالة الاجتماعية والتفاهم العالمي، وتحمل جائزة السلام اسم ريتشارد سي هولبروك المبعوث الدبلوماسي الأميركي الذي نجح في عقد اتفاقية سلام أنهت الحرب في البوسنة. وعن فوز إردريك بالجائزة قالت، "لا أظنني كاتبة تنعم بالسلام، إني مضطربة أتوق إلى السلام". وفي رسالة إلكترونية إلى وكالة أسوشيتدت بريس كتبت أن "الجائزة تبعث برسالة سياسية قوية في هذه اللحظة التاريخية ونحن نشهد اليوم تلو اليوم عنفا مريعا يعانيه الأطفال في الحرب". مزيج كوزموبوليتاني ولدت إردريك لأب ألماني أميركي وأم تجمع أصولها بين الفرنسيين وسكان أميركا الأصليين. نشأت في بلدة وابيتين بولاية نورث داكوتا بالقرب من محمية تورتل ماونتين حيث اشتغل والداها معلمين بمدرسة تابعة لمكتب شؤون الهنود الحمر، وتنتمي إلى قبيلة جماعة هنود التشيبيوا. وقد حرص جدها الألماني المحارب في الحرب العالمية الأولى ألا تنفصم صلتها عن العالم القديم. فلم تكابد قط أزمة هوية، إذ تعتنق بأريحية وتسامح كل عرق يسري في دمائها، وسوف نجد أن أدبها ينبئ عن هذا المزيج الكوزموبوليتاني، وإن أوحى أغلبه وكأن أجدادها ينحدرون من الهنود الحمر الخالصين. رواية تفوح بعبق الكاثوليكية تتحدث إردريك عن طفولتها فتحكي أن أباها اعتاد منحها "نكلة" مقابل كل قصة كتبتها في حين زودتها أمها بالورق لتغليف الكتب. كانت من أوائل النساء اللاتي حصلن على ليسانس الآداب من كلية دارتموث. وفي وقت تنهار فيه متاجر الكتب المستقلة مسلمة الراية إلى مواقع بيع الكتب والكتب الإلكترونية، تدير إردريك منذ سنوات طويلة مكتبة صغيرة اسمها لحاء البتولا. لم تجهر بعلاقتها بأحد زعماء أوجيبوا الروحيين سوى عند إصدار كتابها "كتب وجزر في بلد الأوجيبوا" (2003). ويروي رحلتها في زورق صغير إلى موطن هنود الأوجيبوا -جزر بحيرة ليك أوف ذاودز بجنوب أونتاريو- صحبة طفلتها الجديدة ووالد الطفلة. مسلوبو التاريخ والأرض من أبرز أعمال إردريك رباعية روائية تصور حيوات إحدى قبائل التشيبيوا. بدأتها برواية "عقار الحب" (1984) الفائزة بجائزة فيرجينيا ماكور ميكسكالي وجائزة حلقة النقاد القومية. فنتعرف فيها كيف بات مسلوبو التاريخ والأرض -أرض صودرت أو بيعت بثمن بخس- يتأرجحون على الهامش، ومثلهم كمثل الأميركيين من أصل أفريقي -بل وأسوأ- حيث يجابهون البطالة والإدمان وارتفاع معدلات الجريمة. وعلى العكس من الكاتب الأميركي من أصول هندية شيرمان إليكسي الذي استعان بالكوميديا والسخرية من أبناء جلدته لنقد عاداتهم وأوضاعهم المتردية، تنزع إردريك في رواياتها إلى إنارة هذه العادات في قالب شعري ورومانسي وإن لم يفتقر أبدا، إلى صدق التناول. تفوح روايتا "عقار الحب" و"تفشي الحمام"، اللتين وصفهما فيليب روث "بالتحفة المبهرة"، بعبق كل من الكاثوليكية -دين إردريك طفلة- والروحانيات الهندية. تدين إردريك المد اليميني المتطرف الذي غزا الآن الكنيسة، إذ تصرّح "لم يعد الحال كما كان، انعدمت أقل رغبة في العثور على أرضية مشتركة". ولم تخف استياءها من رجالها لما يشمل الكنيسة من بطريركية وحط من قيمة المرأة، علاوة على "إخفاقها في تقبل المعتقدات الأخرى والاعتراف بجرائم الماضي"، رامية القساوسة المتحرشين بالأطفال "بالقوى الشيطانية". هندية تورطت مع الشر يسري اعتقاد خاطئ بأن إردريك لم تكتب أدبا نسويا، ولم تعبأ به. فقصة "فلور" (1985) مزيج جميل من النسوية وإرث الهنود الحمر. إن فلور امرأة "شذّت أطوارها، فلتت من كل سيطرة. تورطت مع الشر، سخرت من نصيحة السيدات العجائز وارتدت ملابس الرجال. انهمكت، في طب شبه منسي ودرست، طرقا، لا يصح لنا الحديث عنها". وكذلك هزمت الرجال في البوكر في وقت اعتقد فيه الرجال أن فهم امرأة للعبة أمر لا يصدقه عقل. تراث الهنود الحمر بين عنف المستعمر وانهيار الحاضر لقد اغتصب الرجال البيض الهندية، وتروي المؤلفة الواقعة بقلم متمكن وسرد بالغ القسوة. وفي حواراتها تشير إلى أن العدالة في المحميات مراوغة تستعصي على التحقق. فمن بين ثلاث هنديات تتعرض واحدة لجريمة جنسية، أغلبها بواسطة البيض، ولا سبيل إلى مقاضاتهم، ولو تمّ اتهامهم فلا تصل القضايا إلى المحاكم. تعتقد أن ثقافة التفوق العرقي والتعالي الذكوري هما ما مهّدا إلى هذا الانتهاك وأفضيا إليه، مرددة صدى اعتقاد الناقدة الأميركية أندريا دوركين بأن الاغتصاب ليس تجاوزا أو انحرافا، ليس مصادفة أو غلطة -إنه يجسد الجنسانية كما تعرّفها الثقافة، "ما دامت هذه التعريفات تظل دون تغيير، أي ما دامت الثقافة تعرّف الرجال بأنهم معتدون جنسيون، وتعرّف النساء بأنهن متلقيات سلبيات تنقصهن الاستقامة، سوف يغتصب نماذج الرجال الممثلين لهذا المعيار النساء". تعنى إردريك بكل مشهد من مشاهدها القصصية، وتصفه وصفا معقد التفاصيل، يجمع بين الرقة الشعرية والقوة السحرية مما شجع النقاد على مقارنتها بويليام فوكنر وماركيز. وسوف نلفي سردها لصراع بين أحد الأشرار وخنزيرة مثالا، للكمال الأدبي المجرّد، "وما حاول ليلي أن يندفع حتى رفعت، الخنزيرة رقبتها القوية لتفاجئه بضربة خاطفة عنيفة كما الحية. غاصت نحو خصره السمين منتزعة ملء فمها من قميصه. عادت إلى الطعن لتصيب أسفل جسمه فتصاعد منه نخير يشي بدهشة مؤلمة. بدا كمن يتفكر وهو يلتقط نفسا عميقا. وبعدها أطلق بدنه الهائل ليغطس مثلما يغطس السباح". "ندّت من الخنزيرة صرخة وجسمه يرتطم بجسمها. انقلبت ضاربة بحوافر حادة حدة السكين، استجمع ليلي قواه فوقها فأمسك بوجه بطول القدم من أذنيها ثم حك خطمها وخدّيها على دعائم الزريبة. رشق عمودا حديديا، بجمجمة الخنزيرة المشدودة، ولكنه بدلا من صرعها قتيلة أيقظها من حلمها". "شبّت صارخة فضغط عليها بقوة هائلة حتى إن كليهما استند إلى الآخر واقفين في عناق قائم. انحنيا انحناءة متشنجة وكأنما ليبدآ. وبعدها لوّح بذراعين خبطتا بلا كابح. غارت أنيابها السوداء في كتفه تعانقه، تراقصه إلى الأمام وإلى الخلف عبر الزريبة. تسارعت خطواتهما وانقلبت جامحة. هبط الاثنان وكأنهما واحد، رقصا بخطوات ترسم مربعا، تعثّر كلاهما بالآخر. أجرت قدمها المفلوقة على شعره. قبض على ذيلها الملتوي. نزلا ثم ارتفعا، الشكل نفسه ثم اللون نفسه إلى أن عجز الرجلان عن التمييز بين الاثنين في ذلك النور". جمال أبدي تشهد قصتها "شامينجوا" المنشورة في كتاب "أفضل القصص القصيرة الأميركية 2003″ أن الهنود الحمر عرفوا الموسيقى و"الجمال الأبدي للنغمات المطردة" قبل غزوة الرجل الأبيض. لم تكن تحذيرا أو إشعارا، وإنما نشوة ومتعة، جمال خامره شيء من الإلهية كما اعتقدوا. شابته فتنة الوحدة والألم والقوة والحرية وجمال الطبيعة مثلما عبّر عنه الملحن البريطاني بنجامين بريتن. النهاية الساحقة لكل صناعة إنسانية تتحقق عند إحراز السعادة وفي قصتها "الطبلة ذات الرسم" (2003) سنستحضر قول الفيلسوف الأسكتلندي ديفيد هيوم إن النهاية الساحقة لكل صناعة إنسانية سوف تتحقق عند إحراز السعادة. فمن أجلها تمّ ابتداع الفنون ورعاية العلوم وسن القوانين وتشكيل المجتمعات على أيدي أعمق الوطنيين والمشرعين حكمة. بل إن البدائي الوحيد، الراقد معرضا، لقسوة العوامل الجوية وضراوة الوحوش لا ينسى ولو للحظة هذا الهدف الأعظم لكيانه. لا تتوانى إردريك في كل مناسبة في التشديد على أن الهنود الحمر لا يعكسون ثقافة واحدة، وإنما عدة ثقافات ثرية تكاد تنقرض الآن. تقبض رواياتها على التنافر العرقي في ولايات المحميات، لا تناغم يخيّم على الهندي والأبيض، إنه انفصال، وليس مزيجا. التوتر العرقي والعدالة إن الكراهية العرقية، ومن ثم اضطهاد الهنود الحمر، ليسا مجرد تاريخ منقض، فلهما تبعات تسري من جيل إلى آخر. واليوم مع أزمة العرق المتجددة في أميركا واستفحال وتيرة العنف ضد الأميركيين من أصل أفريقي، يستدعي أدب إردريك وتوني موريسون وإدوارد بي جونز نظرة أعمق وتحليل أدق. فالأدب بطبيعته لا يوجه الاتهامات أو يصدر الأحكام. تصطف فيه كل الوجوه بألوانها المختلفة عارية من أيّة أفضلية. ومع أن إردريك تتجنب النقد السياسي المباشر، تتعاطى في رواية "المنزل المستدير" بجلاء مع مفهوم العدالة القضائية، معناها وجدواها، انتهاكها السافر والسلطة تستغل العنف وترفع السلاح، سلاحا قانونيا، وإن لم يكن شرعيا،، تصوبه الحكومات الأميركية المتتابعة في وجه الهنود الحمر. ها هي قوانين قبلية عاجزة عن محاكمة البيض لتعارضها مع القضاء الفيدرالي، ومحاكم "بيضاء" تحكم عشوائيا واعتباطيا، على الهنود بدون أيّة أدلة مادية. وكيف للعدالة أن تتحقق في ثقافة شائعة تصِمُ الهنود بالتخلف والبربرية حتى وقتنا هذا.