الإحاطة بجبرا إبراهيم جبرا في مقالة اختزال فادح، ليس فقط لأنه متعدد الأنشطة الإبداعية والثقافية، بل لأن هذه البانوراما تستدعي على الفور نصف قرن على الأقل من الكدح المعرفي، لكن ذكراه بعد عقدين من الرحيل جديرة بما هو أبعد من الطقس الموسمي للوداع، خصوصا إذا كان الرحيل صامتا، كما حدث لجبرا في بغداد، لاستغراق الناس الذين أحبوه، ومنهم تلاميذه في شجون فرضها التاريخ الغاشم، بحيث أصبحت بغداد التي اشتق من اسمها فعل التبغدد كدلالة على الرفاهية توأما وقرينا للدم الذي لم يتوقف نزيفه بَعْد من خاصرتيها. عانى جبرا حيّا وميتا من تعدد أنشطته في ثقافة عربية لاذت بالخانات لتصنيف المبدعين بين شاعر وروائي وقاص ومترجم وناقد، بحيث يتاح للنوايا أن تواري أي صفة من هذه الصفات خلف غيرها، خصوصا أن مفهوم الشعرية لم يتحرر بعد من أوهام وادي عبقر، فما أن يكتب الشاعر نقدا أو رواية حتى تكون الفرصة مواتية لحذفه من خانة الشعراء، وتصبح الإضافة بهذا المقياس طرحا. كان لجبرا دور ريادي في الحداثة، فهو مبشّر بحساسيتها بما كتب وترجم، خصوصا كتاب «الغصن الذهبي» لجيمس فريزر، الذي سرعان ما تحوّل لدى جيله من الشعراء إلى نبع ينهلون منه رموزهم ومحاولة بعضهم عصرنة الأساطير. وقد وجدت بعد إعادة قراءة المقدمات التي كتبها لشعراء أنها بحدّ ذاتها ومن خلال حاصل جمعها مانفستو مكتمل الشروط والعناصر لإخراج الحداثة من نطاق التجريد إلى الميدان، فهو كان يحاول زحزحة الباب العملاق في مناخ مشحون بمضادات التحديث، وأحيانا الذهاب إلى ما هو أبعد، لأن توثين الماضي لمجرد أنه مضى يعادله تأثيم وتجريم الحاضر، إذا جازف بالانعتاق من نماذجه، وتلك صفة اشترك فيها جبرا مع يوسف الخال، الذي تنطبق عليه أكثر من سواه صفة الصانع الأمهر التي أطلقها ت . س . أليوت على إزرا باوند. وكان باوند قد اقترح تغييرات في قصيدة «الأرض اليباب» لأليوت، مما دفع هذا الأخير إلى القول إن أقصى نقد تطبيقي يمارسه الشعراء أنفسهم وتشهد على ذلك مسوداتهم المليئة بالحذف والإضافة . جبرا شاعر توارى إلى حد كبير خلف جبرا الروائي والمترجم والناقد، وكذلك جبرا الرسام وناقد الفن التشكيلي، وهذا أيضا قاسم مشترك بين أصحاب النشاط المتعدد، ومنذ روايته «صيادون في شارع ضيّق» بدأ جبرا يبث سيرته الذاتية في ما يكتب، لكنه احتفظ بالكثير منها كي يفرد له ثلاثة كتب موضوعها هو السيرة الذاتية، وما احترازات جبرا في مقدماته لرواياته، ومنها قوله لا علاقة لهذه الشخوص بأي شخصيات واقعية، إلا بمثابة نفي يؤدي إلى الإثبات فلا شك أن هناك شيئا من سيرته في رواية «البحث عن وليد مسعود»، و»صيادون في شارع ضيّق» وقصص «عَرَقْ» المبكرة والغرف الأخرى ايضا، لهذا كنت أداعبه وهو جاري لخمسة عشر عاما وأقول له البحث عن جبرا وليس وليد مسعود، لقد جاء الفتى المقدسي إلى بغداد مثقلا بذاكرة تعجّ بالمآسي، ويبدو أن ما قاله المتنبي عن أهل العزم شمل جبرا، فأتت عزائمه في الكتابة على هذا النحو الكثيف والمتعدد، وتشاء المصادفة أن تستكمل التراجيديا دائرتها بقصف بيت جبرا بعد رحيله، بحيث تتحول كتبه ولوحاته إلى رماد، ومنها لوحة رسمها أحد أصدقائه بعنوان «صورة الفنان شابا»، على غرار ما كتبه جيمس جويس في روايته «صورة الفنان شابا»، وخلال عقدين لم يجد غياب جبر وفاء من الأحياء لاستذكاره، فنحن نعيش في زمن لا يذكر الناس فيه موتاهم لأكثر من عام، كما قال ناظم حكمت في رسالة إلى زوجته. * * * ترجم جبرا العديد من الكتب ذات الأهمية البالغة منها «الغصن الذهبي» و«ما قبل الأساطير» و»البير كامو» وغيرها، لكن مشروعه الشكسبيري واراهما أيضا، لأنه استضاف هذا العملاق المسرحي إلى اللغة العربية بأمانة وأحس كما قال بأنه كان يتنفس من رئة شكسبير. وهناك تجربة فريدة خاضها جبرا مع عبد الرحمن منيف هي الرواية المشتركة «عالم بلا خرائط « وراهن الاثنان على تعذّر الفصل بين أسلوبيهما، لكن الرواية التي يؤلفها اثنان أشبه بامرأة ذات زوجين، إذ لا بد في النهاية من المفاضلة بينهما، وإذا كان العالم المتخيل لديهما بلا خرائط فإن الرواية ذات تضاريس لغوية وأسلوبية يمكن للناقد الحصيف أن يشم رائحة منيف وجبرا في هذه الصفحة أو تلك. ومن أهم ما يميز جبرا ناقدا هو قدرته على تطوير وعيه وذائقته في التلقي، بحيث لا يشعر بأي حرج إذا أعاد النظر في ما كتب، ومثال ذلك مقالتان عن الجواهري ونزار قباني كتبهما جبرا في أوج سني نضجه وكانتا بمثابة اعتذار عما قاله مبكرا عن الشاعرين، وهو يذكّرنا باعتذار مماثل لجورج لوكاتش حين أعاد النظر في ما كتبه مبكرا عن الشاعر طاغور، ربما لهذا السبب كان جبرا يقول مازحا إنه على أبواب العشرين الرابعة من عمره، ومن عرفوه عن كثب لا بد أنهم يتذكرون تشبّثه بالحياة، وتحدي شيخوخة الجسد والعقل معا، وذات يوم ترجم شيئا من توماس هاردي، وردت فيه عبارة مفعمة بالمرارة تساءل من خلالها هاردي قائلا لماذا يبلى الغمد ويبقى السيف ماضيا، وبالنسبة لجبرا فإن الغمد هو الجسد أما السيف فهو الرّوح والجوهر. * * * السيرة الذاتية كما قدّمها جبرا ليست تقليدية فهي في جزء منها مبثوثة في نصوصه، وحين كتب «البئر الأولى»، كرّسها لمرحلة الطفولة فقط، والبئر في الذاكرة الفلسطينية رمز للحياة والبيت الذي يخلو منها أشبه بصحراء، وأحيانا أتصور بأن رمز البئر كما استخدمه الراحل يوسف الخال بقي ماكثا في ذاكرة جبرا الذي كان من أقرب أصدقائه، لهذا لم يشأ جبرا أن تبقى البئر مهجورة كما قال يوسف الخال، يمر بها الناس ولا يرمون فيها حجرا تماما كما هو حال جاره العزيز إبراهيم في قصيدة «البئر المهجورة». إن جبرا الفلسطيني والعراقي بقدر ما هو شكسبيري لم يكن ذلك اللامنتمي، كما وصفه خصومه من المؤدلجين وذوي الفتاوى الدوغمائية، فاتساع الثقافة شرط لاتساع الأفق وبالتالي لمعانقة المطلق البشري، لكن من دون التخلي عن الجذر، وأذكر أن جبرا قال في حوار أجري معه في مجلة «الكاتب الفلسطيني» التي كانت تصدر في بيروت وبالتحديد عام 1980 أنه إن لم يكن فلسطينيا فهو ليس شيئا على الإطلاق. رحل جبرا وفي حلقه غصّة بعد أن رأى المدينة التي أحبّ تحترق، وشارع الأميرات يخلو من المارة، بحيث تقطعه القطط بهدوء وحرية، وكانت له أرملتان بخلاف الآخرين، زوجته لميعة التي سبقته لتشعل القنديل في بيته الآخر، ومكتبته التي لم تسلم من الحريق وهذا أمر يتجاوز المصادفة العمياء لتكون له دلالة تراجيدية تليق بمن جعل شكسبير يتحدث بالأبجدية. كاتب أردني خيري منصور القدس العربي