صباح كل يوم جديد تستقبل المدن الأوروبية أعدادا من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين الذين تقذف بهم المراكب المتهالكة على شواطئ إيطاليا واليونان وهؤلاء هم المحظوظون الذين نجوا من المغامرة المهلكة بعد أن غرق بعض زملائهم في قاع البحر. الناجون من الهلاك في البحر فيهم نساء وأطفال وصبية وشباب وفي بعض الحالات أسر بكاملها بلغ بها اليأس من واقعها البائس أن تقدم على هذه المغامرة غير المضمونة النتائج، هؤلاء الناجون يعتبرون أنفسهم قد حققوا الخطوة الأولى في مشروع حياتهم الجديدة ويدركون في الوقت نفسه أن أمامهم عقبات جديدة عليهم أن يتخطوها وقد لا تكون أقل خطورة من المخاطر والأهوال التي عاشوها في عرض البحر وتحت قبضة عصابات المتاجرين بالبشر ومن تتهيأ له الفرصة لكي يسمع قصص وتفاصيل تلك الأهوال من أفواه الناجين من رحلة الموت كما تهيأ لي هذا الأسبوع وأنا في زيارة قصيرة لبعض العواصم الأوروبية، يدرك مدى الخطر الذي تعرض له هؤلاء البشر ويقتنع بأن المرء الذي يقدم طواعية على مثل هذه المغامرة القاتلة لا بد أن يكون اليأس قد وصل به إلى ذروته. إنها رحلة خطيرة تبدأ من قلب القارة الإفريقية وتواجه أهوال اجتياز دول إفريقية تحت إرشاد عصابات تخصصت في تهريب البشر وامتلكت من الخبرة والإمكانات ما يجعلها تعرف كيف تتفادى نقاط المراقبة ومواقع الشرطة مقابل أجور خيالية يدفعها الراغبون في الهجرة دون أي ضمان لوصولهم لمقاصدهم بل ثمة احتمال أن يحتجزهم المهربون ويساوموا أهلهم على فدية مقابل إطلاق سراحهم، لكن الذي ينجو من الاحتجاز والفدية عليه أن يكمل رحلة برية عبر الجبال والوديان والصحارى المهلكة قبل أن يصل إلى سواحل ليبيا أو سواحل مصر. هناك تنتظره المغامرة الأشد خطورة وهي عبور البحر الأبيض المتوسط على متن قوارب صغيرة تحمل بأضعاف حمولتها وهي قديمة ومتهالكة ولا تصلح لمثل هذه الرحلة فهي غير مجهزة لها، ويواجهون مخاطر الجوع والعطش إضافة إلى مخاطر الغرق ولا يسمح حيز المركب لأي راكب بأكثر من المساحة الصغيرة التي يجلس فيها وسط مجموعات ملأت كل فراغ في المركب بحيث لا يستطيع أن يتحول عن مجلسه ذلك دون أن يعرض المركب كلها للخطر. وعندما تتوسط بهم السفينة البحر تصل المغامرة ذروتها عندما تتقاذفهم الأمواج ويسقط بعضهم ليغرق دون أن يجرؤ أحد على مساعدته حتى تجاوز عدد الغرقى هذا العام ألفي شخص وكل من يمرض في القارب لا علاج له وإذا مات فالبحر قبر كبير في انتظاره. المحظوظون هم الذين يقعون في قبضة حرس السواحل وسفن المراقبة الأوروبية التي تنقلهم إلى البر ويبدأ تسجيل أسمائهم واحتجازهم والتحقيق معهم ثم إدخالهم في معسكرات لكن ما من أحد قام بهذه المغامرة لينتهي محجوزا في معسكر ولا يلبثون أن يتسللوا من المعسكر بالتعاون مع عصابة أخرى ليتسللوا من إيطاليا أو فرنسا إلى البلد الذي يريدون في القارة، ومرحلة الانتشار هذه لها أيضاً مخاطرها لكنها بالنسبة للكثيرين هي بداية المرحلة الأخيرة حيث تتصاعد آمالهم في الإقامة بصورة شرعية أو غير شرعية في بلد أوروبي. أمام هذه الظاهرة غير المسبوقة بدت كل الدول الأوروبية عاجزة عن التعامل مع هذا الطوفان البشري فميناء كالي الفرنسي يحيط به اليوم خمسة آلاف لاجئ إفريقي بعد أن قاموا بمحاولتين لاقتحام المدخل وعبور نفق المانش إلى بريطانيا، ورغم كل جهود الشرطة الفرنسية فما زالوا يتوقعون محاولات جديدة للعبور. محاولات العبور الأولى نتج عنها دهس شخص تحت عجلات إحدى الشاحنات وبعد المحاولة الثانية دشن مهاجر سوداني (عبدالرحمن هارون - 40 سنة) أول نجاح في اجتياز نفق المانش (50 كيلومترا) مشياً على الأقدام، مغامرة لم يسبق إليها أحد وما زال مصممو النفق حائرين كيف حققها الرجل رغم مخاطر القطارات فائقة السرعة والشاحنات والكوابل الكهربائية بل كيف تفادى عشرات الكاميرات الأمنية المنصوبة داخل النفق. وانتشر الآلاف عبر أوروبا ولم تنجح كل الجهود الأمنية في وقف حركتهم ووقفت الدول الأوروبية عاجزة أمام هذا الزحف الذي لا ينقطع ورغم فشل كل المحاولات السابقة ما زالت الدول الأوروبية تبحث عن حل أمني أو شرطي يحمي حدودها وهي تدرك أنها لن تحقق ذلك. قضية الهجرة الإفريقية قضية ذات أبعاد اقتصادية وسياسية واجتماعية وظاهرة بكل هذه الأبعاد لا يمكن معالجتها حصرياً بأسلوب أمني وينبغي أن تدرك أوروبا والمجتمع الدولي ذلك، هناك بعض المحللين والمعلقين الأوروبيين نبهوا لذلك مطالبين بمعالجة القضية معالجة جذرية تتعمق في إدراك أبعاد هذه الظاهرة الاقتصادية والاجتماعية ومعالجة الداء وليس أعراضه لكن أصواتهم ما زالت خافتة لأن هناك موجة من العداء تسود أوروبا بسبب الهلع الذي أصاب المواطنين العاديين في أوروبا من جراء وصول هذا الطوفان البشري، لكن صناع القرار مطالبون بالتعامل مع القضية في أبعادها الحقيقية. لقد سعى الأفارقة إلى توضيح هذه الحقائق وطرحوا أفكاراً في هذا الصدد وفي مؤتمر التنمية الذي انعقد الشهر الماضي في نيروبي بحضور الرئيس الأميركي باراك أوباما طرحوا مقترحات لإصلاح شروط التجارة الخارجية في محاولة لإزالة بعض المظالم التي يعاني منها الاقتصاد الإفريقي. لكن المقترحات الإفريقية لم تتم إجازتها، وقد آن الأوان للدول الإفريقية -وهي مصدر هذه الهجرة والمسؤولة عن حماية مواطنيها المهاجرين- أن تنقل هذه القضية للمنابر الدولية وترتفع بمستوى المعالجة إلى المستوى الاقتصادي والاجتماعي وإصلاح الخلل في النظام الاقتصادي العالمي الذي يقتحم حدود دول العالم ويفتحها أمام التجارة وأمام الاستثمار وأمام الشركات عابرة الحدود، ثم يغلقها أمام البشر، وأمام إصلاح النظام الاقتصادي الدولي. [email protected] العرب