أثبتت الدراسات العلمية أن ضغوط العمل الكبيرة تزيد من احتمال وجود الأمراض بنسبة 35 بالمئة، وأن ساعاته الطويلة ترفع فرصة الوفاة المبكرة بنسبة 20 بالمئة، إلا أن الكثير من الباحثين توصلوا إلى أن التواصل الإيجابي بين الموظفين وخلق أجواء من المرح والاسترخاء لفترات متقطعة يخففان حدة التوتر ويبعثان شحنة حيوية قادرة على تعزيز المناعة أمام جملة من الأمراض النفسية المزمنة. العرب سارة عوض رغم أن العمل يجلب لصاحبه الكثير من الضغوط النفسية والعصبية التي تؤرقه وتسلب منه صحته وعمره، كشفت دراسة حديثة أجريت في جامعة لايبزيغ الألمانية، أن الاندماج في محيط العمل يعد وسيلة فعالة لعلاج الكثير من الاضطرابات النفسية. وينصح خبراء المرضى بالبحث، سريعا، عن عمل لأنهم يرون فيه أفضل وسائل الإدماج في المجتمع وأكثرها بعثا للثقة في النفس، على أن تتمّ متابعتهم بدقة خلال فترة العمل، إذ يؤكد رئيس جمعية "غيزوندهايتسشتات برلين" أولف فينك، أنَّ "العمل هو الطريق للصحة كما أنَّه المفتاح الأساسي للمشاركة الاجتماعية". ويضيف، "العمل يرسخ مكانتك في المجتمع ويعطي معنى للحياة وأهمية للإنسان". ويرى أطباء نفسيون أن من أصابتهم المشاكل النفسية أثناء العمل واضطروا إلى التوقف، من المهم العمل على إعادة دمجهم مرّة أخرى في سوق الشغل. وتوضح بيانات رصدها معهد "روبرت كوخ" الألماني، أن هناك علاقة متكاملة بين الصحة النفسية والعمل، إذ تشير الإحصائيات إلى أنَّ صعوبة حصول المصابين بأمراض نفسية، على عمل يزيد بمقدار 15 مرة مقارنة بالأصحاء، وفقاً لتقرير نشرته مجلة "در شبيغل" الألمانية. وأوضح أخصائيون أن رفض إعادة إدماج المرضى داخل العمل تزيد من استفحال حالتهم بدل معالجتها. ويميل الأطباء حالياً إلى تقليل فترات الإجازات المرضية للمصابين بمشاكل نفسية، إذ يؤكّد علماء النفس أنَّ النشاط مفيد ويساعد في تجاوز المرض بشكل أسرع، وبالتالي فإنَّ الأفضل هو النزول إلى العمل وليس العطلات المرضية الطويلة التي تؤدي مع الوقت إلى بناء حاجز بين المريض والمجتمع. ويحاول الأطباء زيادة الوعي في المجتمعات لتتقبل الأوساط العملية وجود شخص مصاب باضطراب نفسي بينها، والأهم بناء الثقة حتى يستطيع المريض أن يتكلم ببساطة عن معاناته، دون الخوف من أن تستخدم هذه الأمور ضده. وأكد توماس كلوسين من المركز الوطني لبيئة العمل في كوبنهاغن، بأنه وزملاءه قاموا بدراسة تأثير الترابط العاطفي على نفسية ورفاه وصحة ما يقرب من 5000 عامل، قسموا إلى مجموعات. وأظهرت النتائج مستويات رفاهية أعلى بين العاملين في المجموعات التي تمتعت بالترابط العاطفي، وأن تعزيز هذا الارتباط قد يساعد أيضا في معالجة ارتفاع معدلات الإصابة بالأمراض والإرهاق بين العاملين. وفي دراسة قامت بها شركة الرعاية الصحية الخاصة "بوبا"، أجريت على أكثر من 500 امرأة نجت من سرطان الثدي كن يعملن خلال فترة التعافي، وجدت أن 89 بالمئة منهن يعتقدن أن العمل منحهن شيئا إيجابيا ليركزن عليه، بينما رأى 96 بالمئة منهن أن العمل مَثَّلَ إلهاء جيدا بعيدا عن التركيز السلبي في المرض. وقالت الدكتورة فيونا أدشيد، رئيسة قسم الصحة العامة في شركة بوبا "إن هذا البحث يبين أنه بالنسبة إلى بعض الأفراد، فإن بيئة العمل يمكن أن تقوم في الواقع بدور علاجي". وأضافت "بالنسبة إلى البعض، فإن العمل يمثل استمرارية لحياته الطبيعية خلال اضطرابات التشخيص والعلاج". ويؤكد د. جمال فرويز، استشاري الصحة النفسية، أن العمل يحصن النفس من الاضطرابات النفسية وله دور كبير في اكتساب الفرد قدرا كبيرا من التوازن النفسي والثقة بالنفس والحماية من الضغوط النفسية كالاكتئاب وغيره. ويذكر أن لأجواء العمل تأثيرا كبيرا على الموظفين، ففي الوقت الذي تعمق فيه الخصومات والغيرة وشدة التنافس وغياب التواصل بين الموظفين حالة التوتر، تساعد العلاقات المترابطة والمزح والضحك ومشاركة الطعام على تحسين المزاج ومن ثم رفع الإنتاجية والقدرة الإبداعية. وأثبتت الدراسات أن الشخص الأكثر حباً لعمله، هو من لديه نشاط أكبر، وأن السعادة تكمن في حبك كموظف لعملك، ورغبتك في تحسين أدائك نحو الأفضل، وتحاشي التحكم في الآخرين. ويلفت فرويز إلى أن الفرد يستمد شعوره من خلال العمل بأن له دورا إيجابيا وفعالا في المجتمع، وبالتالي الإحساس بقيمة الذات خاصة بالنسبة إلى الرجال. فالرجل يجد في العمل كيانه ووجوده كله لا سيما في المجتمعات الشرقية التي تعتبر العمل جزءا من رجولته لأنه المسؤول عن إعالة أسرته مادياً. وحينما يفقد هذا الدور تزيد من شعوره بالاغتراب والعجز والعديد من المشكلات النفسية لديه. وهو ما يفسر أن ارتفاع نسب البطالة بين الشباب والرجال في الكثير من الدول النامية كثيراً ما يؤدي بهم إلى الانحرافات السلوكية والنفسية، وربما قد يصل بهم الأمر إلى الانتحار.