رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يتفقد عمليات تأهيل مطار عطبرة ويوجه بافتتاحه خلال العام    مسؤول بالغرفة التجارية يطالب رجال الأعمال بالتوقف عن طلب الدولار    هيومن رايتس ووتش: الدعم السريع والمليشيات المتحالفة معها ارتكبت جرائم ضد الإنسانية وتطهيراً عرقياً ضد المساليت.. وتحمل حميدتي وشقيقه عبد الرحيم وجمعة المسؤولية    مصر تكشف أعداد مصابي غزة الذين استقبلتهم منذ 7 أكتوبر    لماذا لم يتدخل الVAR لحسم الهدف الجدلي لبايرن ميونخ؟    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    مقتل رجل أعمال إسرائيلي في مصر.. معلومات جديدة وتعليق كندي    أفضل أصدقائي هم من العرب" :عالم الزلازل الهولندي يفاجئ متابعيه بتغريدة    توخيل: غدروا بالبايرن.. والحكم الكارثي اعتذر    النفط يتراجع مع ارتفاع المخزونات الأميركية وتوقعات العرض الحذرة    النموذج الصيني    تكريم مدير الجمارك السابق بالقضارف – صورة    غير صالح للاستهلاك الآدمي : زيوت طعام معاد استخدامها في مصر.. والداخلية توضح    مكي المغربي: أفهم يا إبن الجزيرة العاق!    الطالباب.. رباك سلام...القرية دفعت ثمن حادثة لم تكن طرفاً فيها..!    موريانيا خطوة مهمة في الطريق إلى المونديال،،    ضمن معسكره الاعدادي بالاسماعيلية..المريخ يكسب البلدية وفايد ودياً    بأشد عبارات الإدانة !    السودان.. مجلسا السيادة والوزراء يجيزان قانون جهاز المخابرات العامة المعدل    ثنائية البديل خوسيلو تحرق بايرن ميونيخ وتعبر بريال مدريد لنهائي الأبطال    شاهد بالصورة والفيديو.. خلال حفل مصري حضره المئات.. شباب مصريون يرددون أغنية الفنان السوداني الراحل خوجلي عثمان والجمهور السوداني يشيد: (كلنا نتفق انكم غنيتوها بطريقة حلوة)    ضياء الدين بلال يكتب: نصيحة.. لحميدتي (التاجر)00!    شاهد بالفيديو.. القيادية في الحرية والتغيير حنان حسن: (حصلت لي حاجات سمحة..أولاد قابلوني في أحد شوارع القاهرة وصوروني من وراء.. وانا قلت ليهم تعالوا صوروني من قدام عشان تحسوا بالانجاز)    شاهد بالصورة.. شاعر سوداني شاب يضع نفسه في "سيلفي" مع المذيعة الحسناء ريان الظاهر باستخدام "الفوتشوب" ويعرض نفسه لسخرية الجمهور    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    الجنيه يخسر 18% في أسبوع ويخنق حياة السودانيين المأزومة    إسرائيل: عملياتنا في رفح لا تخالف معاهدة السلام مع مصر    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    الخليفي يهاجم صحفيا بسبب إنريكي    الولايات المتحدة تختبر الذكاء الاصطناعي في مقابلات اللاجئين    كرتنا السودانية بين الأمس واليوم)    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    العقاد والمسيح والحب    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أم العبقريات\": أكذوبة 'إذهب إلى القصر رئيسا...و سأذهب إلى السجن حبيسا‘!ا
نشر في الراكوبة يوم 29 - 06 - 2011

بحلول هذا اليوم تكون قد مرت علينا إثنان و عشرون عاما بالتمام و الكمال منذ أن قال حسن الترابي قولته الملعونة تلك،"إذهب إلى القصر رئيسا..وسأذهب إلى السجن حبيسا"، و التى أدخلت السودان فى نفق مظلم لم يستطع الخروج منه حتى وقتنا الراهن. وعلى الرغم من خروج الترابي نفسه، الظاهر للملأ، على الأقل حتى الآن، من سجن الإنقاذ الذى شيده بنفسه،'طوبة..طوبة‘، و بمهارة فائقة،إلا أن تلك المقولة قد حولت الوطن كله الى سجن كبير، حبست طاقات شيبه و شبابه، و أقعدته عن النمو و التطور، وقادته الى التشظي و التفكك، و أصبح العيش بين جنباته بمثابة أفضل "بروفة" للعيش فى جهنم!
أصدر الترابي تلك 'الفتوى‘ لتلميذه المخلص، العميد وقتها عمر البشير، مساء ذلك الخميس الحزين الموافق التاسع و العشرين من شهر يونيو من عام 1989م، فى ذات الوقت الذى كان أعضاء البرلمان المنتخب، بمن فيهم نواب الجبهة الإسلامية القومية، يناقشون فيه خطاب الموازنة السنوية للدولة. فى مثل هذه الأجواء الديمقراطية، المفعمة بعبق الحرية التى سمحت للكل تناول خطاب الميزانية بالتحليل و النقد الذى لا تحده حدود، و الذى وصل درجة سمحت لزعيم المعارضة الديمقراطية، السيد محمد إبراهيم نقد، أن يصف فيه الميزانية المقدمة من قبل السيد وزير المالية، بالوصف الذى سارت به الركبان قائلا، "إن هذه ميزانية إنقلاب عسكري"، كانت طيور الظلام، ممثلة فى قيادات الجبهة الإسلامية، تتآمر وتعد العدة لتنفيذ إنقلابها المشؤوم، وكأن السيد نقد كان يعلم بذلك!؟
وقد نفذ 'الحوار‘ المخلص فتوي شيخه صبيحة تلك الجمعة البائسة، الموافقة للثلاثين من شهر يونيو 1989م، حين أطل على الشعب السوداني ذلك الضابط المغمور، ليعلن من خلال أجهزة الإعلام، بأنه قد إستولى على السلطة السياسية فى إنقلاب عسكري بإسم القيادة العامة للقوات المسلحة، أسماه "ثورة الإنقاذ الوطني"، حيث أثبت التاريخ ، و تجربة الإنقلاب نفسه، بأنه ليس بثورة، أو إنقاذ، أو وطني. بل هو على عكس ذلك تماما، كما سنرى لاحقا فى ثنايا هذا المقال. لقد قاد هذا الضابط المغمور ثلاثمائة فردا من الأفرع الهامشية للقوات المسلحة، كسلاح الموسيقى، والسلاح الطبي، ليهدم بها أركان النظام الديمقراطي الهش، الذى لم يتجاوز عمره الأربع سنوات. لقد كذب ذلك الضابط المغمور على الشعب السوداني حينما أعلن أن القيادة العامة للقوات المسلحة هي من خطط ونفذ ذلك الإنقلاب المشؤوم، حيث إتضح لاحقا بأن من قام بالتخطيط و التنفيذ لذلك الإنقلاب لم يكن سوى الجبهة الإسلامية القومية، تحت قيادة حسن الترابي، كبيرهم الذى علمهم السحر. وهذا هو السر فى نجاح الإنقلاب، و إستمراره، وتثبيت أقدامه.
إذن الذى نفذ إنقلاب الثلاثين من يونيو 1989م هي الكوادر المدنية القيادية للجبهة الإسلامية القومية، التى تم تدريبها تدريبا جيدا، وإعدادها خصيصا لهذه المهمة، داخل وخارج البلاد، وبالأخص داخل أراضي الجمهورية الإسلامية الإيرانية. هذه هي الكذبة الأولى التى ساعدت على نجاح الإنقلاب و تثبيت أركانه، بالإضافة الى العناصر المكونة لمجلس الإنقلاب، الذين لم يعرف عن معظمهم إنتماءهم للجبهة، أو حتى التعاطف معها، ولكنها شهوة السلطة هي التى قادتهم للإنضمام إليه، بعد نجاح الإنقلاب، و ليس قبله. وهل يعقل لضابط فى الجيش أن يرفض السلطة، وقد أتته جاهزة، كاملة الدسم، فى طبق من ذهب على باب داره؟! إذن لقد قام الترابي وربعه بتضليل معظم ضباط وجنود الأفرع الرئيسية للقوات المسلحة عبر هذه الكذبة البلقاء.
و إمعانا فى تضليل قادة القوات المسلحة، و الرأي العام السوداني بصورة عامة، فقد تفتقت "عبقرية" قادة الإنقاذ عن أكذوبة أخرى، أسميتها 'أم العبقريات‘، وهي إعتقال الترابي مع قادة الأحزاب الأخري داخل سجن كوبر الشهير. نعم لقد دخل الشيخ السجن بعد أن قام حواره بإعتقاله، أسوة بقادة الأحزاب الأخري، آمرا له قائلا 'أذهب الى القصر رئيسا...و سأذهب الى السجن حبيسا‘. لقد رمى الترابي من وراء هذه الأكذوبة ضرب عصفورين بحجر واحد. الأول هو إبعاد شبهة إنتماء الإنقلابيين للجبهة الإسلامية القومية وذلك من واقع إدخاله للسجن، أما الثاني فهو تمكنه من التجسس على قادة الأحزاب الأخرى المعتقلين معه بسجن كوبر، و إبلاغ تلاميذه من قادة الإنقلاب بما يفكر فيه هؤلاء القادة، و ما يقومون بإعداده من خطط لمواجهة الإنقلاب أولا بأول. إنها بالفعل 'عبقرية‘ لا تضاهيها سوى 'عبقرية‘ إبليس. الدليل على ذلك هو وجود هذا النظام الغاشم جاثم على صدر الشعب السوداني منذ إنزال تلك الكذبة البلقاء الى أرض الواقع، مجسدة فى دولة الفساد و الإستبداد، منذ الثلاثين من يونيو 1989م وحتى وقتنا الراهن.
لقد أسست تلك الأكذوبة لأن يصبح الكذب منهجا معتمدا للدولة الرسالية منذ ولادتها، ولكن خطره الحقيقي يكمن فى أنه أصبح مغلفا بإسم الدين الإسلامي الحنيف. لقد تمدد هذا المنهج عبر السنوات الطويلة لدولة البدريين كالحة السواد و أفرخ لنا نماذج و أصناف من الفقه لم ينزل الله بها من سلطان، من قبيل فقه الضرورة، وفقه السترة، وغيرها من أنواع الفقه 'الكيزاني‘ التى يشيب لها الولدان. لقد حلل قادة الدولة الرسالية، مستعينين بالفقه 'الكيزاني‘، معظم ما حرمه الله سبحانه و تعالى، بما فى ذلك ما حرمه القرآن الكريم فى نصوص صريحة وواضحة لا تقبل أي نوع من أنواع التأويل، أو 'الدغمسة‘، كتحريم الربا. لقد حلل علماء السلطان الجبهويين، على سبيل المثال لا الحصر، القروض الربوية لبناء سد مروي، وفقا لفقه الضرورة،مخالفين بذلك نصوص القرآن الكريم، ودون أن يرمش لهم جفن...فتأمل!!
إن سياسة التمكين، التى إبتدعها قادة الدولة الرسالية، والتى قضت تماما على الإقتصاد، وكذلك على نسيج المجتمع السوداني المتماسك، قد تأسست و إستندت على فقه الضرورة و السترة، الذي يمكن إعتباره منتج إنقاذي خالص، صنع خصيصا لتدمير السودان! هنا تبرز الأسئلة الملحة التى يتوجب مواجهتها و التفكير فى مغزاها من قبل الجميع، ولكن بالأخص من قبل أؤلائك البعض الذين لا يزالوا 'مخمومين‘ بكذب 'هؤلاء الناس‘. يجب توجيه تلك الأسئلة الى جميع قيادات الدولة الرسالية، و لكن أخص منهم أولائك النفر الذين يسمون أنفسهم ب 'هيئة علماء السودان‘، للإجابة عليها وهي، على سبيل المثال لا الحصر: ما هو حكم الشرع فى رجل حنث عن قسم أداه وهو على اليمين؟ ما هو حكم الشرع فى رجل أقسم على حماية الدستور، ثم نكص على أعقابه؟ ما هو حكم الشرع فى رجل أقسم على صيانة وحدة تراب الوطن ثم قام بتفتيته إربا إربا؟ ما هو حكم الشرع فى رجل أقسم على أن لا تطأ رجل جندي أجنبي واحد أرض السودان، و إذا بترابه الطاهر تدنسه أرجل عشرات الالآف من الجنود الأجانب، و لا تزال تستقبل المزيد منهم؟ ما هو حكم الشرع فى رجل أقسم على حماية المال العام وموارد البلاد ثم سمح بنهبها و 'لغفها‘ من قبل أقرب المقربين إليه، بما فى ذلك زوجه و إخوته؟ ما هو حكم الشرع فى رجل أقام نظاما إقتصاديا و إجتماعيا أفرخ الالآف من 'أولاد الحرام‘ الذين تغص بهم شوارع مختلف المدن و ملاجئها، وكل ذلك تحت راية دولة تتمسح بمسوح الدين الإسلامي الحنيف؟هل يمكن لرجل كذاب، و أقر بكذبه على الملأ، أن يصلح كقائد لأي جماعة، ناهيك عن أن يكون قائدا لشعب بأكمله؟ هل يمكن لأي مشروع قائم على الكذب الصراح أن ينتج خيرا لصاحبه أو لغيره؟ هذه بعض النماذج من الأسئلة التى يمكن طرحها، وهنالك العشرات، إن لم يكن المئات، من الأسئلة المشروعة التى يتوجب'شرعا‘على قادة الدولة الرسالية، وعرابها السابق، وعلمائهم ممن يتاجرون بالدين لتحقيق أغراض دنيوية رخيصة، الإجابة عليها.
و الآن فلنسأل أنفسنا: ما هي المكاسب التى جناها الشعب السوداني من وراء أكذوبة "أم العبقريات"؟ الإجابة البسيطة و المباشرة على هذا السؤال هي: الكوارث، و الفقر المدقع،و المجاعة، و المرض، و الجهل. بإختصار شديد الحصاد المر. نعم بالفعل لقد كان وقع سنوات دولة البدريين على السودان وشعبه مرا كطعم العلقم، فيما عدى متنفذي الدولة الرسالية، ومن لف لفهم، الذين وظفوا دولة الفساد و الإستبداد لخدمة مصالحهم الخاصة، ولا يهمهم بعد ذلك إن ذهب الشعب السوداني بأكمله الى الجحيم. و لنضرب الآن بعض الأمثلة للخراب الذى أحدثته دولة البدريين فى البلاد، و للحصاد المر الذى جناه الشعب السوداني، الصابر الصامد، بعد مرور كل هذه السنين العجاف من حكم الدولة الرسالية.
لقد إنهار الإقتصاد تماما. و إذا ما أخذنا معدل سعر صرف الجنيه السوداني كمؤشر لمدى قوة و متانة الإقتصاد لإتضحت لنا الصورة تماما. إن دولة البدريين قد بشرتنا فى أشهرها الأولى بأنه لولا العناية الإلهية، التي قيضت لشعب السودان نجاح إنقلاب الإنقاذ، لقفز سعر الصرف من 12 جنيه للدولار الواحد ليصبح معادلا ل20 جنيها. وبعد مرور 22 عاما من حكم التوجه الحضارى، فإذا بسعر صرف الدولار فى السوق الموازي يقارب الأربعة آلاف جنيه بالتمام و الكمال! إذا كانت زيادة 8 جنيهات على معدل سعر صرف الدولار قد إستوجبت عقوبة تمثلت فى كل هذا العذاب الإنقاذي للشعب السوداني، فيا ترى ماهو نوع العقوبة الذى تستوجبه زيادة أكثر من ثلاثة آلاف جنيه، على نفس سعر الصرف، على هؤلاء الأنبياء الكذبة؟
وقد نتج عن إنهيار الإقتصاد تفكك شبه كامل لنسيج المجتمع السوداني، إختفت على إثره معظم القيم و الخصال النبيلة التى كان يتصف بها السودانيون،و كانت مصدر فخر و إعزاز لجميعهم. لقد إختفت معظم القيم التى تجسد الإستقامة كالصدق، و المروءة، و الكرم، و الإيثار، و النبل، و الشهامة، وحل مكانها النقيض لها من قيم الشرائح الطفيلية التى تجسد الأنانية و حب الذات، كالكذب و الغش و التدليس و الرشوة و النصب و الإحتيال. وقد كان حصيلة هذا التفكك و التراجع الأخلاقي تحول المجتمع السوداني الى طبقتين: واحدة تعيش حياة الملوك، وهي القلة القليلة من قادة الإنقاذ و زبانيتها، الذين لا يتعدى عددهم1-2% من أفراد الشعب السوداني. أما الطبقة الأخرى فهي بقية الشعب السوداني الذى يعيش حياة الذل و الهوان نتيجة لحالة الفقر المدقع الذى جرته عليه سياسات الدولة الرسالية.
إن الفقر المدقع الذى يعيشه معظم أفراد الشعب لم يكن قدرا إلهيا نزل من السماء، و إنما جاء كنتيجة حتمية للنموذج الإقتصادي الذى طبقته الدولة الرسالية و المتمثل فى نهب ثروات البلد ومقدراته لمصلحة قلة قليلة دون وازع من دين أو خلق، وكأنهم أفراد جيش غازي للسودان. إن نهم النهب وحجم 'اللغف‘ الذى قام به قادة الدولة الرسالية، ودون أدنى رحمة، لموارد البلاد وثرواتها، قد قاد الى سؤال/مقال مبدعنا الراحل الطيب صالح،"من أين أتي هؤلاء الناس"؟ حكمة السؤال تتمثل في نتائج أفعالهم و ممارساتهم و ما جرته من كوارث على المجتمع.
تمثلت تلك الكوارث فى بروز ظواهر غريبة على مجتمع السودان، لم يألفها سكانه منذ أن تم تدوين التاريخ الحديث للبلاد. من منكم كان يتصور أن تقتات حرائر السودان من أثدائها، مما قاد الى بروز ظاهرة اللقطاء الذين تعج بهم دور مجهولي النسب؟ و من منكم كان يتصور أن يعجز رجال السودان عن إعاشة أبنائهم حتى إمتلأت شوارع مدنه بمن أصبح يعرفون بأطفال الشوارع و المشردين؟ ومن منكم كان يتصور أن يموت أكثر من سبعة و سبعين من هؤلاء المشردين، وهم على بعد أمتار فقط من مراكز الشرطة فى مدن العاصمة المثلثة، كما حدث خلال الأسبوع الماضي فقط،، دون أن تهتم دولة البدريين و أجهزتها الرسمية بتلك الظاهرة؟ و ما هو دور وزارة الرعاية الإجتماعية إن هي عجزت عن رعاية الأطفال مجهولي النسب والمشردين و إيوائهم؟ ومن منكم كان يتصور أن يموت إنسان السودان جوعا من إنعدام 'العيش‘، و أن تموت أنعامه جوعا من إنعدام العلف؟
أما المعادل الموضوعي لهذا الوضع البائس الذى يعيشه عامة الناس فهو حياة الرفاه و رغد العيش الذى ينعم به قادة الدولة الرسالية ممثلا فى التطاول فى البنيان، و إمتطاء 'صهوة‘ السيارات الفارهة ذات الدفع الرباعي، بمختلف أشكالها و أنواعها، و الكروش الممتلئة بمال السحت. لقد شيد 'هؤلاء الناس‘ القصور التى إستوردت بعض مواد بنائها و مفروشاتها، و أدوات زينتها، من مختلف الدول الأوربية، و التى تتوسط أحياء الكرتون و الصفيح التى يقطنها البسطاء من أبناء الشعب.
إن تدهور نظام التعليم و الخدمات الصحية قد كان معادلا موضوعيا أيضا لحالة النعمة و الرفاهية التى يعيشها قادة الدولة الرسالية. إن تدهور نظام التعليم، بشقيه العام و العالى، و الذى أحدثته ما أسموه ب"ثورة التعليم"، قد وصل مرحلة أصبح معه مستوى شهادات الجامعات السودانية يعادل، فى بعض البلدان، مستوى الدبلوم فقط، بل أصبحت الجامعات السودانية مرتعا لتعاطى المخدرات، حتى من قبل الطالبات، بدلا من أن تكون مكانا لتعاطى العلم. و بعد أن أجهزوا على نظام التعليم الذى أهلهم لتولى قيادة البلد، أصبحوا يرسلون أبنائهم و بناتهم لتلقى التعليم فى 'دول الإستكبار‘، بينما يتلقى أبناء و بنات الغلابة من أفراد الشعب تعليمهم فى فصول لا تتوفر فيها حتى أبسط مقومات العملية التعليمية، ككراسي الجلوس. و إمعانا فى 'تخانة جلدهم‘ أصبحوا لا يتورعون من تدشين حملات النفير لجمع التبرعات، فى مشروع أسموه، وبقوة عين يحسدون عليها، 'إجلاس الطلاب‘.ليس هذا فحسب، بل وصل الأمر بقادة الدولة الرسالية، درجة من اللامبالاة بمشاعر الآخرين منحوا فيها وكيل وزارة التربية و التعليم العام 'حافزا‘ بلغ 165 مليون جنيه، بالتمام و الكمال، بعد كل هذا الدمار الذى أحدثوه فى البنى التحتية للتربية و التعليم، وفى الوقت الذى يفترش فيه طلاب المدارس، التى تتبع لنفس هذا الوكيل، الثري لتلقى العلم...فتأمل!!
أما على مستوى الخدمات الصحية فحدث و لا حرج. إذ أصبح إبتعاث أيا من قادة و مسئولي الدولة الرسالية للعلاج بالخارج، ومهما كان نوعية الوعكة الصحية التى ألمت به، أمرا عاديا،وسياسة رسمية، كما حدث للسيد وزير الدفاع مؤخرا حينما سافر لتلقى العلاج بالمملكة السعودية إثر وعكة صحية طارئة، على الرغم من أن وزارة سيادته تمتلك السلاح الطبي بأكمله. بل لقد أصبح العلاج بالخارج حقا قانونيا بالنسبة لجميع قادة الدولة الرسالية و متنفذيها، كما نص على ذلك عقد عمل السيد مدير عام سوق الخرطوم للأوراق المالية. نعم، يلهث قادة الدولة الرسالية وراء تلقي العلاج بالدول 'الكافرة‘،بينما يموت أبناء وبنات الغلابة من بسطاء الشعب السوداني فى أزقة أقسام الحوادث، وبين عنابر المستشفيات، لأنهم قد عجزوا عن سداد فاتورة العلاج!
ليت "عبقريتهم" توقفت عند هذا الحد، بل إن دولة الفساد و الإستبداد قد بدأت عهدها بتشريد مئات الآلاف من موظفى الدولة، مدنيين و عسكريين، ممن يشك، مجرد الشك، فى ولائهم للدولة الرسالية، مما يعنى 'قطع رزق‘ عشرات الآلاف من الأسر، و حرمانها بالتالي من العيش الكريم الذى كان يوفره لها أربابها. ليس هذا فحسب، بل لقد وصل بهم الكيد للشرفاء من أفراد الشعب السوداني مستوى لم يخطر على بال بشر سوي، حيث قاموا بحرمان بنات و أبناء أولائك الشرفاء من الوظائف، وبالأخص فى القطاعات الحيوية، كالبترول و الإتصالات، التى أصبحت حكرا على أبناء قادتهم و سدنتهم و المؤلفة قلوبهم، و بالتالى حكموا على أولائك الشباب بالعطالة والتشرد داخل وطنهم. و إمعانا فى إذلالهم فقد كانوا يجبرونهم على دخول معسكرات التجنيد الإجباري ليتم بعدها الزج بهم فى إتون محرقة حرب الجنوب. ومن يرفض ذلك يتم إعدامه رميا بالرصاص، كما حدث لبعض الشباب فى معسكر العيلفون.
إن جهاز الدولة الذى تم تأسيسه على نهج "أم العبقريات" قد أصبح مثالا يشار إليه بالبنان على مستوى العالم كأسوأ نموذج للفساد و الفشل. لقد تصدرت الدولة الرسالية دول العالم فى هذين المجالين، و أصبح لا ينافسها فى ذلك سوى دول كادت أن تتلاش من الوجود كالصومال. و إن البرامج الإقتصادية التى طبقتها دولة البدريين طيلة سنوات عهدها الظلامي لم ينتج عنها سوى الجوع و المسغبة لأفراد الشعب، والتهميش و التشظى و التشرذم و التفتت للأقاليم المختلفة، و كاد السودان الذى كنا نعرفه أن يكون فى حكم العدم تحت حكم هؤلاء الطغاة، و كأنهم لم يسمعوا من قبل بوصايا أجدادنا التى أطلقوها منذ أزمان غابرة بضرورة الحفاظ على الوطن، و العض على وحدة ترابه بالأنياب و الأظافر!
نختم فنقول إن لكل أجل كتاب. و إن ظلم 'هؤلاء الناس‘ و الكوارث التى جروها على البلاد قد حتمت على شباب السودان أن يعقد العزم على الإطاحة بهذه العصابة الباغية، مصمما على إسترداد حريته ووطنه المسلوب، مهما كلفه ذلك من تضحيات. و أنه قد أدرك ضرورة تقديم كل مجرم من سدنة هذا النظام الباغى و المستبد الى أيدي العدالة لينال جزاءه، جراء ما إقترفت يداه من موبغات و جرائم فى حق الشعب و الوطن،و أيضا لكي لا يتكرر مثل هذا النوع من الجرائم مستقبلا إذا ما تمت معاملتهم وفق مسخرة 'عفى الله عن ما سلف‘ سيئة الصيت. و كذلك فقد صمم شباب الوطن على إسترداد الثروات التى نهبها هؤلاء الطغاة، و أفراد أسرهم، حتى و إن قاموا بتهريبها الى خارج البلاد، و أودعوها المصارف البريطانية، كما حاولت إحداهن مؤخرا. وقد عزم شباب هذا الوطن كذلك على تطبيق قانون من أين لك هذا على جميع أفراد هذه العصابة الفاسدة بهدف إسترداد جميع أصول و ممتلكات الشعب التى سرقوها و سجلوها بأسمائهم، أو أسماء زوجاتهم، أو أبنائهم، أو أقربائهم، و تجريدهم من كل الكسب الحرام الذى آل إليهم بواسطة أساليب الفساد و النصب و الإحتيال، و الغش و التدليس.
لقد أخذ شباب السودان على عاتقه كذلك تفكيك جهاز دولة البدريين، الذى أسس على نهج "أم العبقريات"، و الذى رسخ الفساد و الإستبداد، وكرس منهج الإقصاء، و أذل الشرفاء، ونكل بالمعارضين، وفتت تراب الوطن، و أذاق الشعب السوداني الأمرين، و إحلال دولة الوطن الواحد مكان دولة الحزب الواحد التى شيدها هؤلاء الأبالسة. تلك الدولة الديمقراطية الحرة التى ستحافظ على ما تبقى من أرض السودان ككيان واحد يستظل بظله جميع مواطنيه، يعيشون حياة حرة وكريمة دون إهانة أو إذلال، وفى ظل مساواة تامة أمام القانون بغض النظر عن الدين، أو اللون، أو الجنس، أو الثقافة. دولة لن تسمح مستقبلا، و على الإطلاق، لمجموعات الهوس الديني، و تجار الدين، من إعادة إنتاج الأزمة، تحت أي مسمى كان، حتى لا ينخدع البسطاء من بنات و أبناء شعبنا مرة أخرى بشعاراتهم الفارغة و الممجوجة من قبيل، 'هي لله..هي لله.. لا للسلطة ولا للجاه‘ أو، 'لا لدنيا قد عملنا‘، ليتضح لهؤلاء البسطاء لاحقا بأن كل أعمال هذه العصابة الباغية، و أفعالها، لا صلة لها بالدين الحنيف، أو باليوم الآخر، و إنما كانت تخادعهم وتخدرهم بتلك الشعارات الدينية البراقة من أجل أن تعمى بها أبصارهم و بصيرتهم، لتتمكن بعد ذلك من التمتع بنعيم الدنيا الزائل، فقط لا غير!!
أسأل الله الكريم، وبعونه تعالى، أن تمر علينا الذكرى القادمة لمأساة أكذوبة "أم العبقريات"، وشعبنا الأبي قد كلل نضاله بالإطاحة بدولة الفساد و الإستبداد، التى تأسست على إثرها، و كنسها الى مزبلة التاريخ، غير مأسوف عليها، وأن يكون قد تنسم عبير الحرية، و إسترد كرامته المهدورة، وبدأ الوطن يتعافى من آثار كافة الجرائم و الموبغات التى إرتكبها فى حقه مجرمي دولة البدريين. آمين!!
29/6/2011م


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.