قبل عام حدثتكم عن عرش ملك يهتز، هو الكتاب الورقي، ولكنني لم أسطر بكائية في ذلك بل اعترفت بأن للتطور أحكامه. لقد سقط عرش الكتابة على ورق البردي واليوم نلحظ اهتزاز عرش الكتاب الورقي لصالح الإلكتروني فالأدوات تتطور والأهم هو المضمون ...والثقب الالكتروني قد يبتلع الكتاب الورقي عما قريب. ولكنني اليوم أسجل أسفي على عرش ملك آخر يهتز هو «تحقيق المخطوطات العربية التراثية». فالعمل عليها يتطلب الصبرو العشق. الصبر على اكتشاف أصل المخطوط ومدى انتسابه لصاحبه، والعشق وبدونه لا يمكن لأحد التعب طوال أعوام بكل أمانة علمية ليقدم لنا عملاً دقيقاً في حقل تحقيق تراثنا العربي العريق. وهو ما يفعله الأديب الأردني الباحث أحمد ابراهيم العلاونة الذي لا أعرفه شخصياً لكنني أقدر حرصه على الذاكرة العربية التراثية وتقديمها في قالب ذكي عصري يجذب القارئ. ولا بد من الاعتراف بالكثير من الباحثين الأوفياء للتراث وتحقيقه، وأذكر على سبيل المثال العراقي د. جليل العطية والكتب التي حققها ومنها: أخبار البرامكة المنتخب من كتاب الهدايا أساس السياسة أخلاق الملوك آداب الملوك... هذا إلى جانب كتب من تحقيق اللبناني د. رضوان السيد منها :الأسد والغواص قوانين الوزارة وسياسة الملك الجواهر النفيس في سياسة الرئيس تحفة الترك كتاب الاشارة إلى أدب الامارة وسواها. محمد السيف: الصبر وعشق الحقيقة يجذبني الكتاب الذي يتمتع بهذه المزايا حتى ولو لم يكن تراثياً موغلاً في القدم، بل في حقل أدب السيرة لعربي منح قضايانا الكثير من العطاء والوهج في العالم. وأذكر على سبيل المثال كتاب محمد عبد الله السيف عن سيرة ناصر المنقور، فهو يمتاز بدقة استثنائية وتعب عاشق الحقيقة في جمع كل ما له من صلة بموضوعه مقدماً لنا نموذجاً أصيلاً في كتابة السيرة العربية مسترشداً بتقاليد الأجداد في منهج التحقيق الدقيق.. وهو يذكرني بالسيرة التي كتبتها الأديبة السورية الراحلة سلمى الحفار الكزبري عن الأديبة مي زيادة وحازت عليها «جائزة الملك فيصل للأدب». إلى هذه المدرسة التراثية الجميلة الأمينة على الكلمة ينتمي الأديب الأردني أحمد العلاونة الذي اطلعت على بعض كتبه التراثية العصرية التي يتعب في تحقيقها على هدى الأمانة العلمية وتوخي الحقيقة دون أن يخون العصر بحيث تبدو أعماله قريبة من قلب القارئ العربي الشاب.. والجمع بين الأصالة والمعاصرة أمر يروق لي. احتضان «فصيلة منقرضة» لقد سبق لي أن تحدثت للقارئ عن بعض كتبه، واليوم أود لفت القارئ إلى كتب أخرى جديدة ممتعة لأحمد العلاونة تمتاز أيضاً بالإخلاص للتقاليد الأدبية العربية ومزج المعاصر بالقديم التراثي. في كتابه المشوق الجديد «الاخوة المبدعون الثلاثة» يحدثنا مثلاً عن الاخوة الثلاثة: عاصي ومنصور والياس الرحباني. هذا إلى جانب أخوة ولكن من زمن آخر هم مثلاً الصحابي الجليل ابن عم الرسول العربي (634 ميلادية) من رواة الحديث واخوه قثم وأخوهما الأشهر والأعلم عبد الله ومن المكثرين من رواية الحديث لملازمته النبي العربي الكريم. المزج بين التراث والمعاصرة يشد أحمد العلاونة القارئ من العصر الحالي إلى الماضي ويغنيه بالمعارف التراثية. المستقبل امتداد لما كان ويحرض ذلك على الغرف من الإبداعات العربية أياً يكن تاريخ اشتعالها وهكذا نتعارف مثلا مع محمد الباعوني ( 1466م (وشقيقيه والأمثلة على ذلك تطول والمزج بين الحاضر والماضي حيلة إبداعية ذكية لتوعية الجيل الجديد بان الماضي لا يمكن له ان يمضي بل له امتداده في حاضره مستقبله. وأنا معجبة بفدوى طوقان ولم أكن أدري ان لها شقيقاً ثالثاً غير ابراهيم شاعر فلسطين ذلك الزمان (1905 1941) الذي تولى تعليمها حين منعها الوالد من الذهاب إلى المدرسة لأن شابا رمى لها في دربها بوردة، وذلك الشقيق الثالث هو احمد بن عبد الفتاح الذي تولى رئاسة الوزراء في الأردن في إحدى الفترات، كما جاء في كتاب العلاونة. ولم أكن ادري أن نشيد «موطني» الذي كان يردده أبي وحفظته منذ الطفولة هو للشاعر ابراهيم طوقان شقيق الرائعة فدوى. «في الكتاب وأحواله» نحن أمام كتاب جذاب جديد للعلاونة رصد فيه برهافة طرائف أدبية متنوعة مثل «من لم يتم كتابه وأتمه غيره» و«من ذيل على كتابه» ومن «ذيل على كتاب فكان الدليل أكبر من الكتاب» نفسه، و»من له كتابان بالاسم نفسه» و«من له شرحان أو اكثر لكتاب». وكتب العلاونة كلها تشي بباحث عصري تراثي بعيد عن الاضواء كراهب في محراب الكلمة العربية. ناشرون يستحقون التقدير حسناً فعلت» دار العلم للملايين «الشهيرة في بيروت حين عهدت إلى احمد العلاونة تصحيح كتاب بالغ الأهمية صدر عنها هو «الأعلام» لخير الدين الزكلي... ولا بد من التنويه بأن جمال المضمون في كتب العلاونة رافقه ايضاً جمال الشكل فقد صدرت كلها في حلة جمالية تراثية فخمة الخطوط بماء الذهب في الأغلفة والطباعة( الراقية) واحب توجيه التحية إلى «دار البشائر الاسلامية» كما إلى «مكتبة ومركز فهد بن محمد الدبوس للتراث الأدبي الكويت» لسخائهما في الانفاق على جمالية الكتب مما يسعد قلب عشاق المكتبة الورقية التراثية على الرغم من تداعي عرشها. القدس العربي