اتذكر جيدا، أنه على أيام طيبة الذكر، صحيفة "الأحداث"، أقدمت الحكومة على زيادة سعر السكر بصورة مفاجئة. واتذكر ايضاً، أن الزيادة كانت كبيرة ومثيرة، وهو ما جعل "الأحداثيين" يدخلون – كدأبهم - في حالة عصف ذهني متصل، من اجل اختيار "المينشيت" الذي يوافي عظمة الحدث. واذكر أنه في غمرة ذلك التفكير خرج كبيرهم "الجميل ابدا" الأستاذ عادل الباز متهلل الوجه، هو في ذلك مثل "ارخميدس" حينما قال للناس وجدتها. فكان أن انتهى ذلك المشهد بصدور الصحيفة بعنوان رئيسي يقول "زادوا السكر..!" كان أستاذنا "الباز" حينما يستفزه الحدث، يحشر نفسه في المكتب، ولا يخرج إلينا إلا حينما يختمر "المينشيت" في رأسه. واذكر أنه ذات مرة، قام باقتراح "مينشيت" لكنه لم يكن مناسباً، ثم اقترح آخر ولم يكن ملائماً ثم آخر ولم يكن مواكباً. وفي غمرة ذلك جاء مدير التحرير الأستاذ عثمان فضل الله ورأى حيرة "الاحداثيين" في صياغة "المينشيت"، فما كان منه إلا أن دفع بمقترح لاقى استحسان الجميع. حينها قال أحد الزملاء لأستاذ عادل، "عثمان حسم القصة في ثواني" فقال الباز ضاحكا: "كيف ما يحسمها.. ده خريج مدرسة أحمد البلال، بعملوا عشرة مينشيتات في الصفحة". المهم، أنه لم تمض سوى أربعة أيام فقط، على زيادة أسعار السكر الأولى، حتى حدثت زيادة ثانية في السعر، فكان أن خرجت الصحيفة بعنوان رئيسي يقول "زادوا السكر تاني". وكان ذلك مثار إعجاب الناس، إلى يوم الناس هذا...! تلك كانت "الأحداث".. فكرة معصومة من الموت، وإن قٌبرت وأُهيل عليها التراب.! قلت ما تقرأون، لأن الحكومة راهنت - مرة أخرى - على كاهل المواطن لامتصاص الصدمات التي يعاني منها الاقتصاد. وقامت بافراغ حمولة جديدة من كاهلها، لتلقي بها على ظهر الشعب المُنهك أصلاً..! فقد حملت الأخبار أن زيادة تااانية، قد طرأت على سعر غاز الطهي؛ غير التي نفذتها الحكومة قبل شهرين..! ويبدو أن الجهات المختصة رأت أن المواطن يملك من الصمود ما يخوّل له ابتلاع أي زيادة على سعر الغاز، فطفّقت تزيد السعر بما يزيد عن الخمسة جنيهات، دون أن يطرف لها جفن، ودون أن تلقي بالا للمسحوقين والمغلوبين على أمرهم.! بل ودون أن تفطن إلى أن زيادة خمسة جنيهات على السعر الرسمي، ستقابلها زيادة تصل إلى ثلاثين جنيها في سعر البيع للمواطن في بعض المناطق. ودون أن تفطن إلى أن الزيادة يمكن أن تصل إلى سبعين جنيها في حالة النُدرة؛ ليصل سعر اسطوانة الغاز إلى مائتي جنيه..! ظني، أن الحكومة تيقنّت، بعدما صمت المواطن على الزيادة الأخيرة في سعر الخبر، بأن الشعب السوداني يملك قابلية على التكيُّف مع أي زيادة في الأسعار، فأضحت ترفع من أثمان بعض السلع، بما في ذلك السلع الضرورية..! يحفِّزها على ذلك ثقتها، بأن المعارضة عاجزة عن قيادة الشارع لصناعة التغيير، أو أقله مقاومة السياسات الاقتصادية التي ارهقت كاهل المواطن. قناعتي، أنه لو كان المؤتمر الوطني خارج كابينة قيادة هذا البلد، لذهب إلى حيث يوجد الناسُ، ليحرِّضهم على مقاومة قرارات الحكومة القاضية بزيادة أسعار الخبز والغاز. ولمشى أعضاؤه وقادتُه إلى الناس، يُحمِّسونهم للتظاهر، على نحو ما كانوا يفعلون في سنوات الديمقراطية الثالثة..! حيث كانت الجبهة الإسلامية القومية تهتبل السوانح وتوظفها بمهارة فائقة، في خدمة مشروعها السياسي الساعي لاستتفاه صنيع الحكومة. وكلكم تعلمون أن قادة الجبهة الإسلامية كانوا يحيلون أزمة انعدام السلع إلى مبرر للاحتجاج والتظاهر، ما أسهم في وجود غبن تراكمي على أداء الحكومة المنتخبة، وهو ما تعجز عنه المعارضة حالياً، مع أن الفارق يبدو شاسعاً بين الأزمة الاقتصادية سابقاً وحالياً، وبين أسعار العُملة الوطنية مقابل النقد الأجنبي، سابقاً وحالياً..! وربما هذا ما جعل أسهم المعارضة تتراجع في بورصة الرضا الجماهيري، هي في ذلك توشك أن تصبح مثل المؤتمر الوطني الذي يشهد حالة انفضاض جماهيري، حذر منها الرئيس البشير في غير مرة واحدة، وحكى عنها الدكتور أمين حسن عمر، في غير مرة وحيدة. (الصيحة)