مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الجن بِدَّاوي ،،، كعب الإندراوة
نشر في الراكوبة يوم 17 - 07 - 2011


دقولك يا بشير
حق قولك يا بشير
ليس المقصود كما قد يبدو للبعض بهذا المقطع من الأغنية سعادة المشير (فالإسم سالم كما يقولون) و الأمر بالتأكيد مختلف فهذا مجرد مقطع عابر من مقاطع أغاني الزار أو الدستور التي يتغني بها أبطال حلقة الزار بعد الإنتهاء من مراسم العلبة و الكرسي و إستدعاء سلاطين الريح الأحمر من مختلف الجنسيات حبش، هدندوة، و خواجات و غيرها من قبائل الجن، و بشير هنا ليس البشير الذي نعرفه، و لكنه أحد سلاطين الجن العظماء الذين يتم إستدعائهم من خلال تلك الأغاني المحببة و المصاحبة لعملية الزار مثلها مثل:
اللول اللول يا لولية
بسحروك يا لولى الحبشية ،،، أو
أحمد البشير الهدندوى
توبو توب حرير الهدندوى
و لا يضير تطابق الأسماء، أو يصيب من حرج، بالذات عندما يكون الحديث عن موروثات شعبنا و تقاليده و عاداته و التي يأتي الزار من أكثرها إثارةً و متعةً و تشويقاً (بغض النظر عن رأي الناس فيه) و يقال أننا ورثناه عن الشمال من منطقة النوبة العليا والسفلى التي كانت تعج بشيوخ و شيخات و سناجك و نقيبات الزار و أن أول شيخ زار فى السودان (كما يروي في الروايات و الأسافير و الكتب) كان الخليفة نصر الدين الذى ظهر فى منطقة دنقلا ثم جاء بعده ود المبارك فى منطقة الشايقية و الذي ذاع صيته و تتلمذ علي يده العديد من شيوخ و شيخات الزار و الذي لعب دورا بارزا في نشر هذه الظاهرة الإجتماعية المثيرة للدرجة التي جعلت المحبين و المريدين ينظمون في سيرته و شياخته و قدراته الزّارية (إن جاز لنا إستخدام هذا التعبير) الأشعار و الأغاني و لعل أشهرها تلك المقاطع شائعة التداول المعروفة لدي الكثيرين القائلة:
ود المبارك شيخ الظهر
يا العليك ساسقت وفتر
شوفنى جنيت ولا دستر
أي أنا المرضان مكنتر
أما إذا حاولنا الحديث عن البشير الذي نعرفه في خضم هذا الموروث الإجتماعي المثير للدهشة و الإعجاب بملامحه و قسماته الفنية البحتة فالمسألة لا تقف عند حدود تشابه الأسماء فقط، فقد كنت و لا زلت أسأئل نفسي محتاراً دائما كلما شاهدت المشير في أحد مسارحه الصاخبة التي عادة ما يسدل فيها ستار الفصل الأول علي رقصته الهستيرية المشهودة تحت إيقاع أنغام موسيقي الفرقة الماسية و أحد أغاني العرضة التي يتم إختيارها بعناية فائقة تتناسب مع تقويسات و تعرجات بطل المسرحية ذات الأبعاد الملفتة للنظر، كيف يستطيع الرجل الإنتقال في لحظة خاطفة بمجرد إنتهاء الموسيقي و بشكل هستيري و قدرة خارقة للتحول السريع المفاجئ من حالة الرقص و الطرب إلي حالة التهليل و التكبير و من ثم إلي سلسلة من الضجيج و صخب الحديث الذي يرد الأمرد كهلا، كما يقولون، علي قول الشاعر العربي (فعلك لو تبدلنا صخوبا ،،، ترد الأمرد المختار كهلا) (و الأمرد هو الشاب الجميل). و علي نفس السياق (فالسعن المليان ما بيجلبغ) كما يقول المثل السوداني و السعن إذا إمتلأ باللبن لا يصدر صوتاً ويضرب للتدليل علي ان كثرة الضجيج تعني فقر المحتوي والعكس فان قلة الكلام و الضجيج تدل علي الرزانة والتعقل فالسواي مو حدَّاث كما يقول مثل آخر يقابل المثل الأول لحد كبير.
إنها حالة (سواءً في قصة بشير أو في مسرح المشير) أقرب و أشبه بحالة إزدواج الشخصية و تعددها أو ما يعرف في علم النفس بانفصام الشخصية و الذي يعبِّر عن حالة من حالات الإضطراب النفسي التي توجد فيها علي أرض الواقع أكثر من شخصية بكامل سماتها و خصائصها و طبائعها الظاهرة للعيان لدى الكائن البشري الواحد و لكن لا تظهر في كل حالة من حالات الإنفصام إلا شخصية واحدة فهو يختلف عن مرض الفصام أو الشيزوفرينيا الذي يعتبر مرض جسدي عضوي يصيب الدماغ و يؤثر بالتالي علي سلوك الشخص تأثيرا سلبيا. و عادة ما تكون لكل شخصية من الشخصيات المزدوجة أو المتعددة التي تتشكل في كل حالة من حالات الإنفصام صورة مكتملة بسلوكها و رغباتها و ميولها و ذكرياتها الخاصة و إسمها المختلف، مثل رواية الأديب الأسكتلندي روبرت لويس ستيفنسون الشهيرة (دكتور جيكل ومستر هايد) التي اهتم بها علماء النفس لما فيها من تناول علمي عميق لما يدور بداخل النفس البشرية من صراعات و تناقضات، و هي تصور حالة من حالات إنفصام الشخصية تتمثل في دكتور جيكل الشخصية المعتادة التي تحب البطاطس المقلية و تكره المخلل و التي تخفي بين طياتها شخصية هايد القاتل المحترف المناقضة له تماما و التي علي العكس تحب المخلل و تكره البطاطس المقلية و في نفس الوقت ترتكب العديد من جرائم القتل بحق أبرياء دون أن تترك دليلا واحدا يساعد الشرطة علي كشفها و القبض عليها. أو مثل قصة كيفن كوستنر الذي يتحول إلى السيد بروكس في أحد أجمل أفلام التشويق الشهيرة بإسم (السيد بروكس) للمخرج بروس إيفانز و الممثل كيفن كوستنر و النجمة ديمي مور الذي تدور أحداثه حول إيرل بروكس (كيفن كوستنر) رجل الأعمال الناجح ورب الأسرة الذي يعيش حياة هادئة مع زوجته وابنته و يبدو فيه السيد بروكس على الظاهر شخصا مثاليا ولكنه يطوي في جانب آخر من شخصيته قاتلا محترفا ارتكب عددا من جرائم القتل التي لا طائل لها.
و يحدث إنفصام الشخصية عادة نتيجة لصدمة نفسية فجائية، أو بسبب التعرض لمشكلة لم يتمكن الشخص من إيجاد حل لها، أو بسبب ضغط عصبي متواصل نتيجة لضغوط إجتماعية أو سياسية أو إقتصادية معقدة لفترات طويلة، أو بسبب تصادم قناعات الشخص مع واقع الحياة اليومية و حقائقها، وقد يكون أيضا (و هذا من أكثر الأنواع شيوعا في الشرق الأوسط و المجتمعات المحافظة) عن الكبت الذي يعبِّر عن حالة معقدة من الميول و الرغبات التي تطرق باب العقل الواعي ولكنها لا تتوافق مع مجموع العادات و التقاليد و القيم الاجتماعية أو الدينية التي تشكل وعي الشخص، فلا يجد سبيلا للتنفيس عنها إلا عبر الاضطراب النفسي، لذلك فإن كثير من علماء النفس يجمعون علي أن مرض إنفصام الشخصية في عالمنا الشرقي المحافظ يعتبر مرضا أنثويا أكثر منه ذكوريا بسبب الإضطهاد النوعي أو الجنسي و الإجتماعي الذي تعيشه المرأة و الذي يحد من حريتها في التعبير عن ذاتها و عن ميولها و رغباتها على عكس الرجل. و تاريخ المجتمع البشري و حاضره حافل بصور كثيرة من صور إزدواج الشخصية و تعددها عند النساء فكثير منهن حوكمن بتهم السحر و الدجل والهرطقة و هن في الحقيقة ليس إلا ضحايا لهذا المرض النفسي المثير للشفقة. و لعل قصة الفتاة التي تنتمي لأسرة متدينة و تحرص دائما و بشكل ملفت للنظر و مبالغ فيه لستر كل جزء في جسمها بإرتداء أكثر أنواع الحجاب و النقاب تطرفا وفجأة و علي صوت الطبول و الموسيقي الصاخبة و الأغاني الراقصة في أحد بيوت الأعراس المجاورة و في لحظة معينة من لحظات الإنفصام الشخصي التي عجزت فيها نفسها تماما عن كبح جماح الميول و الرغبات المتدفقة بعنف للشق الآخر من شخصيتها المتمردة عن السياق العام لقيم المجتمع الذي تعيشه تخلع بشكل مفاجئ نقابها و تبقي بثيابها شبه العارية و تنطلق إلي مصدر صوت الموسيقي لتمارس الرقص ببراعة لا تقل عن أي راقصة محترفة وسط ذهول الحاضرين ودهشتهم (و تفيق بعد لحظات من سكرتها باكية لا تتذكر شيئا مما حدث) تمثل حالة أشبه بظاهرة الزار في مجتمعنا السوداني و التي تعبِّر و تصور بشكل صريح أحد حالات إنفصام الشخصية التي تعرف في الطب النفسي بالإضطراب الإنشقاقي و الذي يعبر بدوره عن حالة من حالات تمرد الجزء الكامن من الشخصية على السياق العام للمجتمع بصورة مفاجئة مليئة بالتحدي تدفع الشخص لتحقيق رغبات أو مطالب معينة (غالبا ما تكون غريبة و متناقضة مع السياق العام للشخصية) يمارس خلالها الشخص بعض أنواع اللغط الشديد مثل التحدث بلكنة أو لغة أخري مختلفة، أو أن يعبِّر عن نفسه بالتحدث على لسان جني فيطلب مثلا تحقيق أشياء معينة يعجز عن طلبها أو تحقيقها في حالة وعيه و شخصيته المعتادة مثل أن تتحدث إمرأة تكره زوجها في حلقة الزار و هي لا تستطيع التعبير عن نفسها في حالة وعيها المعتاد بلسان جني طالبة الطلاق منه ليتزوجها ذلك الجني الذي يعشقها.
تذكرت أثناء كتابة هذا المقال المثل السوداني الذي كان يردده دائما صديقي العزيز أبو الشوش منذ أكثر من ربع قرن من الزمان و لا يزال يردده كلما جاءت المناسبة (الجن بِدَّاوي ،،، كعب الإندراوة) و برغم أنني لم أكن أفهم المقصود تحديدا بالإندراوة و لم أبذل وقتها في الحقيقة جهدا يذكر في البحث و التقصي عن معناها و مدلولها إلا أن ما فهمته ضمنياً من سياق المثل أن هذي الإندراوة هي حالة غير قابلة للعلاج و أن الجن بكل المقاييس و بمختلف أشكاله أفضل منها لأن الجن داء و لكل داء دواء و المجنون يمكن أن يتم علاجه و يعود من جديد لشخص فاعل في المجتمع بل و يقدم للبشرية ما لم يستطيع تقديمه غيره من العاقلين، و المشاهد للفيلم الأمريكي (Beautiful Mind) أو (العقل الجميل) للمخرج رون هوارد و بطولة الممثل البارع راسل كرو تتجسد أمامه بكل بساطة هذه الحقيقة حيث يصور الفيلم القصة الحقيقية لحياة عالم الرياضيات الشهير جون فوربس ناش (جون ناش) الذي كان مهتما بنظرية الألعاب و الحائز علي جائزة نوبل للاقتصاد عن نظريته المعروفة التي تحمل إسمه (نظرية ناش للتوازن) و التي كانت لها إستخدامات عدة في التفاوض التجاري و ساعدت لحد كبير في بلورة كثير من المفاهيم التي أسهمت في إتفاقية التجارة العالمية و تأسيس منظمة التجارة العالمية. و قد أصيب جون ناش بمرض الفصام الإرتيابي عام 1958م نتيجة لخلل عضوي في دماغه و قد تمت معالجته كغيره من أمراض الجنون (مصداقاً لما يردده صديقي أبو الشوش) في مستشفى ماكلين للطب النفسي خلال فترة طويلة معقدة مشحونة بالمعاناة و المواقف المحزنة المثيرة للشفقة ولكن ذلك لم يمنعه من أن يكون عبقرياً فذاً و عالما بارزا ينال بكل جدارة و تقدير جائزة نوبل للإقتصاد.
و بما أن هذا النموذج من الجن الجميل المثمر لا يوجد في بلادنا و لم يحدثنا تاريخ الطب النفسي في السودان عن حالات عاد فيها المجنون لكامل وعيه بالذات في هذا الزمان الممتد منذ أكثر من عقدين، و غالبا ما يكون مصير مثل هذه الحالات محزنا و لا تؤدي بصاحبها إلا إلي مزيد من الجنون، فواقع الحال يدفع العاقل للجنون فما بالك بالمجنون.
و الإندراوة كما جاء في إجتهادات كثير من مفسري الأمثال السودانية تعبِّر عن الحالة ما بين العقل و الجنون كجنون العظمة والغرور والسذاجة وكل الحالات والتصرفات الغريبة التي تصدر عن الشخص غير المجنون تماماً و من أبرزها التناقض و الإضطراب في المواقف و التردد و إزدواج الشخصية و تعددها و يصعب علاجها لأن الشخص الذي يعيشها هو في الغالب يعيش حالة تصادم حاد بين أفكاره و معتقداته التي يؤمن بها و بين الحقائق علي أرض الواقع التي هي بكل بساطة فشل مبين لكل هذه المعتقدات التي يؤمن بها و في نفس الوقت يمنعه كبريائه أو إندراوته (إن جاز لنا إستخدام هذا التعبير) من الإعتراف بالفشل لذلك تجده دائما في حالة إهتزاز و إضراب مستمر و خواء كامل (يشبه لحد كبير خواء شخصية الزين في رواية عرس الزين) تسهل معه عملية شحنه و تفريغه سواءً من قبل الشق الآخر غير الإنساني من شخصيته بكل صلفها و شذوذها و سلوكها و قيمها الخارجة تماماً عن السياق الإجتماعي المعتاد و المقبول قبولا عاما، و يشعر دائما بالزهو و الإدعاء الذي يدفعه لتبرير مواقفه الخاطئة و الإصرار عليها و من هنا كانت الإندراوة أكثر خطورة و إثارة للشفقة من الجنون.
هذه هي للأسف الحالة التي تعيشها بلادنا اليوم في ظل الطغمة الحاكمة التي يعاني كل المنتسبين إليها دون إستثناء حالة الإندراوة و حالة الزهو و جنون العظمة و تعدد الشخصية فتارة تبدو عليهم مظاهر رجالات الدولة عندما يتحدثون عن السلام و تارة أخري تجدهم من دعاة الحرب، يتحدثون عن الفساد و لكل واحدا منهم شقا آخر غارقاً لأخمص أذنيه في الفساد، يظهرون بياقاتهم الوردية الزاهية و يبدو عليهم الوقار و هم يتحدثون عن التنوع و علي جباههم سمات لصلاة لم تنهيهم عن فحشاء أو منكر و لكنهم كدكتور جيكل و مستر بروكس في داخل كل واحد منهم قاتل محترف لا يرحم و مجرم حرب يمارس الإبادة الجماعية و التطهير العرقي في دارفور و جنوب كردفان بكل هدوء و هم جالسون علي مكاتبهم و أبراجهم العاجية و قصورهم الماجنة، يتحدثون عن الشفافية و الصدق و تجدهم يمارسون الكذب علي الملأ دون حياء و بلا حدود أو تلعثم و الواقع يفضحهم كما قال عنهم أديبنا الراحل الطيب صالح في خاطرته من أين أتي هؤلاء (هل ما زالوا يتحدَّثون عن الرخاء و الناس جوعي؟ و عن الأمن و الناس في ذعر؟ و عن صلاح الأحوال و البلد خراب؟) و عندما تستمع لوزير الزراعة أو الصناعة أو نائب الرئيس أو أي واحد منهم يتحدث عن قضايا البلد تعتقد بأن السودان قد أصبح دون علمك من الدول الثماني العظمي للدرجة التي تكاد فيها أن تصدق ذلك، و عندما تشهد القنوات السودانية تحس بأن بلادنا تعيش في كوكب آخر معزول عن الواقع و تستدعي ذاكرتك مباشرة المثل المأخوذ عن قصة أهلنا الحسانية (الناس في شنو و الحسانية في شنو)، تشاهدهم في الصفوف الأمامية في المساجد الفارهة يتضرعون لله و يذرفون الدمع من البكاء و في اليوم الثاني تجدهم يرمون المحصنات من النساء و يغتصبونهم و يمارسون القمع و التنكيل و التعذيب في حق الأبرياء من الأطفال و النساء و الشيوخ. يتحدثون عن الوحدة و هم من دنس العلم و قسَّم البلد إلي بلدين و قدم القرابين إحتفاءاً بذلك الفتح المبين في نظرهم في مشهد أقرب لطقوس السحر و الشعوذة و الدجل و حلقات الزار، التي تجسد أبرز صور الإنفصام الشخصي الناتج عن فشل أكذوبة مشروعهم الحضاري الكبير الذي تمخض اليوم و أنجب السودان الشمالي و السودان الجنوبي و كلما إشتد فصامهم و أصروا علي المضي قِدما فيه كلما تمخض ما تبقي من الجبل لينجب سودان ثالث و رابع و هكذا حتي يتمخض في نهاية الأمر لينجب فأرا ضيق الأفق في حدود كافوري أو حوش بانقا.
تجدهم أيضا في مسارحهم الهستيرية الصاخبة (التي لا تختلف عن حلقات الزار) يهاجمون أمريكا و الغرب و يضعونها تحت أنعلتهم بالصخب و الضجيج و عندما تهدأ الدنيا تجدهم يجوبونها من المحيط إلي المحيط بين عواصم الغرب يتبادلون القبل و الإبتسامات الهادئة و يعرضون خدماتهم علي سادتها و ينشدون نتانة أحذيتهم و يطلبون نصيبهم مقابل عمالتهم علي الملأ. تشهدهم هائمون في ملكوت الله في موضة حلقات الذكر الصاخبة في بعض أطراف العاصمة المثلثة و ضهاريها لأوقات متأخرة بعد منتصف الليل ليتحللوا من سوء أفعالهم اليومية و هم يرددون
نسمات هواك لها أرجو تحيا وتعيش بها المهجو
ما الناس سوى قومٍ عرفوك وغيرهم همج همجو
دخلو فقراء إلى الدنيا .. وكما دخلو منها خرجو
قوم فعلوا خيراً فعَلو وعلى درج العليا درجوا
و عندما تشرق شمس اليوم الثاني تجدهم و بنفس وتيرة هستيريا حوليَّة البارحة يتسابقون علي خزائن الدولة و ما فيها و لسان حالهم يردد و يقول
لِحسوا القداحة النبدلو
خموها و ما راعو و عدلو
إتنحنحو لموها و قدلو
دخلو القصور قعدو أم قللو
الله يجازي الهبرو ملو
ثم يعيدون الكرة كل يوم "يسبِّحوا بالليل و يضبِّحوا بالنهار" (كما يقول المثل) فليس هنالك مشكلة في نظرهم طالما هم يتبعون سيئات أعمالهم بالنهار بحسنات الذكر ليلا إعمالا بقول المصطفي عليه الصلاة و السلام (أتبع السيئة الحسنة تمحها) و قوله تعالي (وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَ زُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ) و هم بذلك يكذبون علي الله و يتحايلون علي الدين و مقاصد العبادات و يتعاملون معها بمنطق الربح و الخسارة و يجسدون أكثر حالات مرض إنفصام الشخصية خطورةً دون أن يشعروا بذلك كما يقول الله في سورة البقرة (وَمِنْ النَّاس مَنْ يَقُول آمَنَّا بِاَللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِر وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّه وَاَلَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسهمْ وَمَا يَشْعُرُونَ* فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ)
و لن تنفعهم أو تنجيهم من العذاب حلقات الذكر أو بناء المساجد الفارهة المزخرفة فالمولي عزّ و جل غني عن كل ذلك و قد ورد في المسند، وصحيحي إبن خزيمة، و إبن حبان، وسنن أبي داود، والنسائي، وابن ماجه، عن أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: "لَا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَتَبَاهَى النَّاسُ فِي الْمَسَاجِدِ". ويروى أيضاً (عن جمع من الصحابة منهم أبو هريرة، وأَبُو الدَّرْدَاءِ، وأبوذر، وأبو سعيد، رضي الله عنهم أنهم كانوا يقولون: إذَا حَلَّيْتُمْ مَصَاحِفَكُمْ وَزَخْرَفْتُمْ مَسَاجِدَكُمْ فَالدَّمارُ عَلَيْكُمْ). السودان حافل بشيوخه و علمائه و عباد الله الصالحين و سيرهم مدونة و مسجلة و محفوظة في تاريخ بلادنا و لم يكن من بينها والد المشير.
جميل أن يبر الإنسان بوالديه فهذا من قيم الدين السمحة و لكن بناء مسجد بهذه الفخامة التي تضارع تاج محل فخامةً في كثير من الجوانب و تضاهي أفخم المساجد في العالم ليس في الإسلام من شئ حسب تقديرنا و كان من الأجدي أن تستغل المبالغ الطائلة التي أنفقت في تشييده لبناء آلاف المساجد في آلاف القري و الأرياف في أقاليم السودان التي تفتقر حتي لمساجد من الجالوص بما في ذلك ولاية الخرطوم نفسها.
و لكن القضية أعمق من ذلك و هي مرتبطة إرتباط وثيق بحالة الإنفصام الشخصي التي يعانيها أبطال المشروع الحضاري و التي تجعلهم يشعرون بالزهو و جنون العظمة كما قلنا و فكرة هذا المسجد تجسد أرقي صور جنون العظمة التي لا تختلف في جوهرها و محتواها عن المصحف الذي كتب بخط اليد في العراق بدم صدام حسين بناءاً علي تعليماته في نهايات عهده و بفتوي مفصَّلة من المريدين و حاشية السلطان و الله غني عن دماءه النجسة الملوثة بدماء مئات الآلاف من العراقيين. و لكنه جنون العظمة فماذا نقول ؟؟؟
الهادي هباني
[email protected]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.