لنترك جدل فكرة ربط كميات البيع بالقيمة. الموضوع واسع ومعقد، بالخصوص في الزمن الذي نعيشه اليوم، الذي سلّع كل شيء. ليس بالضرورة كل ما يباع كثيراً، هو الأجود والأفضل في سوق الكتاب لكن قاعدة الإدهاش تنتصر أحياناً وتصبح قيمة. روايات مثل مدام بوفاري لفلوبير، في القرن التاسع عشر، وفي البحث عن الزمن الضائع لمارسيل پروست، وروايات كلود سيمون، والجريمة والعقاب لديستوفسكي، وغيرها لم يبع منها أصحابها يوم ظهورها، إلا بعض المئات وربما أقل، لكنها ظلت وما تزال مرجعاً روائياً إنسانياً وعالمياً مهماً. جميل أن يباع الكتاب ولا يبقى مكدساً أمام الناشر والكاتب، في حالة تثير الشفقة والأسئلة الكثيرة. لكن المسألة خرجت عن المعتاد والمقبول وأصبحت مرضاً مس جسد الرواية نفسها. وهو ما جعلها تعاني من سلسلة من الأمراض الجديدة التي لم تكن موجودة من قبل، إضافة إلى أمراضها السابقة التي تولدت مع الجنس والنوع. في معارض الكتاب الأخيرة التي حضرتها هذه السنة، بدا لي أن الأمر خرج عن المعقول والمعتاد لدرجة اذا كان الكاتب الواحد يبيع كل هذه الأعداد التي يصرح بها في الصحافة، يمكنني أن أقول إن الدنيا بألف خير. وإن الكاتب أصبح بإمكانه أن يعيش من كتاباته. أتساءل: على ماذا تعتمد هذه التصريحات؟ ما هو المرصد الاحصائي الذي يؤكد ذلك؟ تصريحات الناشر وحدها لا تكفي، لأنها في الأغلب الأعم تعتمد على الدعاية أكثر من الحقيقة الموضوعية. خيالات الروائي التي تصبح مع الزمن حقيقة لا تساعد على وجود جرد حقيقي. الدعاية بكثافة المبيعات لا تحول الرواية إلى بيست سيلر. للبيست سيلر آليات تقف من ورائها مؤسسات قائمة بذاتها، تصرف على الكتاب ما لا يمكن تخيله. الرواية بهذا المعنى استثمار ربحي. أين هي الدار العربية التي تراهن على رواية أو روايتين لكاتب مترسخ، على شاب، أو مجموعة شباب من الموهوبين، كما حدث مع دان براون بحيث تحولت الماكنة إلى قوة حقيقية. والكتاب إلى استثمار سحب نحوه القراء والمتعاملين السينمائيين أيضاً. أو هاري بوتر التي يطول الحديث عنها. هذه الماكنة غير متوفرة عربياً، لأن الكتاب ليس تجارة بالمعنى الكامل للكلمة. يوضع على الرفوف وينتظر قارئ الصدفة. لم يصل بعد الى هذا الوضع الاعتباري. يوم يصبح مثل الصابون المعلن عليه، وحفاظات پامپرس، وقهوة بونال، والشيبس، نستطيع أن نتحدث عن «البيست سيلر» وعن المبيعات المهولة وأكثر الكتب مبيعاً. ما هو موجود اليوم حالة بؤس حقيقية يجب الاعتراف بها. على الناشر أن يغامر قليلاً وأن لا يكتفي بانتظار الجوائز التي تدفع بالكتاب قليلاً نحو الواجهة. الذي رأيته بعيني في بعض المعارض هو أنك تمر على الكاتب وراء طاولة التوقيع وهو جالس، تحييه وهو هو ينش الذباب من شدة القلق والفراغ. طبعاً لا مسؤولية على الكاتب في ذلك، فالآلة التي ينتمي إليها غير معنية بتحقيق الطفرة في المبيعات والترويج للكتاب. حالات نادرة عربية، يحدث فيها ذلك، عندما يصبح الكاتب طرفاً في الدعاية بخبراته التي تجمع المجتمعي والعاطفي والديني والحساسيات الكثيرة، ليصل إلى إنتاج نص يرى الناس أنفسهم فيه، وهو من يحاول إقناع جمهوره بجدوى ما كتبه به. يحتل مكان ماكنة الدعاية. وهو حل ذو حدين، قد ينقص من هبة الكاتب وقيمته إذ يتحول إلى مستجدٍ «للمقروئية». أستغرب عندما أسأل بعض الأصدقاء في محاولة للوصول إلى تصور، وكل واحد يردد بأن كتابه كان الأكثر مبيعاً في المعرض، كيف عرفتَ ذلك؟ هل هناك جهاز قام بسبر الآراء في المعرض، جهاز مختص كما هو موجود في الكثير من المعرض وقام بفحص النتائج وقاطعها فيما بينها؟ واحد يقول إنه باع من كتابه المطبوع في بيروت أو العراق أو مصر، في يومين، أربعمائة نسخة، بينما معرض الجزائر مثلاً يجبر البائع أن لا يتخطى عتبة المائة أو المائتي نسخة من كل عنوان. كيف تمكن من بيع 400 نسخة وهو لم يجلب معه إلا 100، آخر يعلن بأن كتابه كان الأكثر مبيعاً في كل المعرض. من الجهة التي قامت بمعاينة المبيعات في كل جناح وأخبرته بذلك؟ وعندما تسأل الناشر السعيد ببيعه 50 نسخة تفاجأ بكلام كله سهولة وبلا معنى حقيقي. طبعاً، كأي كاتب، نتمنى كل الرواج للكتاب الأدبي. وأن يبيع كل روائي ألف نسخة أو عشرة آلاف، أو حتى مائة ألف في الأسبوع الأول من صدور الرواية، كما في البلدان التي تحترم ثقافتها. لا يهم العدد، المهم أن يبيع الكاتب بالقدر الذي يسمح له بالعيش كريما بكتبه. وسيحسسنا ذلك بالأمان، وبأن دنيا الكتاب والمقروئية بألف خير. لكن هذا للأسف غير حاصل في العالم العربي ولا يمكنه أن يحصل، والحال على ما هي عليه اليوم حيث الكتاب في آخر سلم الاهتمامات. مسألة المبيعات وارتفاعها مسألة مشروعة لكنها تقتضي قوة مصاحبة لذلك، وماكينة حقيقية وإلا لا معنى لكل ما يقال. يستطيع الكتاب والناشرون أن يبدعوا الخرافات التي يشاؤون، هذا في النهاية لا يقدم ولا يؤخر. ما يزال وضع الكتاب في أدنى المراتب. على الرغم من انتعاش الرواية طباعة وتوزيعاً ومبيعاً بالقياس بالأجناس الأخرى، ما زلت أظن أن الذي نعيشه اليوم ليس زمن الرواية في غياب آليات المتابعة والتوزيع والقراءة، ولكنه زمن انتفائها واضمحلالها بالطريقة نفسها التي عرفتها الأشكال الكبرى الكلاسيكية كالملحمة. هناك شيء يحصل في عمق الجنس الروائي غير مرئي بشكل معلن. حتى نوبل خرجت من رؤيتها الكلاسيكية للأدب ووسعتها لتشمل أشكالاً محايثة للرواية والأدب، كالنص الغنائي مع بوب ديلان، والتحقيق الصحافي السردي والسياسي والرحلة ومغامراتها مع نيبول. مما يعني بأن شيئاً ما ينشأ داخل جسم الرواية بقوة وينزع منها خصوصياتها الكلاسيكية وحتى قداستها، والتماهي مع أجناس أخرى محايثة للرواية من حيث سرديتها لكنها ليست الرواية كما عرفها جيل من الكلاسيكيين. دخول كل من هب ودب، واستسهال الكتابة الروائية ليس دليل إبداعية مميزة أو دَمَقْرَطَة خلاقة في الكتابة بالنظر إلى ما يكتب عموماً، ولكنه دليل على موت يمس جسد الرواية شيئاً فشيئاً إلى أن يشلّ فاعليتها كجنس مفتوح على أفق التطور والتجدد. سؤال يستحق أن يقف النقد عليه، ويقترب منه بجدية أكبر وأكثر. القدس العربي