حقيقة طالت مدة انتشار الإسهالات المائية وتكرارها في السودان، وكلنا نعرف أسبابها البدائية تلك، ونعلم كيف يمكن تفاديها ومعها أمراض أخرى كثيرة، ومع ذلك لابد من سياسات وإجراءات صحية وبيئية واضحة وصارمة تقوم بها الدولة، لأن المواطن مهما اجتهد ستهزمه الإمكانات والظروف، ويبدو أن هذا الحال سيستمر وسننتظر الحكومة كثيراً إلى أن تفكر في إخراجنا من هذه الحالة الكولمبية القديمة، وقد لا نخرج أبداً في ظل وجودها. إن الظروف الاجتماعية والسياسية التي يعيشها السودان تشبه إلى حد كبير الظروف التي عاشتها كولمبيا في الفترة من 1880 وحتى 1930م، وهو الزمن الذي كتب عنه الكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركز، روايته الشهيرة (الحب في زمن الكوليرا)، وحقيقة كل عام أتذكر هذه الرواية وأشعر أن ماركيز يكتب عن السودان مع تغيير المسميات، حينها كانت كولمبيا تعيش في حالة فقر وعدم استقرار سياسي وصراعات أهلية مستمرة، وكانت سوء الأحوال الصحية ورداءة البيئة والإهمال الرسمي كلها عوامل تشابكت لتصبح سبباً أساسياً لانتشار مرض الكوليرا الذي يقتل كل عام أعداد كبيرة من البشر في كولمبيا ودول الكاريبي، ورغم ذلك كانت هناك إجراءات صارمة تتخذها السلطات الصحية بما لديها من إمكانات. كولمبيا تلك تغيَّرت اليوم تماماً إلى الأفضل بلا شك مثلما تغيَّر كل العالم، وأصبحت تملك اقتصاداً متقدماً وبيئة سياحية مدهشة، وقد أصبحت الكوليرا مجرد تاريخ لا يقل ألماً من الاستعمار . تلك الحالة الكولمبية التي وصفها ماركيز في أحداث روايته تلبست السودان كما هي، ووصفه للمنازل والأسواق والشوارع وانتشار النفايات يجعل القارىء يشعر أنه في الخرطوم، ولكن هنا الكذب السياسي يجمِّل الأوضاع وينكر الواقع ويصوِّر كل أسباب الموت، مهما كانت درجة خطورتها لتبدو مجرد حدث عرضي وعادي لا يستحق الوقوف عنده، فتعتبر السلطات الرسمية الأمراض التي تنتشر في موسم الأمطار ظاهرة طبيعية ويجب أن تحدث، فتسميها (أمراض الخريف)، مع أن الخريف ليس سبباً فيها، وإنما السبب سوء الصرف الصحي ورداءة الشوارع والبيئة وغياب دور الدولة، من ضمن تلك الأمراض ما تسميه تجملاً بالإسهالات المائية، وهي نفس المرض الكارثة الذي جعل ماركيز يكتب روايته ويصف كيف كانت الحياة تمضي في هلع وخوف مستمر. لا أدري لماذا تصر الحكومة دائماً على أن تصوِّر انتشار الأمراض والأوبئة الفتاكة وكأنها حدث عادي، مع أن الأمر لا يخفف المصيبة بقدر ما يخففها، الاعتراف بخطورتها، ومن ثم العمل الجاد للقضاء على أسباب انتشارها، فمن تخجل الحكومة أن لم تخجل من المواطن؟ هل تخاف الفضيحة حين يعلم العالم حقيقتها وأن شعبها الذي تحكمه 27 سنة، ما زال يموت من أمراض أسبابها تلوث الطعام والمياه فيبتعد عنها؟ هو بعيد عنها مهما فعلت والمواطن أبعد. حقيقة أن الأمر أصبح لا يطاق، فإلى متى سيظل المواطن يموت بالأمراض وغيرها والحكومة تتجمل بالكذب، وهي تعلم أن قبحها ما عاد يجمِّله كذب ولا صدق. الصيحة