لم يجانب المستشرق البلجيكي "زافيا لوفين" الصواب عندما قال عن رواية "مهر الصياح" إنها من أروع وأجمل ما كتب الروائي السوداني "أمير تاج السر" الذي توقع له ذلك الأستاذ الأوروبي أن يرقى ما يستحقه من مراقي النجاح العالمي. جاء هذا في تظهير وضعه الأستاذ الأوروبي على غلاف الرواية المذكورة، وقد صدق توقع الرجل فما هو إلا زمن وجيز حتى نال "أمير تاج السر" جدارة الترشيح لنيل جائزة البوكر العالمية بنسختها العربية عن روايته "صائد اليرقات" التي سخر فيها من الذهنية الأمنية في تسلطها على مقدرات الناس من خلال تصويره لرجل أمن قاس سعى بعد تقاعده لأن يصبح أديباً، ولكن كثيراً ما تجري الرياح بما لا تشتهي السفن، فذهبت الجائزة لاسمين لا يقلان إبداعاً ولا استحقاقاً عن "أمير تاج السر" الذي أحبط جمهوره لهذه النتيجة، الذي بدأ في طرح جملة من تساؤلات تتكرر مع كل مناسبة شبيهة حول مدى صدقية الجوائز الأدبية وعن ملابسات ترشيح أسماء وجنسيات بعينها، كما عن معايير اختيار أعمال لتفوز دون غيرها، وهو ما يفضي دائماً إلى نافلة وحيدة للقول، تقضي بأن استحقاق جائزة معينة لا يعني حصرية النبوغ، كما أن عدم اللحاق بجائزة ما لا يفيد بعدم استحقاقها ولا ينفي بحال أحقية الفوز. الحق أن عالمية "أمير تاج السر" قد سبقت ترشيح البوكر بسنوات ليست بالقليلة، فهو روائي يحمل على عاتقه أوزار بضعة عشر مؤلفاً حتى اليوم، ترجم بعضها فور صدوره إلى لغات أجنبية، ليس أولها رواية "عطر فرنسي" التي صدرت بعد كل من "مهر الصياح" و"توترات القبطي" وعرضت بمرارة لتعلق بها المهمشين بحبال الوهم المهترئة في توقهم إلى الحياة الأفضل، وذلك من خلال ما عاشه الحي السوداني الفقير "غائب" من ترقب أعقاب إشاعة عن قدوم نجمة فرنسية بغرض القيام بدراسة ما عن ذلك الحي، فسرت من فورها حالة من الانتظار الحالم في أوساط الحي أوجدتها مجرد إشاعة، فاستغرق الأهالي كل بطريقته في إعلاء بنيان قصور من الهواء قوامها مزيج من الوهم والأمل انشغل بأطيافه نفر غير يسير من الحالمين الآملين. تقترب تجربة الكاتب الأدبية من تجربة "غابرييل غارسيا ماركيز" من حيث استخلاص مادته بالكامل من بيئته السودانية المحلية بل والمغرقة في محليتها ولكن بلغة إنسانية عالمية، ما يؤكد من جديد وحدة الهم الإنساني والمشاعر والهواجس التي تتلاعب بمصائر كافة البشر كائناً ما كانت أجناسهم وأعراقهم وثقافاتهم. غير أنه وبخلاف "ماركيز" الذي انتهج منهج "الواقعية السحرية" التي تطرح الواقع في إطار أسطوري ينحو منحى الخرافة، نجد أن "أمير تاج السر" يتبع أسلوباً له بصمته الخاصة به، يمكن أن نطلق عليها مدرسة "السحر الواقعي" التي توظف الإبهار بالواقع الأغرب من الخيال أحياناً. بدا جلياً نضج تجربة السحر الواقعي عند "أمير تاج السر" في رواية "مهر الصياح" مع ما أخذه البعض عليه اعتماده لأسماء غير مألوفة أطلقها على شخوص روايته من قبيل "آدم نظر" و "يوسف كرا" و"جوا جوا" وغيرها، وهو مأخذ لم يكن في محله، فقد لفت الكاتب في مقدمه للعمل بأن (النص مستوحى من التاريخ القديم لسلطنات كانت سائدة في السودان ردحاً من الزمان) لافتاً إلى أنه (إذا تشابهت بعض أحداث أو شخصيات أو أسماء العمل مع أحداث أو شخصيات أو أسماء حاضرة الآن، فهذا محض صدفة). تدل مثل هذه المفارقة على مدى الجهل العام بخصائص البيئة السودانية وبالمجتمع السوداني كما بالأدب السوداني، ليس فقط على مستوى القارئ العادي بل على مستوى الأدباء والنقاد، وفي هذا مسؤولية مشتركة بين العموم العربي والخصوص السوداني لا يعفي أحدهما الآخر مؤونة الأمانة المعرفية، ففي حين يشرق ويغرب مثقفونا وأدباؤنا بحثاً وتنقيباً عن التطريب الثقافي في ما وراء البحار، نجد أن زمار الحي لا يطرب إما لخلل في الأسماع أو ربما لخفوت صوت المعازف، أو لعل مرد ذاك في السببين معاً. جدير بالذكر أن "أمير تاج السر" قد بدأ مسيرته الأدبية كشاعر نشر قصائده في مجلات أدبية ذات شأن، قبل أن تسرقه شهوة السرد مدفوعة بعزوف القارئ عن الشعر، ففارقه بالتالي ليعمل في صمت ربع قرن من الزمن، ظلم فيها كثيراً وناله ما ناله من مرارة وإحباط، حتى صح صحيحه، واعتلى هذه الشرفة الرفيعة فأصبح عن جدارة أمير الأدب العربي وتاج سره. الراية