هل كانت المرأة مسؤولة عن توزيع الميراث في "مصر القديمة"؟    تُقلل الوفاة المبكرة بنسبة الثلث.. ما هي الأغذية الصديقة للأرض؟    في المؤتمر الصحفي للمدرب كواسي أبياه..المباراة لن تكون سهلة ونملك الخبرة الكافية في مثل هذه المواجهات    بتشريف الرئيس سلفاكير ورئيس الفيفا…منتخبنا الوطني ينازل شقيقه في جنوب السودان    الجهاز الفني يقدم محاضرة المباراة ويعلن التشكيلة والجكومي يخاطب اللاعبين    4 عيوب بالأضحية لا تجيز ذبحها    الملازم أول (م) محمد صديق إبراهيم: لا يبالي على أي شق كان للوطن مصرعه    ليفربول يخطط لإبقاء صلاح تفاديا لسيناريو "الرحيل المجاني"    لماذا قد تبدي "حماس" تحفظًا على قرار مجلس الأمن؟    قنصل السودان بأسوان عبد القادر عبد الله يعلن دفن 51 جثماناً خلال ثلاثة أيام    بفستان أخضر.. إلهام شاهين وإيناس الدغيدي في العرض الخاص لأهل الكهف    وزير الداخليه المكلف يتفقد منطقة اوسيف    عدوي: السودان يمر بظروف بالغة التعقيد ومهددات استهدفت هويته    قصة عصابة سودانية بالقاهرة تقودها فتاة ونجل طبيب شرعي شهير تنصب كمين لشاب سوداني بحي المهندسين.. اعتدوا عليه تحت تهديد السلاح ونهبوا أمواله والشرطة المصرية تلقي القبض عليهم    في عملية شهدت أحداث درامية بليبيا.. نادي الأهلي بنغازي يخطف لاعب الهلال السوداني جون مانو..يخفيه عن الأنظار يوم كامل ويقوم بتسجيله مقابل 450 ألف دولار للهلال ومثلها للاعب    "حكم تاريخي" على المتهمين بالعنصرية ضد فينيسيوس    نداء مهم لجميع مرضى الكلى في السودان .. سارع بالتسجيل    شاهد بالفيديو.. الراقصة آية أفرو تهاجم شباب سودانيون تحرشوا بها أثناء تقديمها برنامج على الهواء بالسعودية وتطالب مصور البرنامج بتوجيه الكاميرا نحوهم: (صورهم كلهم ديل خرفان الترند)    منظمة مشاد تستنكر الصمت الدولي تجاه انتهاكات المليشيات بمستشفى الفاشر    شاهد بالصورة والفيديو.. ظهر وهو يصنع "القراصة" ويتحدث الفرنسية بطلاقة.. شاب سوداني متخرج من أفضل الكليات بتقدير ممتاز لم يجد وظيفة وأجبرته الظروف على عمل متواضع في الخلاء    الإمارات.. الإجراءات والضوابط المتعلقة بالحالات التي يسمح فيها بالإجهاض    الحرارة وصلت 51.. تحرك برلماني لاستثناء صعيد مصر من تخفيف أحمال الكهرباء    إسرائيل: «تجسد الوهم»    الهلال الأحمر القطري يشرع في شراء الأضاحي بهدف توزيعها على النازحين    الإعدام شنقاً حتى الموت لشرطى بإدارة الأمن والمعلومات    بعد موسم خال من الألقاب.. البايرن مستعد للتخلي عن 6 لاعبين    السنغال تعمق جراح موريتانيا بعد السودان    اللعب مع الكبار آخر قفزات الجنرال في الظلام    انقطاع الكهرباء والموجة الحارة.. "معضلة" تؤرق المواطن والاقتصاد في مصر    نصائح مهمة لنوم أفضل    إغلاق مطعم مخالف لقانون الأغذية بالوكرة    شرطة بلدية القضارف تنظم حملات مشتركة لإزالة الظواهر السالبة    الجزيرة تستغيث (4)    انتظام حركة تصديرالماشية عبر ميناء دقنة بسواكن    "كعب العرقي الكعب" .. وفاة 8 أشخاص جراء التسمم الكحولي في المغرب    التضخم في مصر.. ارتفاع متوقع تحت تأثير زيادات الخبز والوقود والكهرباء    إجتماع بين وزير الصحة الإتحادي وممثل اليونسيف بالسودان    أمسية شعرية للشاعر البحريني قاسم حداد في "شومان"    تونس.. منع ارتداء "الكوفية الفلسطينية" خلال امتحانات الشهادة الثانوية    السعودية.. البدء في "تبريد" الطرق بالمشاعر المقدسة لتخفيف الحرارة عن الحجاج    بنك السودان المركزي يعمم منشورا لضبط حركة الصادر والوارد    عودة قطاع شبيه الموصلات في الولايات المتحدة    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    من هو الأعمى؟!    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



السودان سودانان.. فماذا بعد؟
نشر في الراكوبة يوم 02 - 08 - 2011

أخيراً، وفي المسألة السودانية، آلت الأمور إلى أن يحقق طرفان في الصراع الشمالي الجنوبي هدفهما الذي تعاضدا وحاربا لعقود اجتهاداً من أجل إنجازه، ألا وهو فصل جنوب السودان عن شماله. حيث تم إعلان قيام جمهورية جنوب السودان المستقلة، وكان أول من اعترف بقيامها، وحتى قبل إعلانه رسمياً، هي الخرطوم، بل شارك الرئيس السوداني على رأس وفد شمالي في احتفالية هذا الإعلان، وخاطب حشده بلغة ودودة متصالحة ومتسامحة لم يقابلها رئيس مستجد هذه الدولة "الأفريقانية" التوجه حتى العظم بمثلها، فاستحضر صاحبها، فيما هو أقرب إلى الخروج عن اللياقة، مشكلات شمالية شمالية من المفترض أنها لا تهمه بعد اليوم، من مثل جنوب كردفان، ودارفور، والنيل الأزرق، وبالطبع دون أن ينسى أبيي...
الطرفان المحتفلان بما فازا به، وخاطبا العالم بلغة المنتصر هما، الغرب وإسرائيله من جهة، والانفصاليون الجنوبيون، الذين تمردوا وحاربوا السودان الواحد منذ إعلان استقلاله وحتى البارحة، ومعهم بأقوى الإيمان تارة وأضعفه أخرى كل "أفريقانيي" شرق إفريقيا، من البحيرات العظمى وحتى المحيط الهندي، وبعض وسطها، وكثير من الجوار السوداني، أو كل هؤلاء الذين لم يكن من شأنهم يوماً كتمان مشاعرهم العنصرية ضد العرب، تلك التي زرعها وغذاها استعمار الأمس المباشر، تاركاً للإرسالات وما يعرف بالهيئات الإنسانية، إلى جانب تجليات هذا الاستعمار المحدثة غير المباشرة، أو امتداداته العصرية، وما يوصف بالخبراء والمستثمرين الصهاينة، مهمة رعايتها ومواصلة تغذيتها.
وعليه، يمكن هنا تفسير ما قوبل به هذا الحدث السوداني التقسيمي من حماسة دولية منقطعة النظير، لم تشهد القارة السوداء لها مثيلاً في تاريخها، اللهم إعلان سقوط نظام "الأبارتهيد" في جنوب إفريقيا وقيام جنوب إفريقيا المانديلية.
بدا الغرب في احتفالية جوبا، وقبلها وبعدها في عواصمه البعيدة، يهنئ نفسه على نجاح سياسة تليدة اتبعها، ولم تن إسرائيله، المبتهجة لبتر جزء من جسد هذه الخارطة العربية المثخنة بجراحها، عن إبداء، عبر اتصال هاتفي من نتنياهو بسيلفا كير ميارديت، نخوة واستعداد لعون هذا المستجد المبتور المنفصل وشد أزره، وسارعت الأمم المتحدة "الغربية" لإرسال قواتها لحفظ سلامه مما قد يتهدده، وقد بدا ذلك رداً منها على طلب الخرطوم إنهاء مهمة القوات الدولية المتواجدة بناءً على اتفاقية سلام مشاكوس بعد أن استوفت شروط بقائها بانتهائه الذي حددته هذه الاتفاقية، أو إثر هذا الانفصال، ثم لم تتوان في جلسة احتفالية بإعلان قبولها عضوية الدولة المستجدة بعد خمسة أيام فقط من إعلان قيامها.
وكانت حتى تلك الأطراف الدولية الأخرى، التي كانت ولزمن، لأسبابها البراغماتية، مع وحدة السودان، لم تن في المسارعة لمزاحمة الغرب في بهجته الاحتفالية بالمولود الجديد، ولدواع لا تخفى على أحد وفي مقدمتها حرصها على الفوز بنصيبها من نفطه وثرواته الدفينة الأخرى، وكعكة بناء بناه التحتية شبه المعدومة الآن.
كما لم يشذ حتى العرب عن ما كان من كل هؤلاء، حيث خفوا فرادى، وجامعتهم مجتمعة، والتي عرضت ضم الوليد إلى عديد عتاق الجامعة التي جمعت ولم تجمع عربها، لمشاركة المحتلفين احتفاليتهم، ملوّحين للوليد الإفريقي الجديد بإخراج أيديهم من جيوبهم الملأى بما يشتهي، كما غطت بعض فضائياتهم فرحة قدومه الميمون بكرمها الإعلامي الحاتمي.
انتهت الاحتفالية وانفض المحتفون، وتوالت عودة وفود المهنئين من حيث أتت، تاركة وراءها أكداساً من الوعود تبشر الجنوبيين بغد مشرق عزيز، لعل جلّها، على الأقل، وعود لا تختلف حظوظ ترجمتها عن شبيهتها التي درج الغرب تحديداً على قطعها بسخاء في هكذا مناسبات، لا سيما تلك الاقتصادية منها، أو تلك التي كان الهدف منها الحث على الانفصال، والتي سوف تتبخر بأسرع مما تفعل مياه المستنقعات الاستوائية في مواسم جفاف القارة.
...فماذا بعد؟ أو ماذا بعد ذهاب السكرة، أو نشوة الانفصال؟ لعله سرعان ما جاءت الفكرة، أو هذا السؤال الكبير المطروح على السودانيين شمالاً وجنوباً، وهو: أحقاً أن السلام المنشود قد تحقق؟ أو هذا المتعلل به، شمالاً وجنوباً، وشمالاً أكثر، لسبب التوقف عن مواصلة حروب ما ينوف عن نصف قرن، ولو بتقسيم الوطن، و ما مهدت له اتفاقية نيفاشا، التي عقدت برعاية من غرب المحتفين اليوم بيوم الانفصال وفوز أفريقانييه؟! هل انتهت إلى غير رجعة حروب الطرفين وكوارثها وأحقادها، بحيث يسفر الأمر الواقع الجديد عن دولتين جارتين تحافظان على روح الروابط العديدة التي نسجها تاريخ السودان الواحد قبل انشطاره، رغم أن هذه الروابط التي لم تشفع لوحدته ولم تحمها، ومع هذا نسمعهما تتغنيان بها وتتحدثان قولاً معسولاً عن المصالح المشتركة المتشابكة ومفترض التكاتف الذي تستدعيه مثل هذه الروابط وهذه المصالح؟!
للإجابة غير السهلة على هذه الأسئلة، يمكننا القول ودونما تردد، إنه بالإمكان تعداد ما ينوف عن ستة عشر مشكلة نيفاشوية التركة لا زالت مؤجلة، أي لم تحل بعد، الأمر الذي لا يبشر، بل وفيه ما ينم عن مبيت نوايا سيئة، وفيه ما لا يخفى من انعدام ثقة متبادلة ليس هناك ما يستر سطوتها... كما يؤشر على تليد أحقاد دفينة لدى الجنوبيين تحديداً...
إذن، والحالة هذه، ما الذي أنجز حتى الآن من بنود اتفاقية السلام العتيدة سوى واقع الانفصال؟ وهذا السؤال يستدعى آخر، وهو، السودانان، شمالاً وجنوباً، إلى أين؟
أثقال التركة النيفاشوية
قلنا إن الذي تحقق من اتفاقية "نيفاشا" للسلام بين طرفي الصراع الشمالي والجنوبي، برعاية غربية، وعناية خاصة من قبل دول الجوار "الإفريقانية" التوجهات، وهو حتى يوم هذا الإعلان المحتفى به لا يعدو تحقيق هذا الانفصال ولا يتعداه. ودللنا على ما ذهبنا إليه بملاحظة أن هذه الاتفاقية قد أورثت هاتين الدولتين، اللتين غدتا الجارتين انفصالياً، ما قد ينوف عن اثنتي عشر مشكلة مؤجلة، كل واحدة منها تكفي لدفع أحد الطرفين للعودة مرة أخرى لامتشاق السلاح في الوقت الذي تتوفر له فيه الفرصة بتغيّر يطرأ في الظروف والمعادلات المحلية والخارجية بجعلها تميل لصالحه.
وحيث إن من هذه المشاكل ما هو البسيط وغير المعقد ومن السهل حله لو توفرت النوايا الحسنة، فإن مجرد تأجيلها لا يبشر بوجود مثل هذه النوايا، ويؤكد ما ذهبنا إليه... والآن لنعدد هذه المشاكل العالقة مع سبق إصرار هو جنوبي أكثر منه شمالي، مارين بها مرور الكرام، وسنجدها الآتي ذكرها:
- ترسيم الحدود الذي تعثر استكماله بذرائع ومماطلات جنوبية.
- مصير منطقة ابيي المختلف على من يجوز له التصويت في استفتاء تقرير الاختيار بين البقاء شمالاً أو الالتحاق بالانفصال جنوباً.
- تقسيم عائدات النفط، مشكلة العملة، تركة الديون الخارجية والداخلية التي راكمتها حروب العقود الخمسة.
- قضية المواطنة والجنسية الناجمة عن تشابك مجتمعي مديد ومعقد.
- التبادل التجاري لدى طرفين تجمعهما مصالح لا يمكن التخلي عنها أو تجاهلها.
- عقدة توزيع مياه النيل، لا سيما بعد تصاعد النفس الإفريقاني السائد في دول الحوض المعترضة على الاتفاقية التاريخية لتوزيعها إبان الحقبة البريطانية مع مصر.
- تعثر إتمام مسألة المشورة الشعبية في منطقة جنوب النيل الأزرق، والأخرى في منطقة كردفان، الذي يشهد الآن تمرداً يقوده الجناح الشمالي للحركة الشعبية لتحرير السودان، الفائزة بانجاز انفصال الجنوب والتي غدت الآن الحاكمة له.
- التداخل القبلي الحدودي المعقد.
- وأخيراً، حقوق الرعي بين القبائل الحدودية المتنقلة والمقيمة.
هذا، ويمكن بالإضافة إلى ما تم سرده ذكر أربع إشكاليات أخرى ليست بالهينة وإن سهل حل بعضها، من مثل: العلاقات الدبلوماسية بين دولتي الشمال والجنوب غير الواضحة حتى الآن، والوجود الخارجي الأجنبي المكثف في الجنوب المنفصل، لا سيما الغربي الراعي والإسرائيلي المتغلغل النافذ، والصراعات القبلية التقليدية المعقدة والمزمنة. وكذا مسلسل التمردات المحلية الدموية بين رفاق السلاح، الذي شمل حتى الآن سبع ولايات من ولايات الدولة الوليدة، هذه التي سيقودها جنرالات جمعهم هدف الانفصال عن الشمال سابقاً، ولم توحدهم دولة الاستقلال بعد قيامها راهناً، حيث تقول الإحصائيات إن ضحايا هذه التمردات بلغ أكثر من 2300 قتيل قبيل إعلانها والتي من المرجح تفاقمها في قادم الأيام، وهذه كلها أمور ينميها، بالإضافة إلى عوامل عديدة لا مجال هنا لسردها، الإحساس بالهيمنة الدينكاوية على الدولة المستجدة وتفشي روح الإقصاء للقبائل الأخرى السائدة لدى المهمين. ويغذيها عدم التجانس في جنوب يوجد فيه ما بين ستين إلى مائة لغة وإثنية، والمتعدد الأديان السماوية والوثنية الإفريقية، وفيه كل ما يشكل بيئة خصبة للصراعات القبلية المستدامة، الأمر الذي قد يدعو حكومة جوبا إلى الحرص على إبقاء الشمال بمنزلة العدو كسبب مساعد على الحفاظ على وحدة هذا الجنوب المتصارعة أطرافه للأسباب الموضوعية المذكورة آنفاً.
وقد لا يكون في الحرص على وجود قوات دولية واستقدام المزيد منها، حتى بعد الانفصال وإعلان الاستقلال ومباركة الخرطوم أو قبولها وتكيفها معه، إلا ما يعني فشلاً مسبقاً لمأمول الاستقرار فيه مستقبلاً، وانعكاسه بالضرورة على العلاقة بين الطرفين اللذين بدا وكأنهما قد توصلا إلى طلاق بمعروف. وبالمقابل وإضافة لما تقدم، لا يمكن إغفال الصراعات فيما بين الأطراف الشمالية ذات الصلة بالجنوب، أو التي تعد أجنحةً للحركة الانفصالية الجنوبية، والسلطة المركزية في الخرطوم.
وإذا كنا في هذه العجالة قد تعرضنا إلى ما خلّفته التركة النيفاشوية بفضل ما دسته فيها أصابع رعاتها الغربيين وبركة حدب الأشقاء الأفريقانيين من الجيران ذوي المواقف العنصرية التليدة ضد العرب، وهؤلاء نكتفي منهم بالإشارة إلى كل من كمبالا ونيروبي ودار السلام، فإننا نرى لزاماً علينا ٍالعودة مرة أخرى للتأكيد على ما كنا قد أشرنا إليه سابقاً، وهو أنه لم يتحقق من تلك الاتفاقية أو من سلامها بعد إلا انفصال الجنوب عن الشمال، وإن هذا السلام المأمول سوف يجد نفسه من الآن فصاعداً يجري في حقول ألغامها التي يبدو أن إمكانية تفكيكها في علم الغيب... لنخلص بالتالي إلى سؤال لم نطرحه بعد، وهو، أما وقد أصبح السودان سودانين، فمن منهما الذي هو في غنى عن طليقه، ومن منهما الذي يصعب عليه العيش بدون مطلقه؟!..
مهما تعددت الأسباب التي آلت بالسودان إلى الانشطار إلى سودانين، بعد احتراب بين السلطة ومتمردي الجنوب دام لما قارب العقود الخمسة.. فهناك حقيقة واحدة ليس بالإمكان تجاهلها وسمت مسار المسألة السودانية إجمالاً، وهي فشل إدارة التباينات الذي عرفته مسيرة الدولة السودانية الواحدة، هذه المترامية الأطراف والمتعددة الإثنيات والبيئات الثقافية والعرقية والضاجّة بالتنوّع، الأمر الذي لا يوجد بعد ما يؤشر على تفاديه حتى بعد الانفصال، ويشترك فيه كلا الشطرين، لا سيما الجنوبي تحديداً، وهو الذي يوجد فيه ما يقارب المائة لغة وإثنية، والذي يعاني من الصراعات القبلية ضاربة الجذور عميقاً في بيئته المحلية. مثلاً، لغة التفاهم بين قبائل وأعراق الجنوب، إذا ما استثنينا النخبة التي انتجتها الإرساليات التبشيرية المتحمسة عادةً للغة الإنكليزية وفرضها لاحقاً لغةً رسميةً للدولة الوليدة، هي ما يعرف بعربية جوبا ذات اللكنة الزنجية المحلية.
ولمقاربة سؤالنا السابق، فمن زاوية شمالية نجد أن الفكرة السائدة لدى غالبية النخبة والشارع، ورغم مشاعر المرارة الناجمة عن الشعور بضياع ما يقارب ثلث السودان، هى أن الشمال جغرافيةً وثروات وإمكانيات ومستقبلاً هو في غنىٍ عن الجنوب الذي استنزفه وأثقل كاهله وأعاق تفرغه للتنمية والتطور على امتداد العقود التي تلت الاستقلال، ورغم ضياع قسم من عائدات نفط الجنوب فإن المكتشف والمؤمل كشفه في مناطق الشمال هو أكبر وأوفر بكثير، وسيعوض ويزيد عن هذه الخسارة، كما أن الجنوب لا يمكنه تصدير نفطه بسعر تجاري إلا عبر المنافذ الشمالية، وبالتالي حصول الشمال على نصيبه منه بدون هذه الوحدة، بل وهناك كثيرون يرون أن الانفصال هو في صالح الشمال الذي سوف يغدو بفضله أكثر تجانساً وانسجاماً مع هويته العربية، وأن الجزء الذي انفصل وصوت للانفصال وحارب من أجله، وحيث لا اقتصاد وتنعدم فيه كل أسس الدولة، عليه الابتداء من الصفر.
ورغم الوعود الخارجية التنموية التي انهالت من كل صوب وحدب والتي عادة تتبخر قبل التنفيذ، فهو لن يكتب له نهوض من دون تعاون الشمال في كافة المجالات وأهمها النفط ومسألة تصديره، ليخلص الشماليون إلى استنتاج يقول، بأن هذا الجنوب هو الذي في حاجة إلى الشمال، ويضيفون هنا، إن هذا الذي تندلع فيه الآن النزاعات والتمردات، سرعان ما سيكون مرتعاً للانشقاقات والخلافات داخل القوام السياسي للحركة الشعبية المسيطرة على دولته وبينها وبين القوى الجنوبية الأخرى البالغ عددها ما يقارب السبعين حزباً، وسيكون فريسة لتصاعد الشكوى من تفشي الفساد وهيمنة الدينكا واستفرادها بالسلطة.
ويضيفون إلى هذا ما سوف تعاني حدوده مع الدول الإفريقية المحيطة به من تأثير الصراعات المسلحة لدى الجيران كالحال في الكنغو وأوغندا وكينيا، ويذكّرون بأن القومية الأثيوبية الكبيرة المجاورة له هي الأرومو التي تتحين فرصتها للانتقام من الحركة الشعبية لتعاونها مع نظام منغستو هيلا ميرم في قمعها، واخيراً لا يستبعدون أنه سوف يسعى مستقبلاً بنفسه للعودة إلى بيت طاعة الزوجية مرة أخرى بعد أن سعى للطلاق وحارب وصوّت للوصول إليه...
وماذا عن الجنوبيين؟
هناك خلافات ليست مستورة تدور داخل الحركة الشعبية التي قادت التمرد وحققت الانفصال وتهيمن عليها، وتعبر عنها أربعة اتجاهات هي كالآتي:
- طرف يرى في عملية فصل جنوب السودان عن الشمال خطوة أولى يجب أن يتبعها فصل جنوب كردفان، وجنوب النيل الأزرق، ودارفور، ومن ثم الزحف على بقايا الشمال بما يؤدي إلى سيطرة الحركة على كامل السودان وبناء الدولة السودانية الإفريقية الهوية وعاصمتها جوبا، وهذا الاتجاه من موروثاتها التي لا زالت متمسكة بمواقف سابقة لقائدها الراحل جون قرنق ثم فيما بعد تخلي عنها.
- وطرف، أكثر تواضعاً، ينادي بالاكتفاء، بعد تعزيز قدرات الدولة الوليدة، بفصل منطقتي جنوب كردفان وجنوب النيل الأزرق وضمهما الى الجنوب.
- وطرف أكثر واقعية ينادي بضرورة الاكتفاء بالجنوب المنفصل ضمن الحدود الراهنة، والتركيز على بناء دولته، والاحتفاظ بعلاقات جيدة مع الدولة الشمالية كمصلحة جنوبية.
- بقي طرف رابع له انصاره حتى في الحركة الشعبيه يقول بأن فرصة استعادة وحدة السودان ممكنه، والمسألة مسألة وقت وعلينا الانتظار ريثما يثبت للمواطن الجنوبي البسيط أن الحركة الشعبية قد ضللته وقادته في الاتجاه الخاطئ، بل إن هناك من الجنوبيين العاديين من أصبح يجاهر بوجوب استعادة الوحدة، وهؤلاء يزدادون يوماً فيوم، لا سيما في أوساط اولئك العائدين من الشمال المصطدمين بواقع ما بعد تحقيق الانفصال، يضاف إليهم تلك الأقليات التي تقلقها الهيمنة الدينكاوية وكنا قد اشرنا إلى هذا سابقاً...
وبعد قد لا نجد، ونحن نختم محاولتنا مقاربة الأسئلة التي طرحناها من خلال معالجاتنا للمسألة السودانية، ما يصرفنا عن معاودة طرحنا لسؤال: سودان هذين السودانين إلى أين؟!.
العرب اونلاين


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.