خواطر ومخاطر: أحمد سعيد يروي سايمون هيرش، أشهر صحافيي أميركا، أنه ذهب لمقابلة حاكم قطر آنذاك الشيخ حمد بن خليفة في قصره، وفوجئ بأن القصر الفسيح مبني كله تحت الأرض. المفاجأة الثانية كانت عندما قال له الشيخ حمد إن ثمة 12 صحيفة كبرى في الولاياتالمتحدة على شفير الإفلاس، وسأله رأيه في أن تقوم قطر بشرائها جميعاً. وأجاب هيرش على الفور بأنه لا ينصح بذلك على الإطلاق. وبعد ذلك عادت قطر واشترت مجموعة من الإذاعات المحلية يملكها نائب بيل كلينتون آل غور في سعي لتكبير حجم «الجزيرة الدولية»، لكن المشروع أخفق بعد قليل. ويجب المسارعة إلى القول إن «الجزيرة» بالإنجليزية كان، حتى انفجار الأزمة الأخيرة، مشروعاً ناجحاً وعملاً موضوعياً يقوم به صحافيون جاءت أكثريتهم من مؤسسات مهنية، تحرص على مكانتها وسمعتها ومراعاتها للقوانين. أخبار ذات صلة: وفقاً للشيخ حمد آل ثاني ... سر القاعدة الأمريكية في قطر، وكيف اخترق الأخوان قناة الجزيرة «الجزيرة» الأم ولدت أيضاً من رحم ال «بي بي سي»، واجتذبت إلى الدوحة مجموعة من الكفاءات الإذاعية، وبدأت «الجزيرة» البث رافعة شعار «الرأي والرأي الآخر». وبالفعل كان ذلك خطأ جديداً في الإعلام العربي. إن صاحبة القناة العابرة للحدود، دولة صغيرة مسالمة لا أهداف لها ولا استقطابات. لكن ذلك لم يدم طويلاً. فقد تحولت «الجزيرة من قطر» إلى «الجزيرة القطرية». وتبين أنها ضالعة في جميع الاستقطابات. وعلا الصراخ والصخب في استديوهات الدوحة. ومن أجل أن تنفي الدوحة عن نفسها سمعة الأمركة والعديد والعلاقة مع إسرائيل، ذهبت إلى تورا بورا والملا عمر. وبعد فترة الموضوعية، وقعت القناة، كما قال الشيخ حمد لسعد الدين إبراهيم، تحت تأثير «الإخوان المسلمين». وصار فيها شيء من نبرة أحمد سعيد، الذي لم يخفِ الشيخ حمد إعجابه به. والخليج المحاط بمن وصفهم الشيخ حمد «بالغيلان»، لا يحتمل أن يصبح هو مركز الصخب. ما تزال مصر، بحجمها وتاريخها وتراثها، تدفع إلى اليوم أثمان آثار «صوت العرب»، التي يلمح الشيخ حمد إلى إعجابه بتجربتها. وما زال العالم العربي يعاني من التمزق الذي تركته في النفوس. وليس الخليج وحده من لا يحتمل هذا الغلو اليومي في كل الاتجاهات، بل العالم العربي برمّته. لقد سمى الشيخ حمد ثلاثة «غيلان»، لكنه لم يقل متى تعرض أحدها لبلاده بكلمة، أو خطوة تبرر خوفه منها وذهابه إلى أميركا، أو «أكبر بلطجي في العالم»، حسب تعبيره. شنت «الجزيرة» حروبها على «الغيلان» والحملان معاً دون أن توفر أحداً. ولم تعد المسألة تلفزيونية فقط، بل وصل المال والسلاح الجوي إلى ليبيا. كأنما من يخاف الغول، يقلّده. خواطر ومخاطر: ما هو البديل؟ قال الشيخ حمد بن خليفة للدكتور سعد الدين إبراهيم، إذن، هذا النص الذي لم ينفه أحد: «عندما تكون أغنى بلد في العالم، فإنه بشيء من الذكاء والدهاء، تستطيع أن تفعل كل ذلك الذي تستغربه». هذا صحيح. ولكن كان في إمكان قطر ألا تفعل شيئا «من كل ذلك الذي تستغربه». أن تدعم وحدة مجلس التعاون بدل أن تنكّد عيشه. وأن تُغرق البحرين المحدودة الدخل بالاستثمارات بدل أن تُعطّل مسيرتها. وأن تقيم للعالم العربي أكبر صندوق تنمية في التاريخ. وأن تحيي الجامعة العربية من رميمها، بدل أن يأخذها حمد بن جاسم بصدره على أنها قائمة المقتنيات. يقول حمد بن خليفة في المقابلة نفسها، إنه يفعل ما فعلته الكويت في الماضي! لا أحد يذكر أن إذاعة، أو صحيفة كويتية، هاجمت بلداً عربياً. ولا أريد أن أكرر ما قلته سابقا في هذا الباب، لكن أمير الكويت الشيخ صباح الأحمد كان يجول الدول العربية المتوترة حاملا رسالة الوئام. ولا يزال، رغم تعب السنين ويأسها وخبرته بالناس. لم تخرج الكويت من أدبيات الصف العربي أنملة واحدة. ورغم موقف منظمة التحرير خلال الاحتلال، لم تشجع انشقاق الفلسطينيين، ولم تحرّض على قياداتهم، ولم توسّع الهوة بينهم. وما من يوم أرسلت السلاح إلى أحد، ولا مال السلاح. ولعبت، منذ اللحظة الأولى، الدور الأخوي في مجلس التعاون، لا غطرسة ولا تشاوف. وذات مرة التقيت في مجلس الأمة وزير الخارجية السابق الدكتور محمد السالم، وقلت له متى ستخرج الكويت من الانكفاء، وتعود إلى دورها السابق؟ وكان جوابه «أن الكويت لن تتجاوز معطيات حجمها بعد اليوم، لكي لا يُساء فهم رسالتها. أمامها إطاران قوميان، هما مجلس التعاون والجامعة العربية، وسوف تؤدي، من خلالهما، جميع واجباتها». ليس من سابقة لحجم الثروة القطرية، ولا من سابقة لطريقة استخدامها، التي شرحها الأمير الأب بصراحة لا سابقة لها هي أيضا. وما من خليجي، أو عربي، أو مراقب دولي عادي، يتمنى أو يتقبل، أن تصل الأمور إلى هذا الحد. وأن تتمتع السلطة القطرية بهذه الشهرة التي سببتها المقاطعة. وقد جال وزير خارجية قطر في عواصم العالم، فيما الحل الحقيقي والوحيد هو في الدوحة. أي أن تتأكد السلطة من أن «أغنى دولة في العالم» يجب أن تتصرف أيضا كأعقل دولة في العالم، وليس أن تبحث «عما يستغربه» العقلاء. الغرابة مسلية أحياناً. لكن التمادي في استمرارها مؤلم ومضر للجميع. والمرء كثير بأخيه. لا بتركيا ولا بإيران ولا بأميركا، التي وصفها الأمير الأب بأنها «أكبر بلطجي في العالم».