بس يا بحر: عن حادثة غرق أطفال منطقة البحيرة نقلا عن راديو وتلفزيون كوريا الدولي رغم تلك المسافة الشاسعة البعيدة التي تفصل بين شاطئ تلك القرية السودانية المنكوبة في منطقة البحيرة في ولاية النيل في الشمال السوداني، وبين الساحل الجنوبي لبحر الشرق أحد أكبر امتدادات المحيط الهادئ والمطل على جزيرة جيجو في كوريا الجنوبية، إلا أن المنطقتين شهدتا، مع بعض الاختلاف في الحيثيات والتفاصيل والتوقيت، حادثتين مأسويتين مروّعتين لغرق مركبتين مائيتين راح ضحيتهما حشد من أطفال وتلاميذ أبرياء اهتز لهما الضمير الإنساني العالمي بأسره. البحر وكل الأجسام المائية الأخرى من محيطات وبحيرات وأنهار وواحات وينابيع ظلت دوما رموزا للعطاء الجزيل والكرم الفياض لكل الشعوب والأماكن والمناطق والبلاد التي تطل عليها وتجاورها وتتاخمها وتتخللها ومن بينها كوريا التي ظلت على امتداد تاريخها تحمل ما لا يحصى ولا يعد من عرفان وجمائل لما يحيط بها من بحار وما يتخللها من أنهار، غير ان كوريا نفسها تعرضت قبل بضعة أعوام لحادث بحري فظيع زلزلها زلزلة، واهتزت له أوصالها هزا، وذلك عندما ابتلع البحر السفينة "سيوال" وعلى متنها مئات الأطفال من تلاميذ المدارس. ولأن العالم صار مثل قرية صغيرة فقد شاهدت عبر برنامج تلفزيوني كوري تغطية مؤثرة لتفاصيل ذلك الحادث المأسوي الذي شهدته تلك القرية الصغيرة الوادعة في شمال السودان، والذي أعاد لكثير من الكوريين تلك الذكرى المأسوية المؤلمة والمفجعة التي عاشتها كوريا قبل بضعة أعوام، وذلك من خلال تكرر الحادث مع اختلاف طفيف في التفاصيل عندما ابتلع نهر النيل قاربا يحمل العشرات من تلاميذ وتلميذات القرية في طريقهم إلى مدارسهم في الضفة الأخرى لنهر النيل ومن بينهم خمسة شقيقات لأم ثكلى، وثلاثة أشقاء لأب آخر مفجوع مصدوم. وكما أثار غرق السفينة الكورية ومازال يثير زلزالا من الأحزان وفيضا من الدموع كل عام عند مرور ذكرى الحادث الأليم الذي كنت قد تابعته هنا على الطبيعة، فقد شاهدت كذلك صورا متشابهة ومواقف متماثلة تكاد أن تكون طبق الأصل ، من خلال متابعاتي عبر الإنترنت ومختلف شبكات التواصل الاجتماعي لتغطيات حية ومصورة للحادث المأسوي المروع في تلك القرية الحزينة على ضفة نهر النيل والذي يسميه السودانيون في لهجتهم المحلية " البحر". كانت مشاهد تبدو وكأنها معادة ومتكررة مع اختلاف الملامح والخلفية الطبيعية الجغرافية. مشاهد آباء وأمهات الضحايا من التلاميذ والطلاب وهم يفترشون الشواطئ والسواحل المتاخمة في انتظار معجزة قد تعيد لهم أطفالهم الغرقى. صور ومشاهد درامية باكية تضمنت شهادات وإفادات لآباء وأمهات وأشقاء وشقيقات وأصدقاء وأصحاب ومعلمين وهم يسترجعون تفاصيل الحادث وكيف مرت تلك الأيام الصعبة، وما تركت من أحزان غائرة وجراح عميقة لم ولن تندمل. مشهد جدة عجوز تنهمر الدموع من عينيها كالأمواج فوق وجهها المتغضن، وأب محزون تخرج منه الكلمات واهنة وسط شقشقة العصافير ونواح الطيور التي تبدو وكأنها مستغرقة في عزف سيمفونية جنائزية حزينة. مشهد تلاميذ تمكنوا من النجاة وهم يصفون ويسردون تفاصيل المأساة مثل ذلك الصبي السوداني الذي لم يبلغ العاشرة وهو يبكي ويتوقف عن السرد ليعبّر عن حزنه على عدم تمكنه من إنقاذ شقيقه وشقيقته الصغيرين. مشهد الطالب جون بيونغ سام الذي نجا من الحادث بأعجوبة وهو يقول إنه لم يعد يعرف النوم الهادئ منذ فقد ثلاثة من أعز أصدقائه وأقرانه اللذين اصطفاهم منذ أن كان طفلا في الخامسة من العمر. وكما استمعت لحديث الأستاذ المعلم بالمدرسة السودانية علي عبد الماجد وهو يغالب دموعه وهو يتحدث عن المأساة التي لن تنساها المدرسة ، استمعت كذلك للأستاذ والمعلم كيم يون سوو، الذي فقد عددا من طلابه النجباء كما وصفهم والذين كان يتوقع لهم مستقبلا باهرا، فهو يقول إنه ومنذ وقوع الحادثة يذهب بشكل متكرر إلى مسرح وقوع الحادثة ليستعيد الذكريات الأليمة، ويسترجع الكثير من الصور والحكايات والوقائع التي كانت تجمعه مع أطفال أحبهم وغرسهم كبذور كان يتمنى لها أن تنمو أشجارا وارفة ظليلة في حياته غير أن القدر اراد أن يحيلها إلى جدب. قال إنه كل ما حضر لتأمل البحر بمياهه البلورية ، وسواحله الصافية الزرقاء، وأمواجه الشفافة ، تحول منظر البحر أمام ناظريه إلى ظلمات من فوقها ظلمات. ولم تقتصر ردود الأفعال الكورية على الأحزان والدموع وحدها، بل أدت الحادثة المؤلمة إلى عدد من الأحداث والتطورات ذات الصلة، فقد شهدت الفترة التي تلت وقوع المأساة انتحار الملياردير مالك السفينة التي غرق على متنها 300 تلميذ مع عدد من الركاب الآخرين تاركا وراؤه القناطير المقنطرة من الثروات والممتلكات المتنوعة من عقارية واستثمارية هائلة، ومجرد وريقة كتب عليها بخط متعجل إنه آثر الانتحار لأنه لن يستطيع تحمّل نظرة أي أم ثكلى من أمهات أولئك التلاميذ. انتحر كذلك مدير المدرسة الذي كان يصاحب تلاميذه في تلك الرحلة المدرسية بعد أن سبح وتمكن من النجاة، غير أنه كما قال لأحد أصدقائه قبيل انتحاره بيوم واحد ، وبعد أن عرف أن جميع تلاميذه فيما عدا قلة قليلة قد راحوا ضحية الكارثة، قال إن صراعه مع وخز الضمير، وإحساسه بأن فرّ وآثر الهروب والنجاة تاركا تلاميذه الصغار، ظل ّأقوى وأصعب وأكثر إيلاما من مصارعة الموج الهادر. ولم تسلم حتى الرئيسة الكورية بارك كون هي، والتي انتخبها الشعب الكوري بأغلبية ساحقة وفي انتخابات حرة ونزيهة بشهادة الجميع، من آثار الحادثة التي كانت أحد أهم الأسباب التراكمية التي أدت لخروج الملايين للشارع ودفعت البرلمان لمحاسبة الرئيسة وعزلها في ظاهرة هي الأولى في التاريخ الكوري. كان تقرير صحفي قد أشار إلى أن رئيسة الجمهورية، ، قد ذهبت في اليوم التالي للحادثة المفجعة، إلى محل تصفيف شعر، ورغم أن الرئيسة، وهي آنسة في خمسينات العمر، ردت على ذلك بأن الأمر لم يعدو مجرد استعداد لظهور تلفزيوني مرتبط بحادثة غرق السفينة، إلا أن الأكثرية رأوا في الأمر استخفافا بالكارثة في وقت تعيش فيه البلاد حالة حداد كامل وحزن شامل. ذكرتني تلك المشاهد بفيلم درامي محزن قديم للمخرج الكويتي خالد الصديق باسم "بس يا بحر"، عن كويت ما قبل النفط، وهو فيلم اعتبره الكثيرون من النقاد يومها أحد أعظم روائع السينما العربية على مرّ تاريخها، وأبكى كل من شاهده عن أم كانت في انتظار ابنها الذي غاص في أعماق البحر مؤملا بأن يعثر على بعض اللؤلؤ ليقدمه مهرا لعروسه الشابة التي كان يعشقها وينوي التقدم لخطبتها وزواجها، غير أن البحر ابتلعه وترك الأم ، التي كان قد سبق لها فقدان زوجها وابنها الأكبر غرقا أثناء عمليات غوص وبحث سابقة عن اللؤلؤ والمحار، في حسرة عميقة. كان منظر الأم في نهاية الفيلم، وهي تحمل اللؤلؤة الثمينة التي وجدوها بين أصابع جثة ابنها الشاب ، وقد توجهت بها نحو ساحل البحر، مبكيا لكل أفراد الجمهور وهي تنوح وتولول وتخاطب البحر وتقول له إن كل ما في جوفه من لؤلؤ وكنوز لا يساوي شعرة من رأس ابنها الفقيد، ثم تمسك باللؤلؤة الثمينة وتقذف بها بقوة في مياه البحر وهي تصرخ ليه يا بحر، كفاية يا بحر، بس يا بحر، بس يا بحر. وكذلك كان للشعراء والفنانين في الحادثتين الكورية والسودانية دور في إبداع قصائد وأغاني مؤثرة وحزينة لتصوير مشاهد وأحداث وأحاسيس العائلات المنكوبة ومنهم الشاعر السوداني المرموق محمد المكي إبراهيم الذي قال في مقطع من قصيدة له: كانت اعمدة النور تدور حول نفسها باحثة عن ضاغط يحيلها الى ليزر حارق تحلقوا كلهم حول البحيرة حيث كانت الملائكة الغرقى تطفو على المياه بين الكتب المبتلة واشرطة الشعر الملونة وكان وجه الله الغاضب الجميل يطل على الجمع محتقنا بالحزن الكظيم تأدبا في حضرة الموت راحوا ينتفون اوراق الورد ويلقونها على الماء الاحمر الفوار حيث ذابت كالسكرة طفولة عشرين من فلذات اكبادهم. وبذات الإحساس الفياض المماثل كان الشاعر الكوري العظيم ري يونغ سك قد كتب في مقطع من قصيدة قال فيها: ابكوا يا كل المسافرين على السفن التي تمخر عباب البحار الحزينة ابكوا على تلك الأغصان الخضراء التي ذبلت قبل الأوان وعلى تلك النجوم البراقة التي أفلت وغابت في الظلام ادمعي أيتها الأعين بل ابكي دمع الدم على فراق صبايا كالدرر المنثورة وفتيان كأضواء الشمس المتوهجة كلنا محزونون ولا نتوقف على البكاء إلا من اجل البكاء من جديد ولا نمسح الدمع إلا لذرف المزيد من الدموع كل الأقلام والكتب والكراريس و أجهزة الكمبيوتر تبكي في حرقة وكل مناهج العلوم أضربت عن المعرفة والمقاعد الدراسية الحزينة الخاوية على عروشها تجمدت الدموع في محاجرها أبكوا عليهم كيفما طال البكاء. [email protected] نقلا عن راديو وتلفزيون كوريا الدولي