لا زالت ذكريات ثورة أكتوبر 1964 تتراقص صورها خلف ضباب الذاكرة كأول حدث سياسي تتفتح عليه مسامات متابعتي السياسية المبكرة بحكم البيئة المنزلية . فقد كنت حينئذ في بداية العقد الثاني من عمري وأخطو نحو إمتحان اللجنة من المرحلة الإبتدائية أو أبوسِعد الأولية بالأحرى الى الأميرية الوسطى بأم درمان .. وعند بداية الأحداث جاء والدي عليه رحمة الله مع وفد إتحاد مزارعي الجزيرة والمناقل لينضم الى جبهة الهيئات التي قادت الثورة ضد حكم عبود وطغمته العسكرية . لم تكن جدتي الحاجة بنت المليح خالة والدي تسمح لي بمغادرة المنزل إبان الأحداث إلا وهي ترافقني كظلي وفرضت عليَ حظر تجول بمنطقها وهي تهمهم كفانا أبوك تراه لايص وسط الكركبة ما معروف وين مكانه ! وحينما أبلغها جارها عباس حسب فهمه البسيط بأن الحكومة ستستخدم الطواريء في مواجهة المظاهرات إنخلع قلبها وقفزت الى ذهنها حكاية قريبنا البناء الذي ضرب زميله بالطورية و شقّ رأسه ..فخطفت ثوبها وهرعت الى حاج الصديق صاحب الدكان الذي كان يتابع عبر المذياع بيانات الحكومة المحذرة للمواطنيين حرصاً على سلامتهم من الخروج خشية تعرضهم للمخاطر ..فضحك وشرح لها معنى الطواري وطمأنها أن الأمور في طريقها الى الإنفراج وأن إبن أختها بخيروستراه قريباً . لم أكن شاهداً عن كثب على ثورة ابريل 1985 بحكم الإغتراب ولكن بمثل ما حكى لنا الوالد عن إحترام الشرطة للنساء اللائي تقدمن المواكب في أكتوبر دون أن يمسسهن أحد بسوء سوط أو تحقير خرطوم ..لم نسمع بالمقابل أن واحدة من بنات الوطن قد تعرضت للإذلال والمهانة إبان طواريء نميري ! ذهب عبود ونميري بما لهما وعليهما رحمهما الله..وهتف محمد الأمين في ملحمة هاشم صديق الخالدة ..ولسه بنقسم يا أكتوبر لما يطل في فجرنا ظالم..كما أنشد وردي بعد ابريل كلمات محجوب شريف عليهما الرحمة.. بلا وإنجلى ! وهاهما الظلم والبلاء يعقدان رأية القبح في صارية مشهد ماقبل وبعد الطواريء الحالي بما لايشبه أخلاق السودانيين ولا عرفته مثالية الشرطة السودانية في مختلف العهود وحتى الحقبة الإستعمارية منها ..أن يضرب الرجال الفتيات على مؤخراتهن وهوأمر كان ينهى عنه الكبار من أجدادنا وحبوباتنا حينما يعاقب الأب أو الأم إبنتهما وإن كانت يافعة ..و لكن عشنا لنرى و يشاهد معنا العالم كله شباب العصابات الملثمين يشدون ستر الرؤوس العالية ويستمتعون بكشف العورات و لطالما تغنى أهل زمان إطنابا في شكر الجنا مقنع البايتات ! فاصبح كل ذلك تراثاً مطموساً في قاموس الذين يغزون الساحات وهم ينادون الكنداكات للمنازلة وقد ساءهم ألا يجدوا من يهتكون كرامتها باسترجالهم القائم على السلطة والسلاح والجهل بقيم هذه الأمة التي ترفع مقام بناتها فوق ذروة الخاطر ..فخرج من مدارس الكيزان من يضعوهن تحت حوافر التاتشرات الصاهلة بنبرة التحدي..وهي تجوب الأحياء لتشق سكينة الناس بطواري الإنقاذ الإسلامية الأعواد ساعة القيلولة ..وبدلاً من مناشدتهم بالتزام الأمان داخل بيوتهم فإنها تناديهم استفزازاً للخروج إن كانوا حقاً أسود البراري .. وقد صرخ أحدهم واصفاً أياهم بجملة خرج حرفها الأول يا(خ )وتلعثم في غمرة خوفه من إكمالها أن تقطع لسانه كنداكة تخرج عليه بسكين غبنها غيرةً وتأكيداً على وقار أبيها ورجولة أخيها الذي ظل حامياً لها وسيظل رغما عن فقاقيع الشجاعة السلطوية التي تهرب من حجارة الشفّع تاركة الراحلة وفي روايةٍ أخرى السروال المبتل ذاته ! فشكرا لمن صورذلك المشهد بكاميرة الغباء ومايكرفون الهبل وقد بشع عبر دعايته المجانية لسلمية الثورة في مقابل نهج المحبة والسلام المزعوم الذي تشدق به رؤساؤه ولكن مالبث أن طبقها نيابة عنهم صبيتهم الأغرار في ساحات المنازلة مع خيبة المسعى وأصداء اللعنة !