تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    تدرب على فترتين..المريخ يرفع من نسق تحضيراته بمعسكر الإسماعيلية    أبل الزيادية ام انسان الجزيرة    الفاشر ..المقبرة الجديدة لمليشيات التمرد السريع    وزير الداخلية المكلف يستعرض خلال المنبر الإعلامي التأسيسي لوزارة الداخلية إنجازات وخطط وزارة الداخلية خلال الفترة الماضية وفترة ما بعد الحرب    الزمالك يسحق دريمز في عقر داره ويصعد لنهائي الكونفيدرالية    سان جرمان بطلا للدوري الفرنسي.. وعينه على الثلاثية    أرسنال يحسم الديربي بثلاثية    إيران تحظر بث مسلسل "الحشاشين" المصري    شاهد بالفيديو.. سائق "حافلة" مواصلات سوداني في مصر يطرب مواطنيه الركاب بأحد شوارع القاهرة على أنغام أغنيات (الزنق والهجيج) السودانية ومتابعون: (كدة أوفر شديد والله)    السودان..توجيه للبرهان بشأن دول الجوار    وزير الصحة: الجيش الأبيض يخدم بشجاعة في كل ولايات السودان    نائب وزيرالخارجية الروسي نتعامل مع مجلس السيادة كممثل للشعب السوداني    شاهد بالصورة والفيديو.. طلاب كلية الطب بجامعة مأمون حميدة في تنزانيا يتخرجون على أنغام الإنشاد الترند (براؤون يا رسول الله)    شاهد بالفيديو.. الفنانة ندى القلعة تواصل دعمها للجيش وتحمس الجنود بأغنية جديدة (أمن يا جن) وجمهورها يشيد ويتغزل: (سيدة الغناء ومطربة الوطن الأولى بدون منازع)    شاهد بالصور.. بالفستان الأحمر.. الحسناء السودانية تسابيح دياب تخطف الأضواء على مواقع التواصل بإطلالة مثيرة ومتابعون: (هندية في شكل سودانية وصبجة السرور)    يس علي يس يكتب: روابط الهلال.. بيضو وإنتو ساكتين..!!    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    جبريل إبراهيم يقود وفد السودان إلى السعودية    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    تجارة المعاداة للسامية    رئيس حزب الأمة السوداني يعلق على خطوة موسى هلال    سرقة أمتعة عضو في «الكونجرس»    بايدن منتقداً ترامب في خطاب عشاء مراسلي البيت الأبيض: «غير ناضج»    استجابة للسودان مجلس الأمن يعقد اجتماعا خاصا يوم الاثنين لمناقشة العدوان الإماراتي    تدمير دبابة "ميركافا" الإسرائيلية بتدريب لجيش مصر.. رسالة أم تهديد؟    دبابيس ودالشريف    حسين خوجلي يكتب: البرهان والعودة إلى الخرطوم    بمشاركة طبنحة و التوزة...المريخ يستأنف تحضيراته    شاهد بالصورة.. بعد أن احتلت أغنية "وليد من الشكرية" المركز 35 ضمن أفضل 50 أغنية عربية.. بوادر خلاف بين الفنانة إيمان الشريف والشاعر أحمد كوستي بسبب تعمد الأخير تجاهل المطربة    قوة المرور السريع بقطاع دورديب بالتعاون مع أهالي المنطقة ترقع الحفرة بالطريق الرئيسي والتي تعتبر مهدداً للسلامة المرورية    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    سوق العبيد الرقمية!    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وردي.. أشعَل التاريخَ ناراً، وإشتَعَلْ!..الهرم يحكي قصة مثيرة عن اغنية الود امام اندرية وفريد الاطرش وآخرين.. مدير جهاز الامن : نحن ما قبضناك عشان راكب دبابة قبضناك عشان عودك ده وما حنديك ليهو.
نشر في الراكوبة يوم 21 - 02 - 2012

ولأن (العمر زادت غلاوتو معاك) يأبى الزمان وأن يصحالنا، لمرةٍ، كيما نجيئك عابرين فراسخ الدمع، وفؤاد حرقته يد (الفرقة والتجريح).. فإسمك كم تغنَّت الأرض، وكم إشتعلت حقول قمح الأمنيات، بالوعد الوقف ما زادْ! محمد عثمان وردي.. أو خمسون عاماً من التبتل في محراب حب ربوع الوطن، حيث رقاع تشمل الجميع (عرباً ونوبا) أحفاد ألماظ البطل والقرشي الشهيد، حملنا بعضاً من (الحزن القومي) سؤالاً خجولاً على فئات مختلفة من المبدعين، عن “النوبي الصميم" و(آخر الفراعنة العظام)، فإستجابوا على مضض من الأسى، وكانت هذي الحصيلة..
سفير الثقافة النوبية:
بصوتٍ متهدج ومتأثِّر، قال فنان الجاز كمال كيلا أن وردي فقد عظيم للسودان فقد كان فناناً عملاقاً تغنى للسودان الحبيب ولاستقلاله وللحريات ولكل شيءٍ جميلٍ فيه، مضيفاً بأنه ضمن جيل تعلَّم من وردي حب الوطن عبر أغنياته الخالدة خلود النيل، وهو صاحب القدح المعلَّى في معترك إرساء القيم لهذه البلاد، وقد أفنى روحه من أجل البلاد، وكان شجاعاً لا يخاف في الحق إلا الله، معتبراً بأنها بعضٌ من سمات تكفل لوردي الخلود أبداً بيننا. وقال كيلا ل(الميدان) أن الراحل على المستوى الفني قد أتى وافداً للثقافة النوبية من أقصى الشمال، كمثقف حامل لتراثه بمعناه الكلي، وبذلك أستطاع فرض نفسه على الساحة الفنية ب"الربابة" والإيقاعات الساحرة والتراث النوبي الأصيل.. “القمر بوبا" و"نور العين"، كما تناول أغنية الوسط والحقيبة وأضاف لها جديد الألحان، مشيراً لإستفادة الراحل من مزج غناء الوسط والحقيبة بتراثه النوبي والشمالي، مما فتح الباب أمام أجيال جديدة زكي عبد الكريم وإدريس إبراهيم، حيث أثروا إذاعة السودان بأعمالهم، وأضاف بأن وردي يبقى فنان السودان الأول بتحركه عبر كافة إيقاعات الثقافات السودانية.
سادن الفكر والجمال:
بدوره قال الشاعر عبد الله شابو بأن يذكر مجيء وردي إلى تجمع الفنانين والكتاب التقدميين (أبادماك) رفقة محمد الأمين، مبيناً بأن الراحل كان شعلة من النشاط ولصيقاً بالناس، وصديقاً للشعراء والكتاب على عبد القيوم ومبارك بشير وعلى الوراق وكثيراً ما كان يدعوهم إلى بيته ويناقش أشعارهم ويتغنَّى بها، كما رافق عبد الله على إبراهيم وعثمان خالد.
ويرجع الناقد والمسرحي السر السيد ذكرياته مع وردي إلى فترة مبكرة جداً من حياته، حيث قال بأنه تعرَّف عليه منذ أن عرف التعامل مع فن الغناء، كأحد الفنانين الأساسيين، وربما للإهتمام بالثقافة والسياسة كان يرى السر السيد بأن وردي (معبِّر) عن تلك الرؤى والأخيلة التي يتبناها، مضيفاً بأن وردي بزَّ الآخرين بحساسيته المختلفة في انتقاء الشعر والمضامين، وقال بأن ذاكرته مع وردي هي الذاكرة الجمالية ذات الأبعاد الفكرية والثقافية والسياسية، وأشار إلى أن التعاطي مع هذه الذاكرة يحيل بدوره إلى سؤال مهم، وهو أن وردي أحد رواد التنوير وبنية من البنيات الأساسية للوجدان السوداني، مضيفاً بأننا إذا تحدثنا عن سياسيين ومفكرين من قبيل بابكر بدري، فإن وردي يجيء من موقع الغناء وصناعة الوجدان أحد بنيات هذا الوجدان، ضمن كثيرين يمكن أن يكونوا قد ساهموا في صياغة الوجدان لكن الراحل وبتقاطعاته الجذرية في مشروع الغناء ذات الأبعاد الفكرية والثقافية. مضيفاً بأن هنالك جانباً لا يقل أهمية في مسيرة الفقيد، وهي شخصية الفنان العالمي المتخطي للحدود، وهو الشاهد على العصر ككل في الزمن الراهن، بتماساته التي تحققت مع ناظم حكمت وغيره، وررد السيد بأن وردي صاحب ثقافة ذات أبعاد كونية أثَّرت على مسار التغيير في العالم أجمع.
إمبراطور الوجدان السوداني:
ويعود المسرحي وخبير مسرح العرائس محمد نور الدين بذكرياته القهقرى مسترجعاً ذكريات الطفولة، وقال أن (القمر بوبا) كانت من أغاني “رقيص العروس" كما يذكر عن سنوات الطفولة، مضيفاً بأنه تعرف على أغنيات وردي في المرحلة المتوسطة وعقب الإنتفاضة حيث كان يبث أثير الراديو أغنياته، ومنها إستمرت العلاقة مع درر (الفرعون)، ويضيف نور الدينم بأن وردي يجيء بعد الكاشف تماماً في الجانب الموسيقي، حيث إهتم ومبكراً بالمقدمة الموسيقية الطويلة، وأوضح بأنها ربما كانت لتأثير الموسيقى المصرية (كوكب أم كلثوم) غير أن السودانيين لم يعرفوا هذا الضرب إلا لدى الكاشف. وجاء بعدها إهتمامه بالأغنية الوطنية، معتبراً بأن الفترة التي سبقت وردي كانت تضم أغنيات وأعمال وطنية غاية في البراعة لكن وردي هو الذي أضاف الجديد من الغناء الثوري إلى مكتبة الأغنيات الوطنية، معتبراً أن أغنياته الوطنية كانت أغنيات “عندها موقف فكري وآيديولويجة بتعبِّر عنها"، وقال أن محمد الأمين يشاركه في هذه الريادة، وهو الأمر الذي فتح الباب من بعد لأجيال مصطفى سيد أحمد وأبو عركي البخيت، وردد: “وردي هو عرَّاب هذا الجيل الجديد"..
الفنان الشاب عضو فرقة (راي) الخطيب الشفيع أشار إلى أن الفقيد قدم عطاءاً ثرَّاً للسودان، وهو رائد من رواد التجديد في الأغنية الحديثة، وحتى أخر تسجيل له في حياته كان حريصاً على تقديم إنتاج وألحان جديدة، مضيفاً بأن ألحانه صاغت وجدان الناس، مؤكداً على أن معين الراجل في تجديد الألحان والتوزيع وتذوق النصوص لم ينضب، معتبراً أن إرثه سيظل محفوراً في تاريخ الأمة السودانية وسيسكن قلوب الناس ما حييت، فهو صاحب مساهمة مليئة بالنضال والوطنية والأحاسيس المترعة بمشاعر وعواطف العمال والمزارعين والمستضعفين، فهو عطاءٌ باقٍ، وثابتْ..
الميدان
محمد وردي.. هكذا تحدث الاسطورة
خالد فتحي
[email protected]
وأخيراً طوى محمد وردي (نوتة) ألحانه وحمل قيثارته ورحل عن عمر مديد انكفأ فيه على سكب ألحانه الشجية وموسيقاه التي طالما أثرت النفوس وشدت إليها الانتباه.. ولعله كان مثل (اورفيوس) في الميثولوجيا الاغريقية.. وهو موسيقيٌّ في الأساطير الإغريقية والرومانية، كانت موسيقى صوته وقيثارته من العذوبة بحيث كانت تتبعه الحيوانات والأشجار والأحجار، وتتوقف الأنهار عن الجريان كي تستمع إليه.. وتروي الاسطورة الاغريقية أيضا أن (اورفيوس) تزوج فيما بعد من (يوريديس) التي أحبها بشغف. وبعد موتها توجه (اورفيوس) إلى العالم السفلي كي يعيدها. وخلبت موسيقاه لب (هاديس وپرسفونه) حاكمي العالم السفلي، وسمحا ل (يوريديس) بالمغادرة. ومثلما سحرت قيثارة (اورفيوس) من قبل سكنة الجحيم ونجا بحبيبته، وافتكها من براثن الموت، في المقابل شكلت موسيقى (محمد وردي) وجدان شعب، وجسدت أحلام أمة، أقعدتها المحنة وأوشك الطغاة على هزيمتها.. لكنها استعصت عليهم وعلى المحنة كما كتب الصحفي المصري الشهير مفيد فوزي على صفحات مجلة (صباح الخير) المصرية، "ان الناس كانوا يستمدون القوة من أغنيات وردي إبان كارثة السيول والامطار في 1988م". وكما تضوعت حياته عطرا كانت خاتمته مسكا فقد كانت مراسم تشعييه بالأمس آية لمن أراد أن يدكر، لم يتخلف أحد عن المجيء.. الكل جاء وفي لمحة نادرة شارك أحد المسيحيين في المراسم الجنائزية جاء متوحشاً بالصليب، مرتديا طليسانا أسود حالكا، كيوم رحيل عبقري الموسيقى السودانية الذي طالما حلم بأن يأتي وطنه على الموعد في تلاقي مثل هذا، كما تغنى في رائعة (محمد عبدالقادر أبوشورة)، (حدق العيون ليك ياوطن) قائلا: "موعدنا يا وطني الحبيب وحدة هلالنا مع الصليب" فالوحدة التي ظل ينشدها في حياته، هاهي اليوم تحققت عند رحيله.
(1)
(محمد عثمان حسن صالح وردي) المعروف اختصاراً ب (محمد وردي) أبصر النور في (صواردة)، في 19 يوليو 1932م في ذات العام الذي شهد إغماضة الجفن لعبقري الاغنية السودانية في العصر الحديث "خليل فرح" ذو الصوت الشجي والاعمال الباذخة ك "عازة في هواك"، " الشرف الباذخ "، وغيرها من الاعمال الخالدة التي ألهبت خيال جيل وشكلت وجدانه ولا تزال. ليس هذا فحسب بل إن بعضها تحول إلى رمز ك (عازة في هواك ) التي بلغت مرتقى بأن تصيرت كنية للسودان نفسه.. قطعا هي المقادير من فعلت ذلك ، لكن فيما بعد سيتم تناقل نبوأة مفادها أن الاغنية فقدت هرما وكسبت آخر لا يقل عنه شموخا ورفعة وسمواً وعبقرية وهذا ما كان يردده دائما القطب الاتحادي (محمد نورالدين) بأنهم أهدوا السودان خليلا من قبل وها هم اليوم وقفوا يهدونه وردي. والرقم (19) ذو سر عجيب للمتتبع لمنحنيات حياة الموسيقار الراحل فقد ولد في (19) يوليو 1932م ودخل الاذاعة للمرة الاولى في ذات اليوم (19) يوليو 1957م وكانت له مع حركة يوليو التصحيحية التي سُميت بانقلاب هاشم العطا في (19) يوليو 1971م ذكريات وحكايات لا تنسى ولا تنتهي وأخيراً توسد الثرى في رحلة الموت الابدية في (19) فبراير 2012م.
(2)
(صواردة) مسقط رأس وردي؛ قرية وادعة بشمال السودان الاقصى، تعد من أكبر عموديّات منطقة السّكوت التي تكوّن مع منطقة المحس ووادي حلفا محلية (وادي حلفا). كانت البداية كما يقول وردي في رائعة (أبوآمنة حامد)، (بنحب من بلدنا)، "من حلفا البداية أحلامي وهناي".. تلك المناطق بسط التاريخ القديم عليها سطوته وسكب عليها لونه على نحو لافت، وتشكلت أفئدة الناس على مرأى النخيل متحداً مع النيل "النهر المقدس" متشابكا مع امتداد الصحراء، التي لا تفتأ ذرات رمالها (السفاية) تفلح الوجوه.. فيما تناثرت المعابد والاهرامات والتماثيل وغيرها من المعالم الاثرية على ضفتي النهر.. وكما يقال "ان الانسان ابن بيئته" حمل المتحدرون من تلك المناطق من النيل وداعته وسكونه والغضب والثورة حد الدمار ومن النخيل العزة والصلابة والتسامي ومن الصحراء امتدادها اللا نهائي وحرارتها اللاهبة وسحرها الغامض.
ومحمد وردي كان واحداً من أولئك الناس جاء وفيه ملامحهم.. ذاق مرارة اليتم منذ نعومة أظافره، وكفله عمه (صالح وردي)، وككل العظماء الذين ذاقوا مرارة اليتم أحال وردي أوجاعه وآلامه الشخصية لطاقة ووقود حيوي لإبداع لا متناهي.. وقد رأيناها كيف أغرورقت عيناه عندما انعطف الحديث عن الأم وحنانها في برنامج (أعز الناس) بفضائية (الشروق) في رمضان الماضي.. وقال وردي بتأثر بالغ انه لا يجد لأمه صورة حتى في مخيلته لأنه لم يرها قط، لقد رحلت أمه وهو لايزال رضيعا، لكنه لم ينكسر ولم يستسلم، بل على العكس تماماً إذ نشأ معتداً بنفسه وبآرائه وبما يعتقد انه حق.. وهذه الخصال بالذات ستجر عليه فيما بعد حنق الكثيرين الذين لا ينفكوا ينعتونه ب (الغرور) لكنه دائما ما كان يرد عليهم بأن ما يرونه ليس غروراً بل ضرب من الاعتداد بالنفس.
(3)
بدأ وردي حياته معلما بالمدارس الابتدائية قبل أن يتحول تماماً إلى الغناء ويفسر هذا الانتقال بأنه وجد صعوبة بالغة في المواءمة بين شخصيتي المعلم والمغني حيث يقول "كتير الطلبة يحضروا حفلاتي ولما أجي المدرسة الصباح يقولوا لي والله أمبارح كنت رائع يا أستاذ" وهذا الامر جعل شخصية المعلم تذوب شيئا فشيئا بخضم شخصية المغني الآخذة آنذاك في الصعود. لما يألوا وردي جهداً في سبيل الوصول لدار الاذاعة التي كانت بحق المنفذ الاوفر حظا لكل مبدع أراد الشيوع والانتشار.
وهنالك حادثة ذات دلالة تروى في هذا الأمر بأن وردي دخل على الفنان الذري (إبراهيم عوض) وكان ملء السمع والبصر يومها عند قدومه لمدينة شندي لإحياء حفل بها وكان وردي أستاذاً بإحدى مدارسها الابتدائية.. والتمس وردي من إبراهيم عوض معاونته لدخول الإذاعة لكن الاخير رد عليه قائلا "يا ولدي درب الغنا ده صعب" ولا نبرح مكاننا حتى نروي قصة أخرى ذات صلة بها بأن الاثنين كانا يؤديان حفل سويا بعد ان تلاحقت الكتوف بعد سنوات. إذ دخل عليهما شاب ينشد المعاونة ليمضي في درب الفن فالتفت وردي إلى إبراهيم ونظر اليه نظرة ذات مغزى قبل أن يرد على الشاب بسرعة "يا ولدي درب الغنا ده صعب شديد" وضجّ الاثنان بالضحك.
(4)
بعد لأي وجهد كُتب لوردي الظهور على اثير الاذاعة السودانية في 19 يوليو 1957م بأغنية " ياطير ياطائر" من كلمات الشاعر إسماعيل حسن، والحان خليل أحمد ولهذا الامر قصة فالاذاعة كانت يومها تتبع نهجا بتخصيص شاعر وملحن لكل فنان جديد يُعتمد للغناء فيها وكان إسماعيل وخليل من نصيب الفنان الناشئ "شاعرا وملحنا".. وسريعا اتبع وردي (ياطير ياطائر)، ب (الليلة ياسمرة) أيضا من شعر وألحان الثنائي (إسماعيل وخليل).. بيد أن نقطة التحول جاءت عندما خطا وردي أولى خطواته في عالمه الجميل المملوء وعدا وتمني بأغنية (أول غرام) التي صاغها شعرا ولحنا، ويروي وردي حكاية الاغنية قائلا بأنه وجد ان الطريقة التي سلكت في تلحين الاغنتين السالفتين لا تحققان مراده في الترقي والتميز بعالم الغناء الذي سادته منافسة شرسة .ويتذكر فصولا من تلك الايام في برنامج (نصف القمر) الذي بثه قناة (النيل الأزرق) منذ سنوات "لقيت نفسي ما حافوت فنانين الضل، الناس يسمعوني الساعة حداشر اتناشر، والاذاعة في الوقت داك كان فيها فنانين ممتازين (عثمان حسين)، (ابراهيم عوض)، (احمد المصطفى)، (عبدالعزيز داؤود) وغيرهم" ويمضي ليقول ايضا بأنه نظر إلى سياق القالب اللحني للاغنتين فوجد ان اللحن دائري يطوف حول أبيات الشعر في ايقاع واحد يكرر نفسه دون تغيير، فحاول في (أول غرام) ان يأتي بنسق جديد وهو ان يقوم اللحن بتفسير الكلمات.
ويتطرق وردي لحادثة طريفة مشيراً إلى أن الاذاعي الذائع الصيت (محمد صالح فهمي) انتهره بغضب عندما قدم له الأغنية بأنها من كلماته فرفض إجازتها وقائلا "إنت ما مفروض تبقى شاعر، إنت مالك ومال الشعر، إنت تغني وبس". فما كان من وردي إلا وأن قام بنقلها في ورقة أخرى وكتب عليها من كلمات (علي ميرغني) والأخير شاعر وموسيقار تغنى له وردي بأغنتين إحداهما (حبي حبك شاغلني) وبعد الانتهاء من تلحينها ذهب ل (خليل أحمد) ليسمعه اللحن، وخليل عندها كان يعمل ب (طلمبة) بالسجانة وقال له وردي: "يا خليل يا أخي أنا عندي أغنية "فرد عليه خليل قائلا: ومالو نلحنا؟ لكن وردي فاجأه بقوله: أنا لحنتها؟ فزجره خليل قائلا: إنت إيه اللي عرفك بالتلحين". فوقعت مشادة بين الاثنين قبل ان يتصالحا فيما بعد كما يؤكد نفسه ضاحكا بعد الحادثة بسنوات طويلة.
وتستشف من الحادثة المار ذكرها صبر وردي ومثابرته على مشروعه الفني التي جعلت الإذاعة تقوم بترقيته في وقت وجيز من فنان (درجة رابعة) لفنان (درجة أولى) أسوة بالاربعة الكبار (حسن عطية) و(عثمان حسين) و (احمد المصطفى) و (ابراهيم عوض). وفي سبتمبر 1958م اعتلى وردي العرش مع الكبار بفضل مدير الاذاعة الاشهر (متولي عيد) الذي لم ينس ان يهدده بإعادته إلى الدرجة الرابعة مرة اخرى إذا لمس منه تخاذلا أو تكاسلا.
(5)
ولم يمض من الوقت الا قليلا حتى وقع انقلاب 17 نوفمبر1958م بقيادة الراحل الفريق (إبراهيم عبود) و دخل وردي إلى استوديوهات (هنا أمدرمان) ليصدح بأغنية مطلعها (17نوفمبر هبّ الشعب طرد جلاده) التي صاغ كلماتها ولحنها وأداها بنفسه، تمجيدا لرجال حركة نوفمبر الذين رأى فيهم كما سيبرر فعلته فيما بعد صورة الزعيم الراحل (جمال عبدالناصر) دون ان يدري وقتها هل كان عبدالناصر نفسه ديكتاتور أم بطل شعبي . وما حدث يصلح ان يكون مدخلا منطقيا للتعليق على مدى صدقه في روايته للحادثات التاريخية التي يكون طرفا فيها فقد استمعت اليه وهو يسرد أجزاء من سيرته الذاتية في ليالي رمضانية في صيف 1987م على اثير الاذاعة السودانية في سلسلة من تقديم (معتصم فضل) المدير الحالي للاذاعة ثم في العام 2005م على شاشة النيل الازرق في برنامج (نصف القمر) من تقديم (سعد الدين حسن) لم يكد شيئا قد تغير أو تبدل في السرد ذات التفاصيل وربما بنفس العبارات.. كأبلغ دليل على صدق الراحل مع نفسه ومع الاخرين.. فقد درج على تقديم نفسه كما هو بلا تزويق أو رتوش.. يروي بثبات لحظات انتصاراته أو نكساراته.. الاوقات الحلوة في حياته وأوقاته المرة ساعات النصر وساعات المحنة.
وبعيداً عن سقطته السياسية تلك والتي جاءت نتاجا لفورة الشباب واندفاعه، كما قال بنفسه .. شهدت ذات الفترة إنتاج أعمال وقفت علامات مائزة في تاريخه الفني كنشيد (يا ثوار أفريقيا يا صناع المجد) من كلمات الشاعر الدبلوماسي (صلاح أحمد إبراهيم) والذي تحور بعد ثورة اكتوبر إلى (يا ثوار اكتوبر)، ونشيد (يقظة شعب) للشاعر النوبي (مرسى صالح سراج) ولا يختلف اثنان أن هذه الاغنية من أعظم الاغنيات التي تغنى بها فناننا العبقري على مر تاريخه الطويل. حيث عبرت كلماتها بصدق عن مكنونات أمة ومكونات شعب ضارب بجذوره في التاريخ المجيد.. وقد سكب فيها الموسيقار من عبقريته اللحنية وإيقاعاته الساحرة ما أحالها إلى مقطوعة فنية نادرة المثال.. وليت الورق كان ينطق إذن لما وجدنا عناء في بث هفهفة الكلمات وزفزاف الموسيقى عبر الورق، لكن ما بيد حيلة.. فالعلم لم يتوصل إلى ثمة اختراع بعد يحتال به على الحروف الأبجدية لتنطق على ورق الجرائد.
(6)
وكان وزير الاستعلامات والعمل اللواء (طلعت فريد) وهو أحد رجال نوفمبر يتابع عن كثب (بروفات) هذا العمل الرائع.. وذات مرة طلب من الشاعر بأن يحاول إدخال الفريق (أبراهيم عبود) في أحد مقاطع العمل لكن شاعرالاغنية رده بغير رفق قائلا: "ما بخشش لأنو ده تاريخ وإن شاء الله عبود بعد عمر طويل يجوا ويغنولوا ناس غيرنا" فسكت طلعت فريد على مضض رغم عدم اقتناعه بالحجة.
في تلك الفترة أيضا رفد وردي وجدان الأمة برائعته (الطير المهاجر) من كلمات (صلاح أحمد إبراهيم) والقصيدة عثر عليها وردي على صفحات مجلة (هنا أمدرمان) في 1961م والتقطها بعيني خبير وقام بتوقيع ألحانه عليها. ولعله وجد في مقاطعها المملوءة بالشوق والوجد صورة متكررة من عذابات أهله الحلفاويين الذي هجروا ديارهم في وادي حلفا إلى هجرة أخرى لم يألفوها ولم تألفهم وهي موجدة لا تزال موغلة في أعماقهم حتى اليوم. تماما كما رأى الشاعر (محمود درويش) يوما ما في حصار رام الله صورة متكررة لحصار بيروت من قبل، فعندما صعد درويش على المنصة ليلقي شعرا في بيروت في العام 2000م، وكان العدو يفرض حصاره القاسي على رام الله وقتئذ استأذن الجمهور قائلا "من هنا بدأ الحصار اسمحوا لي ان نستعيد معا بعض المقاطع من (مديح الظل العالي)". ولما سئل (عبدالخالق محجوب) سكرتير الحزب الشيوعي الراحل عن رأيه بالاغنية التي فشت بين الناس وقتئذ ، وكان بينه وبين شاعرها ما صنع الحداد ومواقف سار بذكرها الركبان أجاب دون أن يتلكأ: "هكذا ينبغي أن يكون الغناء". وفي ذات الفترة قدم وردي أيضا نشيد (اليوم نرفع راية استقلالنا) ل (عبدالواحد عبدالله)، وفي احتفال رأس السنة الماضية رفض (وردي) طلبا من الحاضرين بغناء هذا النشيد بالذات قائلا في سخرية لاذعة "هو وينو الاستقلال" .. لقد أدمى فؤاده انفصال الجنوب، وشبح التمزق الذي يحيط بالسودان حالياً.
(7)
ثم تفجرت ثورة اكتوبر كجبّار لا يرحم في 21 اكتوبر1964م ونقشت في ضمير تاريخ السودان الحديث كائنا فريدا قل مثاله . فلو سلمنا جدلا بأن انتفاضة ابريل التي أطاحت بحكم الرئيس (جعفر نميري) في 6 ابريل 1985م قد تخلقت في رحم اليأس بعد أن صك الشعب وجهه وقال "عجوز عقيم" والشاهد أن اكتوبر أتت كالفجر أو" زي شعاع الشمس من كل المداخل" جاءت في الزمن الصحيح وحيثما انتظرتها الجماهير الثائرة ولم تتأخر. ولعل الدماء التي صبغتها منحتها خلودا على خلود، وصيرتها اسطورة من أساطير الشعوب المقهورة في طريقها للخلاص من حكم الطواغيت وسعيها نحو الحرية والانعتاق.
وبرمزيتها تلك أجبرت ثورة اكتوبر كل المبدعين في كل المجالات على التفاعل معها وبها وإليها وتفجرت قريحة الشعراء كأجمل ما يكون وتدفقت الالحان وتموسقت الكلمات وتفجرت حناجر الفنانين ومن ورائهم الشعب بكل طوائفه وفئاته وأحزابه غنى لثورته الفتية ولم يكن وردي بدعا من أولئك النفر من ذوي الابداع فترنم بأناشيد وأغنيات شكلت فيما بعد علامات فارقة في مسيرة الاغنية السودانية مثل (اكتوبر الأخضر) للشاعر الدبلوماسي محمد المكي ابراهيم و(أصبح الصبح) و(لحظة من وسني) لمحمد مفتاح الفيتوري، وغيرها من الاعمال التي تخلدت بذاكرة الشعب. وثمة أمر لا مناص من الاعتراف به وهو أن أحد من المعنيين يبز وردي في الغناء لشعبه والالتزام بقضاياه والتعبير عنه وبأمانيه في كل سانحة وبكل وقت. وللجميع في رائعة محمد المكي ابراهيم (جيلي أنا) أسوة حسنة لكل حادب على وطنه، فقد غدت أنشودة على السنة كل الناس و(كولينغ) لكل الاحزاب والتنظيمات السياسية من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار ولا ننسى الوسط.
(8)
وكما أسلفنا فقد اكتوبر جاءت فتية. تماما في الزمن الصحيح فكان غناء أمجادها وشهدائها فتيا مثلها سيما وقد اصطبغت باللون "من دم القرشي وإخوانه"، آخذين في الاعتبار ما أتت تحمله من شعارات التطهير "لا زعامة للقدامى" و حقوق المرأة وحقوق الطبقة العاملة.. وغيرها من الشعارات التي اكتست بها ملامح الثورة.. ويقول وردي في مرحلة ما أحسست ان الثورة تتراجع فبدأت أغني أغنيات "إنني أؤمن بالشعب حبيبي وأبي" و"شعبك أقوى وأكبر مما كان العدو يتصور" وفي تلك الاجواء حلت بالساحة السياسية بالسودان كارثة حل الحزب الشيوعي، وطرد أعضائه من البرلمان في 1965م على خلفية عبارات مسيئة تفوه بها طالب شيوعي بندوة عامة بدار المعلمين في 1965م، ولم تقف الامور عند ذاك الحد بل أخذت منحنى وعراً بعد تحدي البرلمان قرار المحكمة العليا بإبطال قرار الحل.
ومن المؤكد أن المغني تأثر جدا بتلك الاجواء.. وكما يعلم القاصي والداني فقد كان وردي حينها تقدميا ملتزما بتعاليم اليسار، فضلا انه من المغنين الذين يملكون آراء واضحة وأحيانا صادمة فيما يغنون وينشدون. وهنا لابد من الاشارة لمقالته للشاعرالراحل (النور عثمان أبكر) عندما دعاه للالتفات لفنه دون الخوض في السياسة قائلا "إنت ما تغني ساكت مالك ومال السياسة" فرد عليه وردي قائلا "يا أستاذ النور يبقى راديو ساكت ولا شنو".
الشاهد أن المجموعة الفكرية التي انتسب اليها وردي وإن شئت فقل (الحاضنة) التي تشكلت فيها موهبته أسهمت بشكل واضح لا تخطئه العين في رسم الطريق أمام ناظريه وفي تفتيح وعيه وتشكيل وجدانه اهتماما بالجانب القيمي للفن، وان الاغنية ليست ملهاة أو طرب والسلام، بل تعبير عن أحلام الناس وقبلها آلامهم وكان نتاج هذه المرحلة التي يطلق عليها مرحلة "الشعراء الفلاسفة" ان شكلت قنطرة أو جسر عبور لمحمد وردي من مجرد مغني عادي إلى فنان عبقري واعي بقضايا أمته وشعبه، ومن أبرز شعراء هذه المرحلة (عمرالطيب الدوش) و (علي عبد القيوم) صاحب نشيد "نحن رفاق الشهداء" وفي تلك الآونة أيضا اتجه (وردي) لخوض تجربة الغناء بالفصيح كما في (الحبيب العائد) ل (صديق مدثر) و (مرحبا يا شوق).
وغني عن القول إن هذه المرحلة أعقبت مفارقة وردي لصفيه ورفيق دربه الشاعر إسماعيل حسن الذي شكل معه ثنائيا من أروع الثنائيات الفنية بتاريخ الاغنية السودانية، حيث توقف وردي عن ترديد أغنيات "ود حد الزين" طوال تسع سنوات امتدت من 1965حتى 1974م ولم يكسر الصمت بين الاثنين إلا رائعة (سماعين)، (وا أسفاي) التي دار حولها جدل كثيف في أن (وردي) اختصها لنفسه من (صلاح بن البادية) التي هفا قلبه لغنائه بعد أن رأى فيها كما قيل تجسيدا حقيقيا لمسارات حياته التي تقلبت من جهة لأخرى خاصة في المقطع الذي يقول "إرادة المولى رادتني وبقيت غناي، مع المكتوب أسوي شنو براهو الواهب العطاي".
وأثمرت فترة "الشعراء الفلاسفة" عن أغنيات فائقة الجمال خاصة بعد أن سكب عليها وردي من عبقريته اللحنية إيقاعات أسطورية جاوزت حد الادهاش ولقد أدهش وردي بالفعل متولي عيد مدير الاذاعة السودانية عندما أسمعه أغنية (الود) التي قام بتوزيعها الموسيقار الارمني الشهير (اندريا رايدر) حيث قام وردي بستجيلها بقاهرة المعز بصحبة اوركسترا مصرية بمصاحبة عازف الكمان الشهير (محمدية) فقط من السودان واكتسبت (الود) شهرة واسعة خاصة بمقدمتها الموسيقية الطويلة التي لم تكن مألوفة آنذاك في الغناء السوداني.
(9)
ويسرد وردي حكايته الغريبة مع رايدر في إحدى مقابلاته الصحفية قائلا: "كان البواب غليظاً غطى شارباه نصف وجهه الأسفل، صاح بلكنة صعيدية (مين)، رد عليه الشاب النحيل: محمد عثمان وردي، قبل أن يتمعن في الاسم سأل مجددا: عايز مين؟، فأجابه: عايز أقابل الموسيقار أندريه، أمره الحارس بالانتظار غاب دقيقتين ثم عاد وبدون تردد حسم الأمر بقوله: ما عندناش مواعيد دلوقت يا بيه ما نستغناش. لكن يبدو أن الشاب الأسمر كان مصمماً: أنا لازم أقابلو، أنا جاي من السودان عشان أقابلو.
بعد تردد عاد الحارس مرة أخرى إلى داخل الفيلا، ثم ابتسم في وجه الشاب: أتفضل يا بيه بس ما تطولش أصلو البيه معاه ضيوف من الكبارات.
لم أتمكن من الدخول مع الشاب الأسمر النحيل ، كان الحارس متمترساً كالثور البلدي والريح تصهل بين طرفي شاربه الكث ، لكن الشاب يروي القصة كاملة : كانت الصالة واسعة .. فخمة المحتويات .. الستائر على النوافذ بألوان متناسقة مع الأثاث .. كان هناك عدد من الضيوف في سهرة الموسيقار الزائر .. رن صمتٌ مطبِقٌ عندما دخلتُ الصالة .. أذكر أن بصري وقع أول ما وقع على الفنان الكبير فريد الأطرش وبجانبه عوده المزخرف على نحو أنيق ورائع .. ومجموعة من الفتيات والفنانات المصريات والعربيات .. سألني أندريه مبتسما ابتسامة الفنان الذي يتوقع بحدسه الذكي ميلاد مفاجأة ما من أنت؟أجبته بثبات: (محمد وردي .. مطرب من السودان) .. رحب بي وأجلسني إلى جواره .. أضفتُ بدون تردُّدٍ (لديَّ عمل فني قمت بتلحينه في السودان وأرغب في عرضه عليك لتوزيعه إذا راقك) ، ارتسمت على شفتيه ابتسامة واسعة شجعتني .. طلب أن يسمع شيئا من ذلك اللحن .. لم يكن معي عود .. فبادر أندريه بطلب عود الفنان فريد الأطرش الذي كان ينظر لي نظرة نجم القاهرة للغريب المقتحم .. استجمعت في تلك اللحظات كل شجاعتي لتأكيد استحقاق أغنية الود للمشقة التي تكبدتها من أجلِها منذ سفري من الخرطوم وحتى وصولي إلى القاهرة وانتهاء باقتحامي هذه السهرة المترفة .. غنَّيت بصوت عالِ أذهل الحضور وتمدد مستفيدا من الصمت الذي فرضه على المكان .. وكانت المفاجأة أن أندريه أمسكني من يدي وطلب مني الانتقالَ معه إلى غرفة داخلية ..كان بها البيانو الكبير الذي يستخدمه شخصياً .. ومنذ تلك اللحظة كان ميلاد أغنية الود التي لم أشأ أداءَها مرةً أخرى حتى لا يتشوَّه توزيع أندريه الرائع لها). وأضاف وردي (أصريتُ على أن يتمَّ عزفُ مقدمة المقطع الثالث من الأغنية بآلة الطمبور.. وكانت تلك مغامرةً تجريبيةً أثبتت إمكانيةَ هذه الآلة العريقةِ على مزاملةِ بقية الآلات الموسيقية الثابتة .. بل وأثبتت تألقها.. وذلك ما جعل ذلك المقطع من الأغنية ساطعَ الحضور في سماء القالب اللحني العام للأغنية". ولأن اللحن بلغ حد الكمال الموسيقي آثر الموسيقار الراحل الا يشدو به مرة أخرى وأضحى لا يعيد غناءها ثانية وظلت هكذا بتوزيع العبقري (رايدر) وإلى الأبد.
(10)
ثم تفجرت ثورة مايو 1969م بقيادة العقيد جعفر نميري حمراء قانية اللون، ويسارية الهوى حتى ان البعض أطلق على السودان وقتها لقب "كوبا أفريقيا"، ولم يمض وقت وجيز حتى أهدى الموسيقار الراحل الانقلاب الوليد نشيد (في حكاياتنا مايو) ومن مقاطعه التي لا تنسى (أنت يا مايو بطاقتنا التي ضاعت سنينا.. أنت يا مايو ستبقى بين أيدينا وفينا.. لم تكن حلما ولكن كنت للشعب انتظارا).. وسرعان ما اتبعها بنشيد آخر (يا حارسنا وفارسنا) الذي ظل يبث حتى الايام الاخيرة لنظام مايو، وقد اعتذر (وردي) و(محجوب) عن تلك الاناشيد ، ويحكي الشاعر (محجوب شريف) عن تلك الايام في مقابلة مع (محمود المسلمي) في برنامج (همزة وصل) على إذاعة (لندن) بث في تسعينيات القرن الماضي عند سؤاله عن القصيدة التي قدمته للناس فأجاب بطريقة مباشرة ودون مواربة "أقول لك بكل آسف لأغنية "يا حارسنا ويا فارسنا" ويفسر محجوب شريف مبعث أسفه وحسرته تلك انهم استقبلوا ذلك الانقلاب (في إشارة لمايو)، بصدق فني لكن دون وعي سياسي أو اجتماعي وهذا ما أوقعهم في فخ الغناء له وتمجيد قادته. ويبدو أن النشيد كان عرضا من (أمراض الطفولة اليسارية) على حد تعبير لينين الشهير. ومن المهم جدا الاشارة إلى أن الموسيقار الراحل وشاعر الشعب أصبح فنهما من لدن تلك الواقعة (قوسا بيد الشعب) فقد تبرآ معا من الغناء لغيره أو تمجيد أحد سواه.. نعم هو الشعب ولا أحد سواه كما يقول (صلاح أحمد إبراهيم) عنه أي (الشعب) في مساجلاته الذائعة الصيت مع (عمر مصطفى المكي)،" وهبته ألذ سويعات العمر، وأحلى سني نضارتي ورونقي.. ووهبته وقتي وراحتي وأماني ومستقبلي وقلمي وألمي ودراهمي المحدودة، لأن الكتابة لا يمكن ان تكون فيما عدا خلسات محفوظة.. متعة جمالية بحتةأ بل استمرار مؤلم ومستوحش للنضال". واذا كانت الكتابة التزاما مؤلما ومستوحشا فضروب الفن الاخرى وبينها الموسيقى والغناء لا تقل عنها خطرا.. وفي درب الالتزام تجرع وردي المر وذاق الحنظل، لكنه لم يلن أو تنثني له قناة.
لم تمض سنتان حتى قاد (هاشم العطا) ثورة تصحيحية ضد ثورة مايو، ورمزها (جعفر نميري) في 19 يوليو 1971م غير أن الحركة لم تصمد سوى ثلاثة أيام، ثم عاد نميري اكثر وحشية ودموية ورغبة في الانتقام فقتل من قتل وشرد من شرد وسجن من سجن.. وكان من بين الذين طالهم السجن محمد وردي الذي نزل بساحة سجن "كوبر" العتيد. وفي السجن أكثر وردي من المطالبة بأن يعطى (عوده) وفي إحدى المرات رد عليه مدير جهاز الامن وقتها (عبد الوهاب) قائلا "يا محمد وردي نحن ما قبضناك عشان راكب دبابة قبضناك عشان عودك ده وما حنديك ليهو".
ويروي صاحب (الوطن) الراحل (سيد أحمد خليفة) بعضاً من ذكرياته والموسيقار الراحل في أول احتفال بذكرى اكتوبر داخل المعتقل بسجن كوبر "يوم الحفل العظيم داخل فناء السرايا بسجن كوبر ومن على مسرحها أنشد الفنان محمد وردي أجمل وأعظم أناشيده الاكتوبرية الجبارة، ومعها أنشد الجديد الذي بشَّر بالحرية ونهاية الظلم قائلاً (اكتوبر .. دناميتنا دناميتنا.. ساعة الصفر.. ركيزة بيتنا) والنشيد من كلمات (محجوب شريف) الذي كان معتقلا معهم في نفس المكان.. ويضيف صاحب (الوطن)" وخلف وردي وهو على المسرح وحوله الكورال والشيالين والعازفين والمبدعين كانت الهتافات والتحديات تزلزل أركان السجن العتيد الذي أعلنت إدارته حالة الطوارئ . وأصاب الهلع والفزع من كانوا في بيوتهم أو في مجالسهم بعيداً عن السجن من سدنة النظام وقادة المقاصل وقتلة الرجال.. وقد أدى ذلك المشهد الفريد بجانب الاستنفار العسكري داخل وحول سجن كوبر إلى تجمع الآلاف من المواطنين حول السجن عندما حملت الرياح الجنوبية والشمالية نحو (800) منشداً كانوا معتقلين يرددون خلف الفنان (محمد وردي) و (محمد الأمين) و(جمعة جابر) و (إدريس إبراهيم)، الأناشيد الثورية والحماسية بأصوات ما كان يمكن أن تبلغ المدى السمعي لو جهزت لها أعتى وأكبر مكبرات الصوت".
وأتاحت له فترة السجن فرصة التقاط أغنية ستكون لاحقا أحد أجمل أغنياته على الإطلاق (أرحل) وكلمات الاغنية وصلت إلى وردي بطريقة غريبة حيث وصلت اليه بطريق الصدفة عندما لفت له عقيلته بعض أغراضه بصفحة من جريدة (الصحافة) كانت القصيدة منشورة بها. و(أرحل) مثله سابقتها (من غير ميعاد) التي التقطها الموسيقار الراحل من صحيفة (السودان الجديد) بعد أن قام بنشرها الشاعر (محمد يوسف موسى) على صفحة فنية أسبوعية كان يقوم بالاشراف عليها. وتغنى بها وردي للمرة الاولى في برنامج (تحت الأضواء) من تقديم الهرم الإعلامي (حمدي بولاد) قبل وقت قليل من انقلاب مايو 1969م وشاعرها (التيجاني سعيد) لم يكن قد بارح الثامنة عشرة من سني عمره بعد.
وفي ليل السجن الطويل واللا نهائي تصبح القراءة إحدى وسائل تزجية الوقت وقد التقطت عيناه قصيدة بعنوان (قبض الريح) للشاعر (التيجاني سعيد) ففكر في تلحينها لكن واجهته مشكلة في الكورس وتوزيع الايقاعات فتولى السجناء والمعتقلون تلك المهمة،، وأيضا جرى تغيير اسم الاغنية إلى الاسم الذي ذاعت به بناء على ملاحظة الرشيد نايل وهو القاضي الشرعي الوحيد الذي انتسب إلى الحزب الشيوعي آنذاك بأن (قبض الريح) تكريس واضح لمناخ اليأس والإحباط خاصة وأن جميع الرفاق إما قتيل أو حبيس أو مطارد وعليه جرى تعديل اسمها لتصبح (أرحل).
والاغنية فاجأ بها محمد وردي جهموره في حفل غنائي بكازينو النيل الازرق في 1973م .. ولعلها اكتبست بعداً سياسياً من هذا حيث شدا بها الموسيقار الراحل بعد وقت قليل من الافراج عنه رغم ان شاعرها ذكر في أكثر من مناسبة أن الاغنية لا تحمل ثمة مضامين سياسية وأنها أغنية عاطفية بحتة .. وبعد سنوات انبرى الموسيقار (يوسف الموصلي) لإعادة توزيعها مع أخريات من أعمال وردي إبان فترته بالقاهرة في النصف الاول من تسعينيات القرن الماضي. لكن الموسيقار الراحل لم يظهر رضا بشأنها بل عمد لانتقاد الطريقة التي اتبعها الموصلي في توزيع الاغنية ورأى ان الطريقة تجافي ما تعودته الإذن السودانية.
(11)
وبعد انتفاضة أبريل 1985م التي أطاحت بالرئيس (جعفر نميري) غنى وردي للشعب كما لم يغن أحد. وتلك الفترة بالذات كرست لزعامة وردي الفنية وصيرته فناناً للشعب ومعبراً عن صوته بلا مراء ودون منافس حتى يومنا هذا. لدرجة ان البعض أطلق عليه "فنان أفريقيا الأول" لشعبيته الخرافية غير المسبوقة في دول القارة السمراء خاصة منطقة القرن الافريقي ودول شرق ووسط والغرب الافريقي. وبعد وقوع انقلاب الانقاذ في (30) يونيو 1989م اتخذ الموسيقار الراحل قرارا بالخروج من السودان بعدما فشل في التعايش مع الإسلاميين الذين بدأوا في التضييق على الناس وشهدت تلك الفترة أغنيات قوية لوردي في مواجهة قادة الحكم الجديد أشهرها نشيد (سلم مفاتيح البلد) ل (محمد المكي إبراهيم) والتي بلغت شأوا أن صارت شعار تعبيريا عن مرحلة بكاملها وكثيرا ما صدح بها رئيس التجمع الوطني الديمقراطي (محمد عثمان الميرغني) في وجه الاسلاميين .. "سلم تسلم"، وأيضا غنى وردي نشيد (من طواقي الجبهة لي دقن الترابي) من كلمات (المكاشفي محمد بخيت).


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.