يكاد يكون مسلسل «الفاروق عمر» الأكثر إثارة للجدل بين المسلسلات التي عرضت في السنوات الاخيرة، خاصة حول قضية «تجسيد الصحابة» التي تحسب كسابقة تاريخية للمسلسل الذي سيكون فاتحة لأعمال قادمة ستسير على المنوال نفسه، خاصة بعدما كسر المسلسل المحظور وفتح الابواب المغلقة لمشاهدة شخصيات الاسلام المقدسة على الشاشة. فبمجرد الاعلان عن المشروع قبل أكثر من سنتين أثار العمل ردود فعل متباينة لاتزال حتى اليوم بين مؤيد ومعارض وسط قلق من المستوى الذي يظهر به المسلسل وانعكاسه على ما سيليه من أعمال تجسد تلك الحقبة. الالتزام التام ومع مرور أكثر من نصف الحلقات استطاع العمل التوفيق بين الالتزام التام بأحداث السيرة وذلك لصعوبة الإسقاط والتصرف في موضوع دقيق كهذا مع سيناريو أبدع فيه المؤلف د.وليد سيف بحوارات كانت بمنزلة الحِكَم والكلام القيِّم عن العدل والحرية والمساواة والايمان والكرامة ونبذ العبودية بطريقة متميزة. ورغم أن أحداث العمل لم تأت بجديد فهي معروفة ومحفوظة سلفا، إلا أن الحوارات الأخاذة والمثقلة بكم وافر من الجمال والعمق أتت لتكون محفزا رئيسيا للمتابعة مقابل أعمال تاريخية أخرى كانت تحفل بالحوارات السطحية. الإخراج المتميز السيناريو المحكم قابله إخراج تميز فيه المخرج المتألق حاتم علي الذي ما اجتمع يوما مع الكاتب د.وليد السيف إلا وكان ثالثهما عمل يخلد في ذاكرة الدراما العربية مثل «صقر قريش» و«ملوك الطوائف» و«التغريبة الفلسطينية» وإن كان المسلسل الحالي لم يصل لمرتبتهم لمحاذير عديدة أبرزها الالتزام التام بأحداث السيرة النبوية. الإنتاج الضخم المعارك لم تقل شأنا عن جمالية الحوارات، حيث نجح المخرج في إدارة هذا الانتاج الضخم وغير المسبوق في تاريخ الدراما العربية حيث لم نلحظ فرقا بينه وبين كبريات الاعمال الهوليوودية لجهة الاتقان وإدارة الحركات، بالاضافة لمواقع التصوير التي نقلتنا الى أجواء مكةالمكرمةوالمدينةالمنورة بحذافيرها من طرقات وأسواق ومساكن، وإن كانت هناك ملاحظة عابرة حول البيئة الدرامية والديكورات في المدينةالمنورة التي أظهرت ثراء وغنى أكثر مما شاهدناه في مكة التي عرف عنها أن أهلها كانوا الأكثر ثراء وغنى. بناء الشخصيات عملية بناء الشخصيات أتت غامضة بعض الشيء، حيث لم يتم التعريف بالشخصيات ودورها في سياق المسلسل، بل إنه في أحيان أخرى وجدنا أحداثا أساسية في تاريخ السيرة النبوية لم يذكر اسمها إطلاقا كاسم الشخص الذي مزق الوثيقة من داخل الكعبة والتي أقرتها قريش بخصوص محاصرة بني هاشم والتضييق عليهم بعد حمايتهم للرسول الأكرم، وبذلك لم نعرف من الذي قام بهذا الحدث المهم في السيرة. عائق الدوبلاج وبرزت عملية الدبلجة كعائق آخر حد من عملية تفاعل الممثل نفسه ووضع حاجزا بين الشخصية وصوتها لدى المشاهدين ولعلها تكون سابقة أن يعمد الى إخفاء صوت ممثل واستبداله بآخر لضرورات ليست منطقية. إذ ورغم جمالية صوت الممثل الأردني القدير أسعد خليفة، إلا أن دبلجة صوته على أداء الممثل سامر اسماعيل جعلت شخصية عمر الفنية تظهر بطريقة واحدة فلا تتغير طبقة الصوت بتغير الموقف وتطوره، ما سبب انفصاما بين الصوت والصورة عكس باقي الممثلين الذين كان أداؤهم متوائما بين لغة الجسد والصوت. العناية بالتفاصيل كانت مؤشرا آخر على النجاح، حيث لم يغب أي أمر مهما صغر أو كبر عن المشهد العام، فلم نشهد أخطاء فادحة سبق وشاهدناها في أعمال تاريخية. السيرة النبوية إلا أنه في المقابل برزت بعض الأمور اللامنطقية منها أن المسلسل الذي حمل اسم شخصية الخليفة «عمر» رضي الله عنه وصاحب السيرة الحافلة بالانجازات الاسلامية الكبيرة الذي قلب المعادلات وجعل الكفة مائلة الى الدين الجديد، لا نزال وحتى الحلقة ال 16 منه أي أكثر من نصف الحلقات، دون دخوله مركزية الفعل الدرامي المتمحورة حوله، إذ لم يتم تسليط الضوء على فترة خلافة الفاروق حتى تلك الحلقات، وكل ما رأيناه حتى اليوم يتطرق أكثر للسيرة النبوية الشريفة باستثناء الحلقتين الأوليين من العمل اللتين تطرقتا لنشأة عمر بن الخطاب رضي الله عنه. ورغم تقديم صورة إخراجية جديدة، إلا أن هنالك بعض المشاهد اتت بصورة مطابقة لما شاهدناه وحفظناه من فيلم «الرسالة» للمخرج الراحل مصطفى العقاد كحوارات تعذيب المؤمنين في مكة وخاصة «بلال بن رباح» و«آل ياسر» ولعل الالتزام الشديد بالمضمون والتهيب والخوف من التجاوز في حدود الرواية التاريخية كان العائق أمام تقديم صورة مختلفة. أبوجهل وقمة الأداء أما من ناحية الأداء التمثيلي لبقية الفنانين، فقد كان الممثل «جواد الشكرجي» الذي أدى شخصية «أبوجهل» قمة في الأداء والتألق، ويستحق أن يكون نجم العمل بامتياز، حيث أعطى الشخصية الغنية دراميا أبعادا إضافية، وكذلك الأمر مع الممثلة مي سكاف التي أدت دور هند وتميز أيضا بدرجة كبيرة الممثل القدير محمد الجندي بدور عتبة بن ربيعة، والممثل غازي حسين بدور أمية بن خلف وأجاد الممثل فيصل العميري وباتقان ليس بغريب عنه في تأديته لشخصية «بلال». وفي الكفة الاخرى لم يظهر الممثل القدير غسان مسعود بدور الخليفة أبي بكر الصديق رضي الله عنه كما كان متوقعا ولعل الأمر كان بسبب البناء الدرامي الموجز والقصير لدوره، وكذلك شخصية الإمام علي بن أبي طالب التي أداها الممثل التونسي غانم الزرلي، وذلك رغم التشابه الكبير بينه وبين الاعتقاد الشيعي بصورته، أما المفاجأة السلبية فكانت للممثل المغربي القدير محمد مفتاح الذي لم يوفق في تجسيد شخصية حمزة بن عبدالمطلب لناحية الأداء التمثيلي والبدني أيضا. يبقى أن المسلسل (الفاروق) يشكل الخطوة الاولى نحو دراما عربية بإمكانات عالمية تجاوزت مسألة التحريم وأزالت جدار ورهبة تجسيد الشخصيات، وفتحت الطريق للدراما العربية نحو العالمية، خاصة مع الإعلان عن دبلجته من قبل محطات عالمية عديدة وبلغات متنوعة.