يكاد يكون من الصعب، الحديث عن التنمية الشاملة في آفاقها الحالية والمستقبلية، أو حتى في مفهومها الاقتصادي البحت، دون الحديث عن وجود بيئة سياسية مواتية ومدعمة لهذا التطور النوعي في حياة المجتمعات. إذ تؤمن تلك البيئة ليس الحد من وتقليل المخاطر الأمنية والسياسية التي يتعرض لها الاستثمار المباشر وزيادته تكلفته لأدنى درجاتها فحسب، وإنما أيضاً التوزيع العادل والرشيد لمخرجات التنمية. بحيث يستفيد منها أكبر عدد ممكن من مكونات هذه المجتمعات، وتترك تداعياتها المباشرة وغير المباشرة على جميع مناحي الحياة داخل وخارج تلك المجتمعات، بسبب الظاهرة الانتشارية المتزايدة لظواهر الصراع وعدم الاستقرار السياسي في عصرنا الحديث. وهي الظاهرة التي رصدها تقرير “تكلفة الصراع بالشرق الأوسط" والذي أصدرته مجموعة Strategic for sight الهندية قبل شهور، وقدر تكلفة الصراع بمنطقة الشرق الأوسط على الاقتصاد العالمي بأكثر مما هو ظاهر أو متعارف عليه من قبل. إذ يتحمل هذا الصراع ما بين 30 و50 % من تكلفة مواجهة الحرب ضد الإرهاب وارتفاع أسعار النفط. صحيح أن بعض التجارب التنموية الحديثة وتحديداً في جنوب شرق آسيا، لم تشهد هذا الربط الموضوعي المباشر بين ما هو سياسي وما هو اقتصادي في مسارها التنموي، حيث نشأت وتطورت عمليات التنمية الاقتصادية في ظل أنظمة سياسية ديكتاتورية واستبدادية، إلا أن هذا الانفصام لم يدم طويلاً. إذ لم تكد تمر سنوات العقد الأول والثاني من بدء تلك التنمية، حتى شاعت مقومات التنمية الشاملة التي انتقلت إلى الفضاء السياسي ومثيله الاجتماعي الثقافي، بحيث شهدت تلك البلدان نقلات تنموية كبيرة في المجال الديمقراطي، لتعويض فاقد الزمن وبلورة مسار تنموي سياسي مواز لمثيله الاقتصادي وقادر على الحفاظ عليه وتأمين ديمومته. والحكم الواعي بما فيه من قدرة على تطبيق القانون، والتعبير عن التعددية العرقية والثقافية الكائنة بالمجتمع، والدمج المتواصل لمكوناته في أطر سياسية، ليس هو المحدد الوحيد للتعبير عن وجود تنمية سياسية من عدمها، وإنما هناك العديد من المحددات الأخرى التي يأتي في مقدمتها شيوع مقومات الاستقرار السياسي الأمني داخل المجتمع. فمثل هذا الاستقرار يمثل أحد أهم مقومات الارتكاز التي تنهض عليها عملية التنمية المستدامة، والتي تعبر عن نفسها من الحد قدر الإمكان من مخاطر الاستثمار وعمليات التوظيف المالي داخل المجتمع. إزاء التحديات التي تفرضها ظاهرة العولمة، بات من الصعب، إن لم يكن من المستحيل الحديث عن جانب تنموي بمعزل أو دون آخر، وإنما هناك مسارات تنموية متساوية ومتزامنة في صيرورتها، بحيث بات كل منها يغذي ويدعم الأخرى، ويكون رصيدا إيجابيا له. ومن ثم فإن التعويل سواء على الموروث التاريخي الأوروبي الغربي، أو الخبرة الآسيوية القريبة، من حيث أولوية المسار التنموي الاقتصادي على مثيله السياسي، بات غير مجد أو ذي قيمة في الوقت الحاضر، الذي أثبت بما لا يدع مجالاً من الشك، أن انتفاء أو تراجع المسار السياسي في عملية التنمية، يمكن أن يكون عاملا معوقا أو كابحا لاستمرارية فرص التنمية الاقتصادية والاجتماعية. وهي الفرضية التي وصلت لحد القناعة الراسخة بانعدام فرص التنمية الشاملة والحقيقية دون مرجعية سياسية مساندة ومعززة لها. وتعاني المنطقة العربية من اختلالات هيكلية في معادلة التنمية المستدامة، سواء داخل كل مسار حاكم لها وتحديداً الاقتصادي والسياسي، أو بين تلك المسارات بعضها البعض. وزاد من حدتها شيوع مقولة أنه يمكن إطلاق عملية تنمية شاملة، وتحديداً في المجال الاقتصادي الاجتماعي بمعزل عن المجال السياسي. ولذا كانت النتيجة كما نراها الآن استمرار تبعية المنطقة كدول ومجتمعات للخارج في جميع المجالات بدون استثناء، حتى في المجال الاقتصادي الذي استهدف بالحشد والتعبئة من قبل. وإذا ما قورنت الأوضاع الاجتماعية والسياسية في تلك المجتمعات حتى بموروثها التاريخي القريب، فإن هناك تراجعا حقيقيا في مفهوم التنمية الشاملة، بحيث باتت المنطقة العربية مستهلكة لنواتج الحضارية الإنسانية، وغير قادرة على المساهمة الإيجابية في تلك النواتج، بل حتى الاكتفاء الذاتي. ولذا باتت مقومات التنمية السياسية شرطاً إلزامياً أو كما يقول الفقه الديني شرط وجوب، وليس شرط كفاية لشيوع التنمية الشاملة والمستدامة داخل المجتمعات العربية. غير أن أي نظرة متعمقة للواقع العربي تظهر غياب مقومات تلك التنمية السياسية بدرجة أو أخرى، والتي يضاعف منها افتقاد المنطقة للدولة القائد أو النموذج التي يمكن أن تجذب وراءها بقية الدول الأخرى نحو تلك التنمية السياسية. إلا أنه من الصعب وضع الدول العربية في سلة واحدة من حيث افتقاد شيوع مقومات تلك التنمية. إذ يمكن إدراج دول مثل العراق، السودان، واليمن، في أدنى درجات مؤشر التنمية السياسية، حيث الغياب شبه التام لمقوماتها، وما يتركه هذا الغياب من تأثيرات سلبية بالمجالين الاقتصادي والاجتماعي، فإن بقية الدول العربية تُدرج في حيز وسط داخل مؤشر تلك التنمية، أما الصومال فهي باتت دولة خارج نطاق التصنيف العلمي الدقيق، حيث هناك غياب تام لمفهوم الدولة والمجتمع بشقيها التقليدي أو حتى القريب من الحداثة السياسية. فالمجموعة الأولى من الدول العربية التي توصف بكونها دولا فاشلة Failure States سياسياً، لكونها غير قادرة على الوفاء بمتطلبات ووظائف الإدارة السياسية بكفاءة معقولة. إذ بالرغم من وفرات الموارد الطبيعية بتلك البلدان، وتحديداً العراق والسودان، إلا أنها بسبب افتقاد سمات الحكم الواعي، وشيوع عدم الاستقرار السياسي والأمني بسبب حدة الصراعات الممتدة اجتماعياً، باتت غير قادرة على التوظيف الاقتصادي لتلك الموارد، ودفع عجلة التنمية الاقتصادية قدماً، لكون المحددات السياسية باتت عائقاً كبيراً أمام التطوير الاقتصادي، فهل يعقل أن العراق الذي يعوم على ثروة نفطية هائلة يعاني من أزمات طاقة وكهرباء وتوفير أدنى متطلبات الحياة الاجتماعية لشعبه، وهل يعقل أيضاً أن السودان الذي يمتلك ثروة طبيعية وزراعية هائلة غير قادر على الاكتفاء الذاتي غذائياً..!! أما اليمن فهي أقرب لمجتمع ما قبل الحداثة بقيمه ومعتقداته. أما بقية البلدان فهي تراوح مكانها في وسط مؤشر التنمية السياسية، لا لسبب سوى افتقاد القدرة على إحداث نقلة نوعية في ممارسة العملية السياسية، تحقق لها الكفاءة والرشادة، التي تعود على بقية المسارات التنموية بالنفع العام. إذ أن جميع مظاهر الحداثة السياسية في تلك البلدان هي شكلية أكثر من كونها جوهرية أو مكوان أصلا في سلوك نخبها. فهناك شيوع للحريات العامة، وآليات التعبير عن الرأي والانتخابات الدورية، وممارسة التعددية الثقافية والسياسية، غير أنها ممارسات في التعبير النهائي مقيدة سياسياً، لكونها تفتقد لأهم مبدأي لشيوع مقومات التنمية السياسية: تداول السلطة؛ والمحاسبة السياسية، بما تحتويه من شفافية وحكم رشيد. فمصر والأردن اللتان أنهكتهما الصراعات الداخلية والخارجية، والتي كان سببها المباشر إسرائيل، حيث كانت المواجهة العسكرية معها سبباً في وأد تطوير سياسي حقيقي، والتبرير العلني لغياب التنمية الاقتصادية، لم تستطيعا إحداث نقلة نوعية في مجال التنمية الشاملة بعد التسوية مع إسرائيل، بل الأكثر من ذلك أنهما لم يستفيدا الاستفادة المثلى من كم ونوعية التدفق المالي عليهما بعد التسوية، كما حدث مع بلدان آسيوية، شهدت تدفقا أقل، ولكنها حققت طفرة تنموية شاملة. فيما تعاني دول المواجهة الأخرى سوريا ولبنان، من تأثيرات هذا الصراع عليهما بدرجات متفاوتة، وتحديداً الأخيرة التي مازالت ساحة للتنافس الإقليمي والعالمي، وحسم الخيارات الاستراتيجية في التعاطي مع إسرائيل. أما منطقة الشمال الإفريقي، فإنها جسدت معاً نماذج كاشفة ليس لأثر غياب المحدد السياسي على تطور منظومة التنمية الشاملة فحسب، وإنما أيضاً تداعيات غياب التكتل الإقليمي على تلك التنمية. ومثل هذا الغياب كان نتيجة مباشرة للخلافات السياسية بين دولها، والتي في جزء منها بسبب صراعات داخلية، مما أعاق إطلاق عملية تنموية حقيقية سواء على المستويين الداخلي أو المشترك. تشاركها نفس الوضعية منطقة الخليج مع درجات أقل من الحرمان المادي، نتيجة الإشباع الذي تحققه العوائد النفطية الهائلة، ومستويات أقل من الصراع باستثناء مع البيئة الإقليمية المجاورة. ولذا كان لافتقاد هذا التوافق السياسي العام سواء داخل الدولة الواحدة، أو بين الدول العربية رغم الحيز المشترك الكبير بينهم، أن زاد معدل الشعور بالحرمان النسبي من دولة لأخرى. والذي وجد الكثير من تعبيراته في المجالات الاقتصادية والاجتماعية بل حتى النفسية. مما أفقد شرائح لا يستهان بها قيمة الهوية المشتركة سواء القطرية أو الجماعية. وزاد من حدة هذا الشعور، التوظيف السياسي لمشاهد الصراع التي تعم المنطقة بدرجاته المتعددة، لتبرير غياب التنمية الشاملة، وتحميل البعض من القوى الوطنية المسؤولية الكاملة عن غياب التنمية الاقتصادية، أو التطور الاجتماعي السياسي لمجتمعاتها. صحيح أن مشاهد الصراع، أنهكت المنطقة العربية واستنزفت مقدراتها بشكل غير مسبوق من قبل، حيث بلغت تكلفة الصراع بمنطقة الشرق الأوسط حسب التقرير الهندي بما يعادل 12 تريلون دولار خلال الفترة من 1991 2010. بل وصف التقرير منطقة الشرق الأوسط بكونها أكثر مناطق العالم تسليحاً وفقاً لجميع المؤشرات، التي يأتي في مقدمتها معدلات الإنفاق العسكري من إجمالي الناتج المحلي، والخسائر في أرواح المدنيين وعدد الشباب من الرجال المرتبطين بالقطاع الأمني في شكل أفراد أساسيين أو أفراد احتياط أو قوات شبه عسكرية. و لم يمكن من الغريب، أن تُعد منطقة الشرق الأوسط الأعلى في الإنفاق العسكري قياساً للناتج المحلي، حيث قامت بتخصيص ما يعادل 6% من إجمالي الناتج المحلي لهذا الغرض. كما شهدت السنوات العشر الماضية زيادة كبيرة في معدلات الإنفاق العسكري قدرها SPIRI “الكتاب السنوي لمعهد استكهولم لأبحاث السلام لعام 2009م" من 48.6 مليار دولار عام 1999، إلى 75.6 مليار دولار عام 2008. فيما يصف التقرير الهندي الصراعات التي حدثت بالمنطقة منذ عام 1948، بكونها صراعات سياسية، ذات أبعاد اجتماعية ودينية قوية، وأنها أدت إلى أضرار كبيرة بالبيئة، ويمكن أن تؤدي لنتائج مستقبلية أسوأ تتمثل في نقص الموارد والمياه. وأن فترات السلام بالمنطقة أظهرت أنه كان يمكن أن تحقق مستويات أعلى للنمو تصل إلى 6 % في حالة الاحتفاظ بالسلام والاستقرار، لكون أرباح السلام والتوصل إلى تسويات بمنطقة الشرق الأوسط تبلغ نحو 52 مليار دولار. غير أن السلام المطلوب بهذه المنطقة ليس مجرد وقف عجلة العنف والصراع، وإنما هو الدخول في عصر السلام الحقيقي والمستقر، الذي يحقق تناغماً في البني والمؤسسات سياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا، ليؤتي ذلك آثاره على النمو الاقتصادي، وخدمات الصحة والتعليم، والروابط الاجتماعية، والتعاملات مع العالم. أن المجتمعات العربية تحتفظ بقدر عال من التنوع الثقافي والتعددية، على المستويين الوطني والإقليمي، أخفق المحدد السياسي سواء بشكله المباشر قيادة توجه تنموي يكون بمثابة القاطرة التي تجذب غيرها من محددات اقتصادية واجتماعية وثقافية، أو غير المباشر السماح بالمقومات الاقتصادية في الشيوع والانتشار من دون كبح أو إعاقة سياسية، في التعامل الخلاق مع تلك السمات أو المعطي الاجتماعي. وقد كان من شأن هذا الإخفاق أن استمرت عملية التعبير عن تلك التعددية في شكل صدامي وصراعي، أن قوض معه فرص التنمية بالمجالات الأخرى. ومن دون مؤشرات حقيقية على حدوث تنمية سياسية جادة وهادفة، فإن مسارات التنمية العربية بشقيها الوطني القطري والقومي الجمعي، سوف تفتقد أحد أهم الركائز التي يمكن أن تستند إليها الطفرة النوعية في حياة الشعوب العربية، وتجعلها مساهما له ثقله النسبي في الإسهام الحضاري والإنساني العام علاء سالم - باحث في العلوم السياسية