طوى الردى المفكر «محمد عابد الجابري» فبكاه عارفو فضله وفكره وريادته، ورثاه من سمع باسمه ولم يقرأه، فقد كان علما في رأسه «علم»، وناشط لا ينطبق عليه لفظ «الناشط» بالعرف السوداني، الذي لا مثيل له. رحل الجابري وامته اكثر حاجة اليه والانسانية، تبكي أمثاله، بالدمع و«الحبر» المراق على الورق الابيض لسبر غور فكره وفكرته، شخصيته وطفولته، «أمازيغي» لم يجد في الانتماء للامة العربية نقصا ولم يتقوقع داخل «قوقعة» صدئة يرفعها بعض «صابئة» غياب الفكر القومي، ولفظ «الصابئة» الوارد بملته في «القرآن» اطلقه اهل قريش على من خرج من دينهم، ودخل «افواجا» في دين الاسلام، اما «صابئة» الخروج على الفكر «القومي» فقد كانوا على «ملة» القومية العربية، غرفوا من فكر «رجالها» وتعلموا تحت «راياتها» وما أن نظروا واعادوا «الكرة» ورأوا «الغول» الامريكي الا وخرجوا علينا زرافات و«زرافات» يبحثون عن «أصول» اخرى تسعدهم وتعطيهم «العطايا» التي لا فقر بعدها. المهم في الأمر، كان «الجابري» كبيرا في فكره وهكذا.. الكبار في الرؤية والرؤى الوثابة والعقول التي تنفذ الى مكامن الضوء وتزيده «توهجا».. قرأت مذكرات د. محمد عابد الجابري «حفريات في الذاكرة من بعيد» الصادرة عن «مركز دراسات الوحدة العربية» وكم غالطت نفسي وأنا اقرأ هذه الحروف. ان هذه المذكرات سودانية، ولكن كاتبها «مغربي»، وبعيدا عن الافكار التي بثها الكاتب عظيم الفكر، وهي لا تعنيني في هذا المقال من قريب او قريب جدا، وان كانت العودة لها ضرورية بالتعليق على بعض مقالات محلية، كتبت في حق الراحل «الجابري» ويحتاج بعضها تعضيدا وبعضها مراجعة لرؤى مغلوطة وتأويل لا محل له في إعراب فكر «الراحل». «حفريات في الذاكرة» تقع في «238» صفحة، وفي غلاف أنيق صدرت، وجاءت في فصول وعناوين فرعية. ويلتبس على القارئ الكريم، عنوان هذا المقال «مسيد ود الجابري» ولكن حفريات طفولة د. الجابري تحيلنا إلى «مسيدنا» وأشهرهم نطقا «مسيد ود عيسى» فلا غرو ولا عجب ان اصبح عنوان المقال كما قرأتم. فتوافق اللفظ والمعنى والمبنى بين مسيدنا ومسيد الجابري «لا يتذكر صاحبنا بالضبط كم كان عمره يوم دخل المسيد أول مرة، ولكنه يتذكر جيداً أنه انتقل من مسيد الجامع المجاور لمنزل اخواله والذي التحق به اول مرة، كما قلنا الى مسيد آخر يقع في الجانب الآخر من القصر قصر زناكة، كان هذا المسيد بجانب مسجد عادي، وكان صاحبه شيخا مسنا، ينوب عنه ولده الرجل الفقيه الذي تزوج والدة صاحبنا، واذاً سيكون صاحبنا قد التحق بهذا المسيد بعد السابعة من عمره»! وكثير المقالات والندوات، تطرقت الى العلاقات المغاربية السودانية، وانبرت اقلام تستعير مفردات العلاقات التاريخية والازلية، ولعل هذه القطعة النثرية البالغة الدلالة، تعطينا مؤشرا على مدى تجذر علاقات الشعوب، بجامع المسيد وحراكه وحتى سن قبول طلابه كمدرسة اساس وبداية تلقي العلم وثنائية «الفقيه الفكي» ودوره في تعليم النشء، ومقدار التوافق هذا ينبني على قدر هائل من المعرفة بتفاصيل حياة شعب واحد من مراكش الى البحرين. حياته واحدة، وادواته التي يستخدمها حتى في مجال التربية لا تختلف، ويميز بوضوح بين البساطة في الحياة، وحصار التوافق بلا شك يقضي على التوافه» التي يجعلها البعض تاريخا «ظنيا» يجب علينا اتباعه، وقد كتب على «الظن» وان كان الظن لا يغني عن الحق شيئا. والتعليم هذا اصبح اثرا وان بقيت نيرانه حية في «اطراف» بعيدة، وحل محلها تعليم آخر، وهذا لا يهم ذكره، ولكن وحدة «الوجدان» وطرق التعليم المتوافقة تعطينا على مبدأ التأثير والتأثر واكتساب المعرفة، عبر «الهجرات» التي لا يزال ظل تحقيقها معرفيا يحتاج الى قراءة اخرى. «إذا ارتكب طفل ما مخالفة تستوجب العقاب، فإن (الفلقة) عقابه: يحمله طفلان من ذوي البنية الصحيحة على ايديهم ويمسك ثالث برجيله موجها بطن قدميه نحو العصا التي تنهال عليهما من الفقيه نفسه او من ينوب عنه من «الكبار»، والطفل المعاقب يصبح ويتدافع ولا ترفع عنه العصا الا عندما يقدر الفقيه انه قد استوعب الدرس». هل رأيت عزيزي القارئ، وصفاً «للفلقة» مثل هذا، وهل رأيت تصويرا دقيقا لتشنجات الصغار وهم تحت رحمة عصا «الفكي الفقيه» مثل هذا؟.. انها صورة تعطينا مؤشرا على مدى «التوافق» الذي يحيلنا الى حالة وجدانية واحدة، قد نجد لها نظيرا في قرية مصرية او عراقية او كويتية. لا نعرفها، وقد يكون دوَّنها احدهم ولم نقرأها. اما ثنائية المسيد والفلقة، بالفاظها فإنها تشي الى حالة خاصة، دونها د. الجابري كأنه درس في «مسيد ود عيسى» او في «ام ضبان»، هذه «التقابة» التي تحكم عن ثقافة واحدة، لا بد من قراءتها في مظانها التي تحتاج الى بلورة الخطاب والى تدوين نحتاجه حتى لا يجرفنا تيار التجزئة وجلد الذات، الذي يحاصرنا من أجل ماذا.. لا ادري! ويذكر د. رشدي سعيد في مذكراته «رحلة عمر» عنوانا اصيلا وعنوانا فرعيا «ثروات مصر بين عبد الناصر والسادات» ود. رشدي سعيد «الخبير في الزراعة والمياه، والذي لا زال بيننا وهو في التسعين من عمره» يقول «نشأت كمعظم ابناء مصر ولم يكن لي اهتمام يذكر بالجذور التي جئت منها، او باصول اسرتي وتاريخها، فلم يكن ا لحديث عن هذه الامور من الموضوعات المطروقة في منزلي، او من الاهتمامات التي تشغل والدي. وفي ظني ان هذا كان أمرا شائعا وتقليدا قديما». ود. رشدي «المولود في القاهرة 1920 من اب وام ولدا بها ايضا ومن عائلة قبطية متوسطة». ان هذه الفقرة، تقف دليلا قاطعا على المجتمع الواحد المتسامح الذي لا تعنيه ثنائية تطل برأسها منذ سنوات لتقف دليلا على روح التجزئة والتفرقة التي يرسم خيوطها البعض بمهارة فائقة ودأب لا يفتر، وها نحن نراها في بلادنا، تدعمها مؤسسات وتنطق باسمها «صحف» وعنوانها البرئ، الاختلاف الثقافي، وهدفها الذي لا نراه تجزئة وهمية من استعمار جديد، فشل عند استعمارنا من قبل في تجزئتنا، واصبح من وراء البلاد يرسم السياسات لنا وهناك من ينفذها. «لم يكن الأطفال المشاغبون يستسلمون لعصا الفقيه هكذا بدون رد الفعل، بل كانوا كثيراً ما ينتقمون بوضع أشياء حادة موجزة او مزعجة بين تلابيب صوف «هيضورة» الفقيه تارة مسمارا واحيانا عقرب». هذا الشغب الطفولي الذي يتكرر في كل الازمنة، اذا رأينا بعين فاحصة، ما سرده د. الجابري فإنه مقولة «لكم اللحم ولنا العظم» السودانية تختصر مقولات متنافرة حول هذه العلاقة الشائكة. ولعل منع العقاب البدني في مدارسنا يحتاج الى اعادة نظر باجتراح عقاب آخر مثل نظافة الفصل الدراسي، او كتابة مادة مقررة واعادتها، كلما كان هناك خطأ في «الاملاء» حتى تختفي اخطاء كل «املاء» خريجي الجامعات واحيانا الدراسات العليا. ويود د. رشدي سعيد في كتابه «رحلة عمر» «تسارع احلال التعليم المدني الحديث» محل «الكتاتيب» العتيقة التي كانت التلقين، وتم تصوير التعليم واصبحت لمصر جامعة حديثة أضيفت الى مدارسها العليا القائمة. ويورد كذلك د. الجابري «قبل دخول صاحبنا الكتاب، فقد كان جده لامه يلقن حفيده بعض السور القصيرة من القرآن وآيات اخرى، وقد كانت المدرسة آنذاك موزعة الى ثلاث مستويات، الابتدائي الأول في حي آذاريت، والمستوى الابتدائي في حي عبد الكافي. ولم يكن الأطفال يشاغبون كما كان الشأن في المسيد، فالتلاميذ هنا يجلسون فرادى في مقاعد، والمعلم يتعامل معهم كافراد وليس كما في المسيد، واذا طلب من احدهم ان يتكلم فإن على الباقي أن يعمل بصمت ويستمع، وان طلب منهم ان يكتبوا فعلوا ذلك بسكوت». قد يقول قائل ما الفائد من ذكر هذه المذكرات؟ ولاهمية مثل هذه النصوص التي تقفز بالذاكرة الى قراءة ما سبق للآباء والاجداد من طرق تعليم تم وأدها دون وجود ما يملأ العقل بما يعطيه رياضة ذهنية اخرى، فإن اعادة مثل هذه النصوص تعطينا خارطة تمثلت في غياب «الجماعية المسيد» الصمت والكتابة بسكوت «المدرسة»، وغياب الفعل الجماعي دليل على غياب الحيوية، والصمت ومرادفه غياب السؤال، والمعرفة قائمة على «السؤال» وبما ان السؤال «غائب» حتى ولو كان «شغب» «صغار» فإن «عقرب» تغييب البيئة وخلق بيئة مغايرة ليس بينها والانسان صلة يعيد سؤال ما «الكتاكيب» وما التعليم الحديث اذا كانت الحصة الاولى بروز حركة نهضة لا تزال آثارها موجودة، والثانية، الحصيلة صفر او ما دونه أي درجة تجمد الفكر العربي وغياب مشروع النهضة خرج من «الكتاتيب» طه حسين والعقاد ومارون عبود والكواكبي والجابري وعبد الله الطيب، وخرج من مدارس الانجليز الذين لم يضيفوا لامتهم شيئا. إن مثل هذه الاستنتاجات قد لا يستحسنها البعض، ويقول قد تجاوزنا هذه المراحل ونحن الآن في عصر الانترنت، ولكن ليس السؤال عن ادوات الحداثة ولكن عن الحداثة والمشروع النهضوي الذي خرج ولم يعد. لا تعيدوا «الكتاتيب» ولكن اعيدوا التفكير في سبل كفيلة بإعادة مشروع النهضة وروادها الذين خرجوا من المسيد واضاءوا الدنيا بمصابيح الفكر وبعدهم «أظلمت»! «ذهب صاحبنا ذلك اليوم بالحمار إلى الورد، ولكنه حرص على العودة سريعاً، والذي كان يجري بعد العصر من سباق للحمير في أوقات الورد، كان ضرورياً للحمار إذ أنها كانت الرياضة الوحيدة التي يمارسها يومياًَ». الورد: ورود الماء ومعناها في عاميتنا كما ذكرها د. الجابري. أما سباق الحمير، فقد اختفى من عهد المك نمر، وسباق حمير قبيلة استنجد بها لمحاربة الباشا فاعتذرت للمك بسباق حميرها الذي هو مقدم لها على الحرب. ورحم الله الجابري وأيام طفولته.. وان رحل ونحن لا نزال في طفولة فكرية وغياب حرية. المراجع: حفريات في الذاكرة من بعيد د. محمد عابد الجابري رحلة عمر. د. رشدي سعيد.