هنالك حرف ومهن ارتبطت بالرعي واهل الترحال، وبعضها ارتبط بالزراعة واهل المطر.. وهناك الصرماتة.. والصرماتي هو صانع الحذاء المركوب. وصرماتة المفردة شامية، وهي مأخوذة من صرم وهو الجلد المدبوغ، والصرم في الفصحى الخف، والصرم في اللغة الفارسية هو الجلد، وبرغم ان صناعة المراكيب والاحذية اشتهر بها اهل كردفان ودارفور لارتباطهم بالابقار والبجا في الشرق لارتباطهم بالابل، الا ان مدينة الدامر، بوصفها مدينة قديمة وهي على مقربة من بربر التي كانت دار علم وتجارة وعاصمة كبيرة، فقد تأثرت بذلك وكان بها كثير من الصناعات منذ قديم الزمان. وفي الدامر عاصمة دار الابواب حرف جمعت بين اهل الرعي واهل الزراعة، ومنها الداية او القابلة، والبصير الذي يجبر الكسور، لأن الدامر كانت تحمل ملمح المدينة وملمح القرية.. وكما قال عنها توفيق صالح جبريل: ألا يا دامر المجذوب لا أنت قرية تبدو بداوتها ولا انت بندر واشتهرت الدامر بالصناعات الجلدية وبرع اهلها في تشكيل الجلد لمدبوغ، وعمل اهلها في صناعة جفير السيوف وصناعة زينة الابل والسروج، وصنعوا الرسن والقراف، وقد برع في هذه الصنعة محمد الامين فرح والبدوي عثمان وود عبد القادر تلبس وشيخ التوم. اما صناعة الاحذية «المراكيب» فلها فنانوها واهلها، وهم من يسمون بالصرماتة، وحسب افادة بكري سليمان فهي تبدأ بدبغ الجلود، وتستعمل في ازالة الشعر زبالة الحمام وهي فضلات الحمام، وتوضع الجلود في حفرة ويتم زلط الجلد بالماء والقرض، وهو ثمار شجرة السنط الموجود على صفاف النيل، وتمكث الجلود ثلاثة ليالٍ يضاف اليها قرض جديد كل يوم ثم توضع لتنشف في حبال من الليف. ومن اشهر الدباغين جعفر الحريري وعثمان حسين، ومن المدينة تنقل الجلود الى منازل الاسطوات او دكاكينهم. والمركوب يقال له النعال السبتية، وهي التي ليس بها شعر، واي حذاء مصنوع من جلد مدبوغ، وقد قال عبيد بن جريح انه قال لابن عمر رأيتك تلبس النعال السبتية، فقال لي: «اني رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم يلبس النعال السبتية ويتوضأ فيها وأنا أحب ان البسها». وقد كان في الدامر عدد كبير من الصرماتة او صناع المراكيب، ولهم دكاكينهم وبرنداتهم، فقد تشاهد احمد بيّن يأتي في الصباح الباكر ويقوم برش الدكان وهو يسبح ويحمد الله كثيراً، ويشعل البخور، وهو من تواضعه يضع يديه خلف ظهره ويرد التحايا على جيرانه في المحال، وهو صانع ماهر، وزمان يقال ان العريس الما قطع من بيّن ما عرس، اي ان العريس لا بد ان يصنع له أحمد بيّن حذاءً، وقد عمل معه أخاه عبد الوهاب، وكانا مهرة، كما كان أحمد بيّن متصوفاً يهتم بانارة ساحات الذكر بالفوانيس والرتاين، وكانت لديه «عدة» في بيته لحفر المقابر، وهي عبارة عن طواري وكواريك وواسوق، اضافة للرتاين، عليه رحمة الله. ومن أشهر الصرماتة جبريل حسن، وكان عالي القامة عكس أحمد بيّن قصير القامة، وكان ماهراً في تشكيل الجلد، ويتكون المركوب من جزءين، الجزء الاسفل وهو ثلاث قطع ارضية تصنع من جلد البقر، والاعلى ويسمى الوش وهو من جلد الماعز، وفي الدامر يصنع فقط من جلد الماعز، الا انه في اماكن اخرى كام درمان فيصنع الوش من جلد النمر وهذا محرم من ناس الحياة البرية، وقد يكون الوش من جلد الاصلة او الثعبان. وليصق الوش والارضية بواسطة المديدة، وتصنع من دقيق القمح، وتخلط مع الماء والدقيق بعض خيوط الخيش والخيش من شجر الكناف، وتتم خياطة المركوب بخيوط القطن المغزولة وتصنع بواسطة «المترار» البلدي، ويدهن الخيط بشمع خلايا النحل حتى يزداد قوة.. ولكي يكون المركوب في شكل جذاب يطلى بمادة التفتة وهي صبغ احمر وهذا للمركوب الاحمر، وقد يكون للجلد فقط، لكن لاضافة لمعة له تستخدم بعض الاصباغ الاخرى له مثل الجهرة وصبغة الزيزفون، ويثبت المركوب بمسامير النقالة.. ومن الادوات التي تتم بها الصناعة «القرمة» وتشبه قرمة الجزارين، ومن ادوات الصناعة «الاشفا» وهي ابرة طويلة لخياطة المركوب، وهنالك قوالب من الخشب تسمى الارطة، وهذه للمقاسات واكبرها يسمى المحير.. ويقطع الجلد بواسطة حديدة تسمى الكاظم ولعلها كلمة شامية لانها تستخدم في سوريا والعراق، بل نجد هنالك من الاسماء الكاظم وكاظم. والمراكيب أنواع كثيرة، نذكر منها أبو قدوم وهو من احذية النساء، وهذا المركوب دقيق ورقيق في الجوانب، وقديماً قيل العروس الما لبست ابي قدوم ما لبست، وهنالك المركوب ابو مزيكة، وقد حذق في هذه الانواع جبريل حسن ومن بعده اولاده ميرغني وجعفر وصالح والتوم، وهنالك من الصناع المهرة حسن محمد السيد وأب نجيعة.. ويقال في الدامر ان هذا المركوب قطع بيِّن او كلبوش، وقطع مقصود بها هنا صناعة، والحاج محيي الدين الشفيع كان صانعا ماهرا ايضاً. وفي دكاكينهم او مساكنهم كان هنالك نقاش عن التصوف والفن والسياسة، لأن بكل مصنع راديو يتابعون من خلاله الاخبار. ومن الصناع ايضاً حسن ود سلمان، وقد كانت المراكيب تصدر خارج السودان الى السعودية عن طريق سواكن. وكان يتم عرض الاحذية بصورة جيدة للبيع، والبعض يقوم بتسفيرها لام درمان في شكل طرود للبيع، وهنالك دكاكين تقوم بعرض المراكيب للبيع مثل دكان مجذوب عبد الرحمن وود العالم واولاد الفقير واحمد حسن الشايقي. فقد شكل الصرماتة بنية اقتصادية مهمة في فترات تاريخية ماضية، وكانوا صناعاً مهرة، كما كان كل من يشكل الجلد فناناً بفطرته، واستفاد منهم الناس ومن صنعتهم في دباغة الجلود، فقد كانت هنالك القربة ويحمل بها الماء في اللواري السفرية او السعن الذي يبرد الماء بالمنزل، وهو من جلد الماعز ويستخدم ايضاً في «خش الروب» ومازال الشعب السوداني يحب لبس المركوب، ومازال الصرماتة يبدعون في ام درمان او في دارفور، ومازال المركوب هو دلالة من دلالات الهوية السودانية.. ورحم الله من الصرماتة من توفي، والله يخدر ضراعات الباقين.