جئت القاهرة أول مرة وصيفها لا يخلوا من نسايم ، نزلتها و دهشتي تحيطني إعجابا» بالازدحام الخلاق ، و تعربد فيني صور عنها المدينة التي بعدها بكثير صارت عندي أم الدنيا ومهبط المبدعين . سنواتى الأولى فيها سكنت غير بعيدا» عن النيل ، نتواجه في الصباحات ، و آخر مشهدي في العشيات جريانه نحو المصب .لا زلت في بواكير الانتساب إلى العاشقين للمدن ، لكنها هي التي عشقتني ومنحتني الكثير و بفضلها ولجت إلى آفاق أرحب ، ورحت أعشق فيها حبها للآخرين ، تفتح قلبها وعقلها لتدخل في رقة . كنا سنواتنا الأولى التي تلت بعد انقطاع رحلتي الأولى لها نلتقي في خواتيم العام ، نأتيها والشتاء يزيدها على ما فيها من حلاوة طلاوة المطر ، زخات تغسل روحك ، وتمنح جسدك قوة وخطوة ، وتتمتع بالنظر إلى تفاصيل ما فيها من حسن ، مدينة في سحرها لا في حقيقتها يكمن الجمال والدلال ، لا تتمنع وتشتهي لكنها سبب يدفع في دماء نافوخك ما يحركها نحو كل عنقك وصدرك ، يدخل حلمك بالتوهج فيها إلى حجابك الحاجز ، تسهر فيها ولا تفرق بين امتثال الصباح للحضور ، أو أنك تنظر البدر للأفول، والذوبان في ما تبقي من غيمات تظلل برجها العاجي في وسط الجزيرة .سنواتى الأولى مرعوب بالازدحام ، والمشي في شوارعها في الصباحات المبكرة يعيد إليك أقرب الصور عن ( سوق المويه) في البقعة ، في الظهيرة تسمع ذات الأصوات ، لكن جرسها يختلف فى انطلاقة الصوت ، لا في تردده ، هناك في غاية الحدة أحيانا» ، وهنا في منتهى التواصل مع الآخرين . مصر ، القاهرة . الاسم عند بعض معارفي الأقرب فيها واحد و مصر التي عرفتها سنواتى الأولى التي صار لي فيها مكتب ومنزلة وسكنت إلى أهلها. عرفت وأن غبت بعض أوقاتي عنها ما يدور فى التفاصيل . ذاك المساء وصلنا لمطارها ، كبير عندي كان وفى اتساع كل شي فيها ، أخذونا إلى فندق في مواجهة النيل ، اندهشت لانكماش النيل وتغير لونه ، أقرب إلى الأخضر ، قلت في بداهة لعل المسافة بين البقعة حيث ينطلق نهر النيل وهنا قرب كبرى قصر النيل إجهاد ومشقة ، فتعب من جريانه ، و نزف ، وتحول عرقه إلى الأخضر . لكنى من حزني عليه لمحته يمشى بدون التماع أخضر، ما فيه من اتساع . أخذونا في المساء إلى قاعات مهرجانها الدولي للسينما كان يديره في الربع الأخير من السبعينيات الكاتب والصحفي الراحل (كمال الملاخ) ، وتلك حكاية بداية الدخول في الذي أسميه دوماً بالآفاق الأرحب للفنون العربية ، دعاني لمكتبه كان يشرف على الصفحة الأخيرة في الجريدة الأشهر. حدثني عن حبه للسودان وفى الصباح كانت صورتي تتصدر الصفحة الأخيرة لجريدة الأهرام ، أظنه كان المبنى القديم ، لأنني بعدها بسنوات جئت إلى مركز الدراسات ضيفا» عليهم في حواراتي المتصلة في الشأن العربي السياسي و الثقافي ، وكنا ولا زلنا نحذر من الكثير تحت الغيوم وبين سطور الرسائل شمالا» وجنوبا» . نقول عنه استلاب العقل العربي في دوامة الكوكبية . أختلف المبنى ، دخلته أول مرة أبحث عن مكتب ، وجئته بعد ذاك بكثير وكان فى انتظاري من يأخذني إلي قاعة المؤتمرات في جريدة الأهرام ، حيث موعدي أشارك في حوار بين أهل الثقافة والفكر والسياسة . كتبت قبلها عن حوار الشمال والجنوب يوم وقف ( فيلي براند) مستشار ألمانيا الأسبق على عتبات باب كان يظنه يفضى لحوار يشيد الجسور بين أهل أوربا فى ثراء صناعي خلق حالة من التنمية المتصاعدة ، و أهل أفريقيا وكل ما هو جنوب البحر الأبيض المتوسط في طريقهم نحو النمو ، جعلني أيامي تلك أستمع إلى خطابات ( بيمبيدو) وحوارات ( جسكارديستان) ، وكنت أدخل دهاليز مبنى عمودية باريس ، أعرف بعض أهلها ، وباريس عشقي الثاني بفضلها أتسع عندي جزء من الآفاق الأرحب الأخرى ، فيها وفى مراكزها الثقافية ومنها تخرج إلى العالم المتشابهات ، وكان ذادى لكل ذلك في إطار المشاركات فن التشخيص و ما بعده من اهتمامات ومسئوليات قطرية وإقليمية ودولية السيد فيها التمثيل مثل فلم عرس الزين ، وكنت طرفاً من إنجازه بالقدر الذي أتاح لي هذا التواجد في مصر التي أعشق بلا حدود . والقاهرة تضيء في كل الناس بالقدر المستطاع ، وحسب ما تعطيها من حب تزيد هي في دلالها ، تأتيها للنظر فنعم النظر ، تأتيها لمشاركة تبسط كل الفرص بالتساوى . مسائي الأول كممثل يحضر مهرجانها السينمائي الدولي في بداياته الأولى كان فاخراً ، سبقني الفيلم ( عرس الزين) وطافت بى الأحلام ، سفري كان ذاك الأول ، كيف لي أن أذهب لها دون استعداد ؟ صوري عنها حدائق فى الخيال ، وحسان فى الأفلام ، ولسان فصيح ولهجة أعشقها من بعض أهلها الذين تجاورنا سكناً و عشره ، فلا الزحام والضجيج كان يحتاج إلى جسور معها لتعبر إلى عمق المودة . ولا النظام في المهرجان الذي حفزني بعدها بسنوات كثيرة للتفكير في تقليده أو إتباعه أو النظر في كيف يمكن أن يكون مثله فعل فني فى الوطن ، مهرجاني الأول فيها كان فرصة ، وكنت أحاول يومها التفريق بين الذي أنا فيه وما سوف أعود أليه ، ولعلها بحسنها وجمالها الوفير دفعت عندي إدراكات بضرورة الذهاب إلى أبعد منها. أو أن تبقى لي فيها موجبات للعودة مرة وأخرى. تلك الأيام فيها كانت على عجل ، الكل كان في اتجاه مختلف يذهب ، و وقفت في بهو الفندق أتأمل فيهم ، أعلام ونجوم ، أحاول أن الحق بالذي يحدث ، حوارات وتصوير ، والقنوات الفضائية كانت قليلة ، لكنني كنت بجلبابي الأبيض أقف وسط الأضواء ، أتعرف أكثر على دواعي كل هذه العجلة التي هم فيها ، ولم أفهم ولكنى علمت وذاك فرق . القاهرة تشتاق أن تلقاها وفى أسرع وقت وهى ما تفتر عن عناق أو مودة تلقاك فاخرة و فارهه و مزدانة في كل لحظة ، في كل لمحة ، في كل نفس أنت تسعى لها تسعى لك . و القاهرة الثانية جئتها بعد أعوام من زيارتي ألمفتاحيه لها، لا زال يومها في العمر مكان لعشق و قدرات للحركة بين القلب والفم لتتكامل البسمة الوضاحة ، ترد بها على البسمات مثل الآلي ، تملأ الفضاء أمام ناظريك ، ما عرفت مثل هذه الأجواء بكل المحبة التى تغشاها أبداً . جئتها أشارك في مهرجانها السينمائي ثانية ، لكن ذاك كان بعد عقد من الزمان يزيد لا ينقص . كنت يومها أعمل في مؤسسة الدولة للسينما يرأسها رجل من أفضل رجالا الإدارة والخدمة العامة ، جاء اللواء/ تاج السر المقبول من المؤسسة العسكرية في مطلع الثمانينات، وجئت المؤسسة من وزارة الثقافة ، حيث عملت سنواتى الأخيرة في مكتب وزير الثقافة ، والتقينا وقد طلبني للعمل ، كنت يومها أمضى بعض أوقاتي وأتردد كثيرا» على باريس ، وهناك كان سفيرنا يومها الأستاذ أبوبكر عثمان محمد صالح ، عاد للخرطوم وزيراً لرئاسة مجلس الوزراء هو الذي حدثني عن المؤسسة وأنه تحدث مع الراحل الفاتح التيجانى ، وكيل وزارة الثقافة والإعلام لتسهيل انتدابي للعمل فى المؤسسة ، ولم يحدثني عن اللواء المقبول ، كنت اعرفه . من تجوالي بين أحياء البقعة إذا ذهبت إلى منزلنا فى ودنوباوى قادماً من منزل جدي إسماعيل إبراهيم فى (ودارو) أدخل أولا شارع آل الشفيع ، ثم انحنى مع الشارع حتى أعبر بيوت بعض آل المقبول ، الرجل طويل القامة وسيماً فى تفاصيل الهدوء والسكينة ، تصاحب كلماته تعابير أخرى يكمل المعاني باليد اليمنى وتسكن اليسرى بين صدره وعنقه فى حركة متوازية ، عسكري الطباع ، مرهف وفنان ، أحدث الكثير من التغيير فى مؤسسة الدولة للسينما ، انفتحت المؤسسة و السودان وقتها على الدنيا ، ومن مصر كانت الانطلاقة ، فجئت ذاك المهرجان السينمائي الدولي للسينما يرأسه بعد أن أحدث فيه الكثير من التجديد الراحل أستاذي /سعد الدين وهبه ، وكنت قد كتبت بعد رحيله في دهليزي عنه ، و تلك حكاية أخرى . بعد أن نجح في أن يستعيد وضعه الدولي بين المهرجانات ، القاهرة فى ذاك الشتاء إمتلات بالدرر من المبدعين ، وتباهت بين المهرجانات بحضور ضيوفها كنا من أنحاء عوالمنا العربية ، وجلسنا لنبحث في أمر إعلان الإتحاد العام للفنانين العرب فيها القاهرة ، وتلك حكاية أخري دهاليزها وما بين الاجتماعات وكيف كان الأمر والي أين أنتهي . و القاهرة في حسنها تفتح لنا أبواب اللقاء العربي المستحيل ، يومها غابت في تلك الأعوام بفعل السياسة رايات العرب عنها وأعادها سحر الفن ، في الاجتماع التأسيسي الذي جاء للقاهرة طائعاً وفي محبه . وتلك الأمسيات فيها عرفت أهل فنها ، مشينا بعدها في دروب الدنيا معاً جئتها شاباً وعرفت فيها ما عرفت ، سنواتي و أيامي تلك كنت قريباً من بعض نجومها ، وامتدت العلاقات لما بعد القاهرة ، نتحرك في جماعة من الألوان الباهيات الزاهيات ، الحسن فيها سيد ، يأخذنا نحو دمشق وعواصم العرب ومهرجاناتها المسرحية والسينمائية أطياف من الجمال نمشي علي سجادة الود . حدثني يومها الفنان و الصديق عادل إمام كان يوصيني بأن أنقل اعتذاره عن الحضور وكانت مناسبة خاصة للفنان المبدع دريد لحام ، وما تحقق حلمنا في تحويل لقاءاتنا الدائمة الإنسانية إلي لقاءٍ فني . يوم دعتنا إذاعة صوت العرب غاب عادل إمام وحضر دريد لحام نجح المسلسل الإذاعي ( عبد الودود عبر الحدود ) في تحقق بعض من حلم العمل العربي المشترك . دخلت في دروب القاهرة الأخرى ،بعطرها ومباخرها وراياتها ، تأتي حي السيدة من أي اتجاه تشتم عطر السادات الأولياء ، تقف في مواجه المقام الشريف ، أنواره تشع ، تدخل قلبك قبل عينيك ، وتفيض من روحك تجليات ، ما تذكر منها بعد أن تمضي إلا أنك كنت في مقام بعيد ، تخرج من السيدة زينب الكبرى إلي شارع الأشرف ، مقامات آل البيت اختاروا مصر أم الدنيا للأمان ولان أهلها عشقوا كل تفاصيل تلك المجاهدات وجعلوا من آلامهم سقيه للمحبة . القاهرة من أين تأتيها؟ ومن أين تأتي ؟ تجد فيها روحك ، و تكون السيد الأول فيها. من أين ، ومن تكون ؟ لا تهم الأسئلة ، الإجابات في موضع المعلوم من الأشياء المذكورة بغير عاده ، أنت فيها تندمج في المسافة التي لا تعطيك فرصة التراجع . وقفت في ذاك في المسافة بين خشبة المسرح حيث أتجه والمقاعد إلي جواري تزدحم بالأصوات ، كانت في حسنها جالسة في عرش من المرجان ، عيونها في أتساع الضوء عندما تعجز كل الحواجز عن احتجازه و وجهها القمر و أكثر ، تبتسم فتزيد من أنوار المكان إلتماع ، وخدها يقابلني من حيث أجلس فيه كل عذابات الدنيا وحسره المحتاج للضوء و الملتاع للحزن الجديد ، وصوتها عندما إقترب من أذني خدر ما بين عنقي وكتفي ، صاحت أو هتفت لا يهم ، لكنها ذكرتني بأنني المدعو ألحظة لخشبة المسرح همست أظن ( يا علي بيه أنت فين أطلع المسرح يا علي ) ويا صوتها لما ، لما سري لما ، عصف رغم رقه و انخفاض بنبره الصوت بالستائر اهتزت، لا أظنها ارتجفت ، لا هي في الحقيقة رقصت علي أنغام الجنة التي خرجت من بين حروفها الندية ، وليلتي تلك كانت ليس كمثل الليالي أولها أنني أجالس الفنان الأجمل و الأكمل في الصفاء والأوفر في الحسن والأدق في التعابير خاصة إذا ابتسمت تفتح للعصافير أبواب الشرق لتسكن في الغرب ، وليلتي تلك نبهتني سيدة الليالي الشاهدات علي المعاني . وقفت في محاذاتي شمس بلا نار و بدر بضوء الفجر كله سكن في عينيها ، دفعتني إلي الأمام غنت ثانية (يا عم ما تروح الناس في انتظارك ، يا عم علي يا بتاع الزيت أصحي يا عم ) وسمعت بين الكلام والكلام جمله ضحكة ترفرف ، وسمعت هفهفة جناح الكناري تحت أذني ، أمسكت قوياً بيدها أتردد في الذهاب وأترك العنبر ، والعسجد، والذهب السائل ، والورد المعجون في العسل ، والعطر المخلوط من أظافر الجان والمسكوب بلا عجل في قوارير زجاج شفاف تلمح بين رقائق التكوين انسداد المرافئ ، وأتساع الأفاق ، ما هذه يد مثل التي عندي ولا في رقة الأطراف أو لين الباطن و استقامة ملمس الظاهر فيها . سيدة الفنون ليلي علوي وقفت معي ، وضعت كفها في الأخرى مره وأخري ، أخرجت لبن وعنباً وعسلاً وتمرً وأصواتها كلما تكررت تباينت لكنها تناغمت ، خرجت من إياديها الحرير وبعد أن تأكد لي بلا شك ويقين أن الذي أسمعه تصفيق حاد ذهبت نحو المسرح . كان الراحل سعد الدين وهبه رئيس مهرجان القاهرة السينمائي الدولي واقفاً في وسط خشبة مسرح الجمهورية غير بعيد عن ميدان العتبة الطريق منه يأخذك بعد خطوات قصار إلي قصر عابدين . و التماثيل الفرعونية أمامه ، الليلة كانت الختام وفيها تمنح الجوائز للأفلام في المسابقة الدولية وتكريم ضيوف المهرجان . كان قد سبقني الفنان الصديق دريد لحام ، ولما كنت منشغلاً بالحديث مع سيدة الليالي لم أتابع ما حدث ، ظل واقفاً في انتظاري ، وأنا علي العتبة الأولي في الدرج لمحته يأخذ من أمام المسرح مزهرية حملها وانتظرني واقفاً وبذات السرعة حملت أول مزهرية أمامي وذهبت إليه وتبادلنا الأزاهير ، وضحكت الصالة طويلاً و بين ضحكاتهم كانت ضحكة الليالي المقمرة متميزة ونزلنا سويا يمسك بيدي يكمل ضحكاته ، وأنا استعجله النزول ، وجلست إليها ثانية كفكفت دمعاً بعد ضحكة طروب و مهظاره ، لمحت عبر البلورات صورتي تتوسط الدمعة .وأمسينا وأصبحنا بعدها في مودة ، تسأل واسأل أكثر، نتشارك في الكثير من ألقاءات للقنوات الفضائية و مصر أم الدنيا كما هي تحكم الذوق وتدفع في الفنون كل يوم من فرصها الكبيرة للآخرين . القاهرة التي مشينا علي سجادة وردها فيها غير ليلي علوي ونور الشريف عزت العلايلي ويسرا وحسين فهمي، فيها الشوارع والقباب والحدائق والمدن الجديدة ومبدعيها كثر. القاهرة التي جعلتني بعد سنوات أميناً للفنانين العرب وقدمتني علي أهلها وتلك حكاية نحكيها في دهاليز تأتي ، لكن من حسنها القاهرة تستقبل في كل أعوام من جنوب وأديها مبدعين تفتح لهم فرص التلاقي والآخرين في مهرجاناتها وملتقياتها ، وتستحق كل يوم كل عشقي ، فهي بين الصباح والمساء تجدد أثواب القبول بالبديع والمحسن . فهل قصرنا في عشقنا ؟؟ [email protected]