الجنون : كما يعرفه البعض هو اختلال القوة المميزة ، بين الأمور الحسنة والقبيحة المدركة للعواقب، بأن لا تظهر آثارها وتتعطل أفعالها، إما لنقصان جبل عليه دماغ المرء ، في أَصْل الخلقة ، وإما لخروج مزاج الدماغ عن الاعتدال، بسبب خلط أو آفة ، وإما لاستيلاء الشَّيطان عليه، وإلقاء الخيالات الفاسدة إليه، بحيثُ يفرح ويفزع من غير ما يَصْلح سبباً ا.ه» حاشية رد المحتار- كتاب الطلاق ) وقد عرف بعض الفلاسفة الجنون بتعريفات مختلفة فإليك عزيزي القارئ بعضها. لو كان الجنون مرضاً ،لسمعت العويل في كل بيت . ( مثل إنجليزي ) لقلة العقلاء ، لم يعرف المجانين . ( يمن بن الأزرق ) بين الجنون والعبقرية، خيط أرفع من نسيج العنكبوت . ( جبران خليل جبران ) قيل لجحا: عد لنا المجانين في هذه القرية. قال: هذا يطول بي ..ولكني استطيع بسهولة أن اعد لكم العقلاء. طرح أحدهم يوما على الكاتب الفرنسي الكبير اندريه موروا سؤالا يقول : هل جميع الروائيين مجانين أو عصابيون؟ فأجاب الكاتب: لا الأصح أن نقول : إنهم كانوا سيصيرون جميعهم عصابيين لولا أنهم أصبحوا روائيين) ( وأما الشاعر جيرار دونرفال فقال : (أخشى أن يضعوني في بيت العقلاء) (أي في المصح العقلي ). و كان شوبنهاور مصابا بجنون العظمة ،وعقدة الاضطهاد في نفس الوقت ، وكان يعتقد بأنه ملاحق باستمرار دون أن يلاحقه أحد ، ولم يكن أحد يستطيع أن ينزع من رأسه تلك الفكرة التي تقول : بأن هناك مؤامرة كونية تحاك ضده، من أجل خنق عبقريته ، أو القضاء على إبداعه الفلسفي، ولعل ذلك هو ما يعرف اليوم في الطب الحديث بالوسواس القهري ،أو الاكتئاب الحاد أو القلق او العصاب أو الفصام أو غيرها من الأمراض النفسية والعصبية. وبعض من تصيبهم تلك الأمراض لديهم اعتقادات عجيبة، فمنهم من يقول لك :أنه يعلم ما تضمر له من شر وأنه يعلم أمورا غيبية كثيرة بينما لا يعلم الغيب الا الله هذه واحدة ،ومنهم من يقول لك :أن لديه قوى خارقة ،وهناك من يقولون لك : أنهم يسمعون أناسا يحدثونهم في صحوهم ومنامهم ، ومنهم من يشعر بما يعرف بجنون العظمة فتجده يضع لنفسه أهمية وأنه شخص عظيم الشأن ،والمجانين تنتابهم وتعتريهم حالات مختلفة في اليوم الواحد بل خلال ساعة واحدة ،فتجدهم ساعة في انشراح وسرور شديدين وأخرى في كدر وضيق وشدة وقلق واكتئاب ، وقد تقود بعض تلك الحالات أصحابها الى إنهاء حياتهم ، ما لم ينتبه إليها ذووهم ،وقد لاحظنا بعد غزو أمريكا للعراق إصابة مئات الجنود الذين شاركوا في المعارك بأمراض نفسية مختلفة أدت الى انتحار بعضهم ، كما ارتفعت نسبة الانتحار في صفوف الجنود الاسرائيليين مؤخرا . ويميز الروائي العراقي المقيم بالقاهرة خضيري ميري في سفره الموسوم ب (أيام العسل والجنون) بين ما يسميه الجنون الأبيض تماما كالكذب الأبيض حيث يعتبره مسالما لا يؤذي احدا من الناس ويشير له بالعسل ،وبين الجنون الحقيقي الذي يأتي من الأمريكان الذين توحشوا ودمروا العراق وشعبه دون إحساس أو عقل ،ولعله يصور جنونهم بشكل بديع مجنون في مشهد قصف ثلاجة الموتى وتعفن الجثث ،تماما كما يمثل البعض بالجثث ثم يسلخونها ويصلبونها ،دون تدبر للمثل الذي يقول (لا يضير الشاة سلخها بعد ذبحها) يقول ميري عن تجربته بمستشفى للأمراض العقلية «تجربتي الخاصة التي ادعيتها في زمن النظام السابق دفاعا عن حياتي ووجدتها بعد ذلك تجربة مثيرة كتبت عنها وساعدتني على الانتشار والترويج (وما زلت اعتاش عليها) فانا الان اعمل على إصدار المجلد الأول « تاريخ الجنون في العقل العربي « الذي اثبت من خلاله ان العقل العربي كان اقرب الى الجنون بدءا من جنون الأشياء وانتهاء بالحكام العرب الذين كانوا يملكون خمسة آلاف جارية ويسفكون الدماء في الليل مع شرب النبيذ». وللدكتورة والأكاديمية المتخصصة في علم النفس «كاي ردفيلد جاميسون كتاب بعنوان «عقل غير هادئ» ترصد فيه وقائع مدهشة ، داخل مسارب نفس إنسانية ، ثرية الوجدان ،شاعرية الملامح، تأخذك صفحاته إلى متاهات ذات مرهفة الحس، رقيقة الحاشية، أرهقها طول العذاب، وناءت بما تحمله من آلام، من خلال سردها لسيرة ذاتية شجاعة ومدهشة، ومفعمة بالصدق والبوح الشفيف، والتصوير المذهل لتفاصيل آلام وعذابات يعاني منها ملايين البشر في شتى بقاع الأرض، ثم يغلقون صدورهم على مجرياتها وأحداثها، ويحكمون الأقفال والمتاريس على منافذ تلك المعاناة ، حتى لا تظهر خارجاً ، جالبة لأصحابها العار والسمعة السيئة، والطعن في أُمن ما يمتلكه الإنسان ،وما يتنمايز به عن باقي الأحياء: وهو العقل. فالكتاب إذا يرصد بين دفتيه بعضا من أهم أمراض العصر في زمن اللهاث والجري والتنافس الشرس الذي يورث القلق والإحباط، وهو الزمن الذي تحول فيه الإنسان إلى ترس في آلة التصنيع والإنتاج، بينما تتوارى حاجاته النفسية ومتطلباته الروحية ، وراء ستائر حاجياته المادية وكماليات الحياة الكثيرة والمتشابكة. وما يشاهده كل يوم من مناظر الدماء التي تسيل في أرجاء واسعة من أنحاء العالم ، حيث أصبح القتل أمرا مألوفا وبالجملة ،الأمر الذي جعل كثيرون لا يحسون بقيمة الحياة الحقيقية وطعمها . ورغم انتشار مختلف أنواع الأمراض النفسية وكثرة المصابين بها، الذين نعلمهم والذين نجهلهم ، إلا أننا نعرف القليل جداً عن طبيعة وتفاصيل وأعراض تلك الأمراض ، التي تدمر حياة كثيرين ،حيث يدعي كل منا سلامة عقل وما يدري لعل لوثة من الجنون مست عقله في غمرة لهاث وراء سراب عالم مجنون. وقد كتب ابن حبيب كتابا، حول بعض عقلاء المجانين ،يعتبر حتي الان فريدا من نوعه بين كتب التراث العربي ،نحاول هنا إيراد نماذج، ممن احتفي بسيرتهم من عقلاء المجانين فيه يقول : قيل لليلى : حبك للمجنون قيس اكثر ام حبه لك؟ فقالت:بل حبي له.قيل : وكيف؟ قالت :لان حبه لي كان مشهورا ،وحبي له كان مستورا، وكان سيبويه النحوي الشهير من عقلاء المجانين، وذكرت زوجته أنه كان يهيج إذا لم يأكل اللحم ، فإذا أكل شيئاً دسماً سكن.