مصر لم تتراجع عن الدعوى ضد إسرائيل في العدل الدولية    حملة لحذف منشورات "تمجيد المال" في الصين    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    زلزال في إثيوبيا.. انهيار سد النهضة سيكون بمثابة طوفان علي السودان    ماذا بعد انتخاب رئيس تشاد؟    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    500 عربة قتالية بجنودها علي مشارف الفاشر لدحر عصابات التمرد.. أكثر من 100 من المكونات القبلية والعشائرية تواثقت    مبعوث أمريكا إلى السودان: سنستخدم العقوبات بنظام " أسلوب في صندوق كبير"    قيادي بالمؤتمر الشعبي يعلّق على"اتّفاق جوبا" ويحذّر    (ابناء باب سويقة في أختبار أهلي القرن)    عصار الكمر تبدع في تكريم عصام الدحيش    عبد الفضيل الماظ (1924) ومحمد أحمد الريح في يوليو 1971: دايراك يوم لقا بدميك اتوشح    قصة أغرب من الخيال لجزائرية أخفت حملها عن زوجها عند الطلاق!    الهلال يتعادل مع النصر بضربة جزاء في الوقت بدل الضائع    كيف دشن الطوفان نظاماً عالمياً بديلاً؟    محمد الشناوي: علي معلول لم يعد تونسياً .. والأهلي لا يخشى جمهور الترجي    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



التجديد والمغايرة عند محمد محمد علي «1»
في الذكرى الأربعين
نشر في الصحافة يوم 18 - 10 - 2010

هناك بعض الشخصيات رغم عظمتها وقد يكون بسبب عظمتها يلازمها الاهمال والظلم والتجاهل المتعمد، من هذه الشخصيات الاستاذ محمد محمد علي «الشاعر كما اشتهر» ومن المفارقات انه توفي يوم 28 سبتمبر 1970 في نفس يوم وفاة الرئيس المصري جمال عبدالناصر، وكأنه اختار يوم الهول يوم وداع. ومن المعيب أن يهمل كتاب عنوانه «رواد الفكر السوداني» إعداد: محجوب عمر باشري، تزيد صفحاته عن الاربعمائة، اسم الاستاذ محمد محمد علي. ومازال الصمت المتآمر او الجاحد او اللا مبالي يواجه ذلك المبدع المتميز.
لم يكن الدافع الحقيقي الذي استوقفني في ذكرى الشاعر، مخالفة سلوك الجحود والاهمال. ولكن من أهم الأسباب التي تلح علينا وتطلب استعادة مواقف مثل ذلك الرجل هو انحسار الرموز القادرة على مواجهة الفكر التقليدي المحافظ الذي يستشري بصورة سرطانية قاتلة رغم كل لا عقلانيته وبؤسه. ومع هيمنة الفكر المحافظ والتقليدي وازدياد قدرته على ارهاب كل المجددين او الخارجين عن حظيرته، يصبح من الضروري تمجيد أية ومضة للتفكير العقلاني والعلمي في أي مجال من مجالات المعرفة. وليس في هذا أية مبالغة، فلقد فجعنا في السودان المتسامح بإعدام أحد المفكرين السودانيين لخلاف في الرأي. وهذا عار سيلازمنا لعقود قادمة، ويخرسنا دوما حين نتباهى بتسامح السودانيين. وكان في ذلك تدشين لعهد العصور المظلمة الذي مازال يخنق الفكر في بلادنا.
الأستاذ محمد محمد علي عقل ثاقب يفلق الشعر، ووجدان شفيف وحساسية مرهفة وذوق راق. ورغم شح كمية ما كتب، فهو كاتب مقل، الا ان خواطره وافكاره المتناثرة، التي نشرت، اضاءت وبعمق عدداً من الموضوعات الفكرية والأدبية الحيوية المرتبطة بالواقع وقضايا المجتمع المهمة. فقد كانت كتبه تجميعا لمقالاته التي نشرت في الصحف، عدا رسالته الجامعية عن الشعر السياسي. ويرجع البعض قلة منتوجه الى نمط حياته وقلقه. ويرى البعض في الاستاذ مثالا للا منتمي تلك الحقبة. ولكن في رأيّ أن مثل هذا اللاإنتماء الظاهري في ذلك الوقت والظرف ليس عيباً، فقد يكون محاولة لتجاوز تناقضات الحياة والفكر. فقد كان الأستاذ بذكائه وتوقد ذهنه وثقافته وسلوكه، سابقاً لعصره. ولذلك تنعدم امكانية تكيفه مع المألوف والمقبول والنمطي فيبحث عن وسائل التعايش السلمي الحياتي دون الخضوع لعقلية القطيع او الموت مع الجماعة كما تقول الحكمة الشعبية. ومن الملاحظ ان العديد من مثقفي وأذكياء الجيل السابق قد لجأ الى الفن «بالذات الشعر والأدب» او الخمر في محاولة لخلق عالم ذهني/خيالي موازٍ وأكثر جمالاً واتساقاً من عالم واقعي ناقص، وهنا مكمن الأزمة. فالأزمة هي فجوة بين الواقع والممكن. فكثيراً ما يكون الواقع متخلفاً وتعيساً ومحبطاً بينما تبدو امكانات الشخص أو الجماعة أكبر، ولكن بسبب عوامل ذاتية وموضوعية يغلب العجز في اطلاق القدرات الكامنة، وتتراجع الاستطاعة على أن يرفع الناس الواقع الى مستوى الحلم والممكن. ومع ذلك على المرء أن يعيش ويكافح الدهر والناس. وهنا يحاول المتميزون أن يملأوا شقوق الاحباط والتأزم لكي تتماسك الحياة. لا نتحدث هنا عن المنسحب او المنهزم، بل عن الذي يموت واقفاً وعينه الى السماء، يقارع نقائض وتناقضات الواقع. وقد زاد من أزمة مثقفي جيل الاستاذ فردية المعارك اما بسبب عدم وجود التنظيمات والتجمعات والمؤسسة او بسبب نفسية المبدع النافرة من الاحتواء والضبط وحشية تزمت وتحجر التنظيم او المؤسسة. فقد اتكأ الاستاذ او امثاله على نفسه فقط.وان كان كتاب الأخ النور حمد:مهارب المبدعين،يحتاج الى وقفة في فرصة قادمة.
منهج علم اجتماع الأدب
ضمن هذه الظروف جاء الاستاذ محمد محمد علي ،وهو في رأيي مشروع فيلسوف او مفكر مجدد. ولكن ظروف تطور السودان كجزء من الأمة العربية- الاسلامية في تلك الفترة - وما زالت - تجعل من الصعب ارتياد آفاق فكر متجدد يتمرد على اليقينيات والوثوقيات. ولذلك كان الشعر ايضاً ملاذ الكثيرين من الذين حاولوا التعبير عن افكار جديدة. ولكن الشعر قد يضيّع او يضعف قيمة وقوة الافكار لانه محكوم بشروط الشعر في اختيار الكلمات والقوافي والأوزان وقد يكون تجويد ذلك على حساب الفكرة ،والعكس ايضا فالشاعر المفكر أو الفيلسوف أقل شعرية. ومن ناحية أخرى ،في الشعر حماية لأنه يبدع ويفهم كنتاج عام خيالي مما يقلل احتمال صدام محتواه من الافكار مع الواقع. وقد كان الشعر والأدب عند جيل الاستاذ بالفعل «ذريعة للهروب من أجداب الحياة وفراغها ودمامتها»1. والأهم انه تقية للتعبير عن الافكار الجديدة والخطرة. فقد كان النقد والاحتجاج بالأدب هو الخط غير المستقيم للوصول الى نقد المجتمع، لأن رفض التقليد والجمود في الشعر هو معادل وفض هذه القيم في الحياة والمجتمع.
جذب انتباهي في كتابات الاستاذ محمد محمد علي عدد من الآراء المجددة منها على سبيل المثال: محاولات تأطير وتجذير الأدب داخل المجتمع فالابداع ليس منبعه وادي عبقر بل أودية وطرق الناس الحقيقيين». كما أثار اهتمامي تفكير الاستاذ العلمي والعقلاني في أغلب تحليلاته واصراره على رفض الافكار التقليدية والمحافظة، كذلك علمانيته بالذات في تحديد الوظائف المختلفة والمتباينة للأدب والدين. وهذا رأي جرئ وشجاع قال في ذلك الوقت،ويخشى الكثيرون ترديده في الوقت الحاضر، الا من خلال الرموز وكثير من التبريرات والتأويل. فهو لم يخضع لقدرة التقليديين والمحافظين والسلفيين، على تدجين وتخويف او احتواء المثقف السوداني لمنعه من اقتحام المجهول والجديد واجتياز المحرمات الفكرية. فقد كان المثقف - وحتى الآن - فارساً متردداً لا يستطيع الاقدام ولا يطيق الانهزام. فهو يبدأ المعارك ولكن يتنازل عن كل قضاياه مبكراً ،عند أول اختبار . فالشيخوخة الفكرية والعقلية السودانية تكتمل غالباً في مقتبل العمر ويتوب المثقف عن كل نزق وطيش الشباب ويهديه الله بعد عمر طويل أفناه في قضية جوهرية. ثم يتراجع ويتنازل ليسئ الى نفسه وإلى قضيته وهي كثيراً ما تكون نبيلة وتستحق كل ما ندم عليه ولكن قليل من يحمل قضيته حتى النهاية. الاستاذ محمد محمد علي هو من القلة النادرة فقد ظل في خندقه حتى اليوم الأخير من حياته.
من الممكن اعتبار الاستاذ محمد محمد علي من المساهمين الحقيقيين في علم اجتماع المعرفة او علم اجتماع الأدب بالتخصيص. قد لا يكون قد اطلع على نظريات في هذا الميدان العلمي ولكن ممارسة الكتابة بمنهج تلك النظريات يجعلنا - دون شطط وتعسف - ندرج الاستاذ ضمن هذا الميدان بالذات فيما يتعلق بالأدب السوداني. فهذا العلم يبحث عن الشروط او الأسس الاجتماعية للمعرفة أي ليس الشروط والأسس الذهنية او النفسية او الفردية...الخ للمعرفة ،والأدب ضمنهاً. فالعلم يهتم بالتطور الاقتصادي الاجتماعي لمجتمع ما وانعكاس ذلك على انتاج المعرفة أي ارتباط الحياة الفكرية في فترة تاريخية معينة بالاوضاع والقوى الاجتماعية والسياسات القائمة«2». ولأن اهتمام الاستاذ ينصب على جانب من المعرفة او الابداع هو الأدب فالمطلوب هو التحقق من مدى تطابق كتابات الاستاذ مع المفهوم السائد لعلم اجتماع الأدب كميدان يتقاطع كثيراً مع علم اجتماع المعرفة. وسيكون المصدر الأساسي هو كتاب «الشعر السوداني في المعارك السياسية 1821-1824» وهي في الأصل رسالة ماجستير حازت على تقدير امتياز من جامعة القاهرة الأم.
من البداية يوحي عنوان الكتاب بمنهج وتوجه الاستاذ محمد محمد علي فقداختار اسم «الشعر السوداني في المعارك السياسية» وكان من الممكن ان يكون العنوان «الشعر السياسي في السودان» او «الشعراء السياسيون في السودان» او «شعراء السياسة» او «الشعر الوطني» او «شعراء الوطنية في السودان»... الخ. فالاختيار ليس صدفة فكل تلك تعطي معنى ما للثبات واللاحركة ولكن «المعارك» كلمة تنبض بالحركة والتناقض والصراع. لم يغب هذا عن ذهن الاستاذ اذ يقول: «المعارك جمع معركة والمعركة موضع القتال او الخصام، وهي صيغة تصلح للزمان والحدث كما تصلح للمكان شأن المصدر الميمي، والمناسب هنا الحدث. فيكون المعنى الشعر السوداني في الاحداث السياسية وهذا المعنى ليس مجازياً لأن، المادة «ع ر ك» تشمل أنواع القتال باليد او اللسان او بالكيد والتدبير»«3». ويطبق نفس الطريقة على الجزء الثاني من العنوان حين يعرّف المقصود بالسياسة والسياسي بعد ان يذكر التعريف المتداول للشعر السياسي بانه فن من القول يتصل بنظام الدولة الداخلي او بنفوذها الخارجي ومكانتها بين الدول. يضيف الى ذلك: «أرى من الخير ان نزيد في تعريف الشعر السياسي في وقتنا الحاضر فنقول «وحركات الشعوب ونزعات الشعراء» لأن العالم قد تغيرت صورته منذ ان بسطت الدول المستعمرة نفوذها على آسيا وأفريقيا بل وامريكا في يوم من الايام ففقدت شعوب كثيرة دولها، واستكانت حيناً من الدهر، ثم هبت تصارع لنيل حريتها واستقلالها، فهذه الصورة لا تشبه ما يجري داخل الدولة من نزاع حزبي او وفاق «...» وبعض الشعراء قد تطور وعيهم السياسي وانقسمت آفاقهم وارتبطوا بمذاهب واتجاهات جعلهم لا يقفون عند نطاق الدولة يدرون معه في الداخل والخارج، وبالاختصار فقد أصبحت لهم رسالة تتناول العالم كله بالغناء للسلام والاشتراكية ومحاربة الاستعمار في ثوبه القديم والجديد، وان لم يكن بين ذويهم والأمم التي نزل بها هذا الشر صلة وارتباط»«4».
هذا التعريف في حد ذاته كاف لبيان الأسس الاجتماعية والتاريخية للأدب «الشعر هنا» فالكاتب يمسك بجلاء بالوظيفة السياسية للأدب ورسالة الأدب التي تتجاوز الفن من أجل الفن. لذلك لم يقل الكاتب ان اختياره للموضوع تم لأسباب جمالية فنية بحتة، فهو أراد ان يدرس «الشعر السوداني الذي يتصل بالسياسة من قرب او بعيد يؤثر فيها ويتأثر فيها»2. «لاحظ الجملة الأخيرة علاقة جدلية أي تأثير وتأثر بين الشعر والسياسة» لأسباب عدة منها:
«1» تقليل بعض السودانيين بالذات في حالة الضعف السياسي الداخلي من شأن الطريقة التي حصلنا بها على الاستقلال لذلك يتباكون على الانجليز. يرى في ذلك اهداراً للدماء الزكية التي اراقها السودانيون، ويقول: «فأردت ان أنفي هذا الزعم الباطل بدراسة يعانق فيها الشعر التاريخ الصحيح ويدعمه « نفس المصدر المذكور،ص3».
«2» وعي الكاتب للاشكال المختلفة للسياسة والتي هي فعل يومي ليس مجرد للانضواء للاحزاب والمناورات وعضوية الهيئات التمثيلية، فكثير من الباحثين الذين تناولوا هذا الموضوع لم يدركوا ابعاده فحصروه في الشعر السياسي المباشر، في حين ان الأمر ليس كذلك، فهناك اغراض كثيرة مظهرها اجتماعي ومخبرها سياسي». «س4».
«3» من رأي بعض الباحثين «يغمطوا شعراءنا الكبار حقهم ويجحد فضلهم ويحط من قيمة اشعارهم الفنية ويعزلهم عزلاً عن ظروف حياتهم وملابساتها، فاردت ان أرفع عنهم هذا الحيف وان أدفع عنهم هذا الظلم» «ص4».
يدخل الكثير من الباحثين في مأزق «الحياد العلمي» حين يتناولون قضاياهم الاجتماعية ببرود وخواء. والسؤال هل يتعارض الحياد العلمي مع الالتزام والفهم الجديد المنتمي؟ الاستاذ محمد محمد علي واضح وقاطع وحازم كطريقته دوماً:
«تحريت في الدراسة بقدر المستطاع ان أكون موضوعياً، أعطي كل ذي حق حقه وان خالف مذهبه مذهبي، ولكني لم استطع بحال من الأحوال ان أتوانى في كشف القناع عن وجه الاستعمار البريطاني، لا لكراهية للاستعمار وحدها، ولا لما ألحقه بنا من أذى وعنت وارهاق، بل لجلاء الحقيقة التي تعامى عنها بعض السياسيين وبعض المؤرخين وشرذمة ضئيلة من الشعراء، فنسبوا للاستعمار البريطاني في بلادنا فضلاً يستحق عليه الثناء!!» «ص5» ويضيف الباحث بعض التوضيح الذي يربط بدقة بين العلمية والالتزام: «ولم يمنعني حبي وتقديري لرجال كبار تغيرت مواقفهم تغيراً جوهرياً او تغيراً ما فيما بعد ان أسجل مواقفهم في هذه الفترة، ولم يمنعني تمسكي بالحيدة ان اهتز بمواقف الابطال من أمثال محمد احمد المهدي وعلي عبداللطيف وعبيد حاج الامين وعبدالفضيل الماظ ورفاقه، كنت على مذاهبهم او على غيره». «ص5».
يرى الباحث أن الشعر الأثير عند أهل السودان هو الشعر المتصل بالسياسة «وكانوا إلى عهد قريب لا يستمعون الى غيره من ألوان الشعر الا بشئ من التسامح وسعة الصدر، لأنهم يريدون منه أن يستجث عزائمهم، ويسجل أمجادهم، ويباهي بشهدائهم، ويتغنى بتاريخهم، ويلعن أعداءهم، ويدمغ الخونة بميسم لا يمحوه الدهر» «ص11-12» فالشعر عند السودانيين يجد قيمته وانتشاره والقبول حين يرتبط بالناس وهمومهم.
أما المحور الأساسي في كتابات الاستاذ الذي يؤكد الأسس الاجتماعية للأدب فهو التناول التاريخي واعتبار التاريخ هو الأرضيةالتي يرتكز عليها الأدب. لذلك احتل التاريخ جزءً كبيراً وهاماً من كتاب «الشعر السوداني في المعارك السياسية» وما يلفت النظر ليس فقط حجم التاريخ في الكتاب ولكن طريقة التفسير والفهم للتاريخ إذ يصحح كثيراً من التحليلات الخاطئة. بدأ الباحث بمدخل تاريخي شامل يمتد مما اسماه التجمع العربي في السودان أي دخول العرب السودان ثم يصف الباحث تحت عنوان «ملامح من سنار» البناء الاجتماعي-الاقتصادي للمجتمع السناري ويتطرق لمصادر الرزق «أي الانتاج» الرعي والزراعة والتجارة وثروة سنار والفقر والمجاعات والحروب ونفوذ المشائخ. ثم كيف اضعف ذلك قدرة الناس على العمل المثمر وبالذات الثقافة في هذا الموضع؟ «ص29» ويتوقف الباحث عند انتشار الخرافات والتفكير العلمي وغلبة التصوف ويقول: «في هذا الجو الغريب أصبح المنطق لا قيمة له فمرد كل شئ الى الغيب، وهؤلاء الأولياء هم مفاتيح الغيب، بل هم الذين يصنعون مصائر الناس في حضراتهم» «ص33» ويناقش آراء الدكتور محمد عوض حول انتشار الصوفية ويأخذ عليه انه لم يفسر أسباب غلبة التصوف في السودان بل فسر أسباب انتشار الطرق الصوفية «ص35 وما بعدها». وهذا اختلاف واضح في الطريقة والنتيجة الأول يفسر كيف؟ ولكن المهم لماذا انتشرت الصوفية؟ الأول وصفي والثاني تحليلي.
رغم ان استاذنا ليس مؤرخاَ، ولكنه يمتلك فهماً متقدماً للتاريخ. فالتاريخ ليس مجرد تراكم أحداث او وصف شخصيات وحروب وغزوات ونزاعات بل التاريخ هوالحركة الجماعية للناس في الزمان. ومن هذا المنظور يتخذه اطاراً لفهم الثقافة والافكار من خلال وعي النسبية بمعنى ان الفكر او الابداع يجب ان يفهم ضمن ظروفه ولا يحكم عليه بمعايير حقب تاريخية أخرى - فلكل فكر او ثقافة سياق تاريخي - اجتماعي محدد. نجد التأكيد على النسبية التاريخية - الاجتماعية في مواضع كثيرة من كتابات الباحث وهذا موقف عميق مقارنة بالفهم اللاتاريخي «ahistorical) للافكار الذي يراها مطلقة خارجة عن الزمان والمكان ويظن أصحاب هذا النهج ان نتائجهم وأدوات تحليلهم صالحة مطلقاً لكل زمان ومكان ولا تخضع لتقلبات الزمن وتغيرات الحياة. وهذه بعض الأمثلة من كتابات الاستاذ محمد محمد علي التي تصر على نسبية الوقائع. ففي تعرضه لحروب المهدية لم يدن هذه الحروب، اذ يقول : «فالمهدية لا تخضع لافكار عصرنا، فهي لا تهادن الا من اعتنق الاسلام وانخرط في سلكها، وبهذا الفهم وحده نستطيع ان نفسر أسباب هذه الحرب واعراض الخليفة عن طلب الصلح والتعاون الذي تقدم به امبراطور الحبشة واحراق الكنائس الذي كتب به حمدان الى الخليفة وكأنه عمل جليل» «المصدر السابق، ص217». وهو هنا يعتمد على النسبية مرتين. أولاً: اختلاف العصر، ثانياً: محاكمة المهدية حسب منطقها الداخلي في النظر للأمور.
أما النسبية الاجتماعية فيعبر عنها في رده على الدكتور محمد النويهي في مقالة بعنوان «حول الفضيلة في البداوة والحضارة» فقد توصل الدكتور النويهي في معرض دفاعه عن الاخلاق في المجتمع المتحضر الى ان للمدينة فضائل لا توجد لدى البدو، وأنه ليست هناك صلة بين حياة أهل البادية والتمسك بالفضيلة الجنسية وكاد يقول بوجود فوضى جنسية عند كثير من العشائر البدائية. ورغم تقدير الاستاذ محمد محمد علي للهدف النبيل للمقالة وهو الرد على المتشككين في قيم المدينة الخلقية الا انه انتقد طريقة الوصول الى هذا الاستنتاج، اذ يقول: «والخطأ في هذا البرهان ان الدكتور أراد ان يجعل من نظام العلاقات الجنسية عند الأمم المتحضرة مقياساً للفضيلة، غاضاً النظر عن النظم الاجتماعية الأخرى التي عرفها العالم في أطوارها المختلفة، والتي ما تزال لها رواسب في القبائل البدائية. فلم يستطع التطور ان يقضي عليها، لأن ظروف هذه القبائل قد نأت بها عن التيارات الحضارية الكبرى، فاحتفظت بطائفة كبيرة من تقاليدها ونظمها القديمة. والدكتور يعلم ان نظم العلاقة بين الرجل والمرأة قد أخذت اشكالاً متعددة في المجتمعات الانسانية، وما نظامنا الخاص الا واحد من عشرات النظم» «5» هذا نص يفسده الشرح او التعليق.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.