وسط موجة من التوجسات والإرهاصات المحيطة والمشفقة على مستقبل السودان (يكون أولا يكون ) بحدوده المعروفة منذ استقلاله في العام 1956 الذي جرت مياه كثيرة حالمة في مجراها كثير من التقلبات والمد والجزر والتأرجح بين السلم والحرب حتى وصل الأمر في نهاية المطاف في العام 2005 للإتفاق على منح أهل الجنوب الحق في تقرير مصيرهم عبر استفتاء حر ونزيه للاختيار بين مضيهم في معية السودان بشكله الحالي أو الانفصال عنه بتكوين دولة جديدة بالجنوب في التاسع من يناير 2011 حسب ما نصت عليه إتفاقية السلام الشامل، ولعل أكبر الهواجس التي ظلت تؤرق مضاجع الجميع الإفرازات الاقتصادية للاستفتاء لا سيما إذا ما أفضى إلى انفصال الجنوب عن الشمال علاوة على سائر التبعات الأخرى في شتى الجوانب ففي ظل هذا الوضع المشوب بالحذر أعلن وزير المالية والاقتصاد الوطني موازنة العام 2011 حيث أوضح أنها مصممة لوطن واحد بناء على الدستور وإتفاقية السلام التي تدعو للوحدة إلى أن يحين موعد أجل الاستفتاء وأشار محمود إلى ترتيب وزارته ووضعها لكل الاحتياطات اللازمة حال انفصال الجنوب حيث تم عرض الموازنة على مجلس الوزراء وأجازها ومن ثم تم إيداعها منضدة البرلمان توطئة لإجازتها وتلا محمود خطابا موجزا عن أبرز سمات الموازنة التي على رأسها اتباع سياسة تقشف حكومي بتقليص الإنفاق الحكومي وتشجيع الإنتاج والإنتاجية والبعد عن فرض أية ضرائب جديدة والعمل على تخفيض تكلفة المعيشة وتشجيع الاستثمار الداخلي والخارجي وتحسين سعر صرف الجنيه السوداني في مقابل العملات الأخرى وزيادة الصادرات غير البترولية لتحقيق معدل نمو 5% في الناتج الإجمالي المحلي ورفع مساهمة القطاع الزراعي فيه بنسبة 33% والمحافظة على مساهمة الصناعي في حدود 24% وقطاع الخدمات 43% والمحافظة على معدل التضخم في حدود متوسط 12% وتحقيق 17% في عرض النقود وتحقيق التوازن بين الإنفاق الجاري والإيرادات بنسبة صفرية لإزالة عجز الموازنة والوصول بالعجز الكلي فيها إلى 3% من الناتج المحلي الإجمالي وحصر الاستدانة من النظام المصرفي في حدود 0.8% والوصول بالصادرات إلى 7457 مليون دولار والواردات إلى 8979 مليون دولار ليكون معدل دخل الفرد الاسمي ما يعادل 1678 دولار . وقال محمود إن حجم الإيرادات والمصروفات المتوقع بالموازنة رغم الظروف الاستثنائية داخليا وخارجيا 24275 مليون جنيه بمعدل نمو 2.5% للإيرادات وانخفاض المصروفات بنسبة 3% وأن يكون الصرف على التنمية في حدود 6141 مليون جنيه وتمويل العجز في الموازنة الكلية بنسبة 73% من الإيرادات الذاتية حيث ما زالت تداعيات وإفرازات الأزمة المالية العالمية ماثلة بجانب التحولات الدستورية والاقتصادية والأمنية الراهنة والمتوقعة خلال العام المقبل عقب الاستفتاء وما يفضي إليه من أوضاع جديدة بغض النظر عن نتيجته ولفت محمود إلى تقدم أداء الاقتصاد في الفترة السابقة رغم التحديات التي اعترضته حيث ارتفعت الإيرادات العامة بنسبة 471% والإنفاق العام بنسبة 665% والإنفاق على التنمية بنسبة 860% في الفترة (2000-2009) بجانب التحول الكبير على صعيد قسمة الثروة حيث انخفض انخفض نصيب الحكومة الاتحادية من الموارد بنسبة 65% في 2005 إلى 52% ونالت الولايات الجنوبية والشمالية 48% وانخفض عجز الموازنة إلى 1,3% من الناتج المحلي خلال الفترة المذكورة علاوة على زيادة الصادرات وتدفق الاستثمارات الخارجية وتعهد الوزير بالتصدي للاختلال الاقتصادي داخليا بتقليص الإنفاق الحكومي وترشيده ببرامج التنمية والسلام والأوضاع الإنسانية بجانب معالجة تراجع الجهد المالي والضريبي بنسبة 45% بعد دخول الإيرادات البترولية وإلغاء الضررائب على الزراعة والاستثمار علاوة على قلة العائد المادي من الهئيات والشركات الحكومية وحاجتها إلى لمزيد من الضبط الإداري والرقابة المالية والابتعاد عن الاعتماد على القروض الخارجية قصيرة الأجل والضمانات والصكوك والبحث عن قروض ميسرة طويلة الأجل . وعلى الصعيد الخارجي التزم محمود بزيادة الصادرات غير البترولية والوصول للاكتفاء الذاتي من السلع الأساية والنأي عن اعتماد النفط موردا أساسيا للنقد الأجنبي وتحجيم السوق الموازي . وتوقع أن يصل حجم معدل النمو في الناتج المحلي الإجمالي خلال العام 2010 في المتوسط 5% بنسبة 83% من المستهدف 6% وانخفاض فائض الميزان التجاري بدرجة كبيرة جراء انخفاض عائدات الصادرات البترولية وأن متوسط معدل التضخم 14% والأداء التقديري الفعلي لإجمالي افيرادات والمنح 18864 مليون جنيه بنسبة أداء 80% بينما بلغت نسبة أداء الغيرادات غير البترولية 88% وساهمت بنسبة 52% في إجمالي الأداء الفعلي بينم حققت الإيرادات البترولية نسبة أداء 76% بمساهمة بلغت 43% في إجمالي الأداء الفعلي فيما بلغت نسبة الإنفاق العام في أداء الموازنة 93% من اعتمادات 2010 بجانب سداد كافة التزامات الأجور والمرتبات والمزايا التأمينية لصناديق الضمان الاجتماعي بنسبة 100% بجانب الوفاء ب98% من مصروفات الوزارات والوحدات الحكومية إضافة الإنفاق على التنمية بنسبة 58% من جملة المبلغ المستهدف وتوقع محمود أن يلبغ حجم السحب القروض والمنح الخارجية بنهاية 2010 حوالي 1358 مليون دولار في وقت بلغ فيه حجم سدادها 38% وأقر بأن مشكلة قروض السودان ما زالت تراوح مكانها دون إحراز أي تقدم يذكر بالرغم من تحسن مؤشرات الدين الخارجي واستيفاء السودان للشروط التي تخول له الحصول على الإعفاءات العالمية . وقال محمود موازنة العام القادم محاطة بجملة تحديات مثل ترجيح خيار الوحدة الوطنية والمحافظة على الاستقرار والتوازن الاقتصادي والنمو المستدام وتنامي الدين الخارجي و الضغط على الإنفاق العام للمحافظة على الأوضاع الأمنية وتأمين احتياجات البلاد من السلع الاستراتيجية ببناء مخزون استراتيجي وتعهد محمود بتوسيع المظلة الضريبية ومنع تجنيب الإيرادات وتوريد المتحصل من الإيرادات للخزانة العامة . غير أن رئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان بابكر محمد توم أوضح في تصريحات صحفية عقب إيداع الموازنة منضدة المجلس الوطني أن الموازنة تحتاج لكثير من التفصيل وتوضيح الآليات لتحقيق الغايات المستهدفة مثل هدف الوصول بإنتاجية القمح إلى ما يعادل 40% من استهلاك البلاد حيث إن البلاد لا تنتج سوى 16% من استهلاكها فأشار بابكر إلى مجرد تحديد سعر لشراء القمح من المزارعين لا يكفي لتحقيق الإنتاج المنشود وإنما كان ينبغي للموازنة أن تركز على توضيح الآليات التي تمكن من الوصول للنسبة المستهدفة من الإنتاج علاوة على وجوب تركيزها على تقوية مركز المخزون الاستراتيجي لكل السلع وأن يكون المخزون الاستراتيجي الضابط لإيقاع الأسعار والإنتاج ووصف الموازنة باهتمامها بالأطر التجميلية وأنه لا يوجد بها سياسات مشجعة على الإنتاج وأنها تستهدف الوصول بمعدل التضخم إلى 12% في المتوسط ووصف المعدل بالكبير وكان ينبغي أن تستهدف الوصول بمعدل التضخم إلى رقم آحادي . فيما قال الوزير الأسبق الزبير محمد الحسن إن ماجاء بالموازنة في إطار العموم يعتبر مؤشرا جيدا لتنفيذ موازنة غير أن ثمة ما يعترض طريق تنفيذ كثير من بنودها مثل التحكم في سعر الصرف ورفع الدعم عن الوقود رغم صحة الاتجاه فيه لأسباب سياسية. وعلى صعيد الخبراء يقول البروفيسور عصام بوب عن ما جاء في بنود الموازنة من مؤشرات وبيانات يعتبر جيدا غير أن العبرة بالتنفيذ لا سيما على صعيد التقشف الحكومي وإنزاله إلى أرض الواقع حيث إن الموازنة بنيت على التقشف في الصرف الحكومي الذي كان يشكل بعبعا وخطرا عظيما على إيرادات الموازنات السابقة وإن نجحت المالية في تنفيذ سياستها التي أعلنتها فإنها حتما ستوفر للخزانة العامة مبالغ كبيرة كانت تصرف بواسطة الحكومة دون أن يكون لها اثر يذكر في دفع عجلة الإنتاج وتحقيق غايات البلاد والعباد. ودعا بوب بأن تبدأ المالية بإعمال سياسة التقشف التي تبنتها بقمة الهرم الحكومي بتقليص الهياكل والأجسام الحكومية بحيث تكون الحكومة صغيرة العدد عاجلة التنفيذ بجانب تقليص المناصب الدستورية والإنفاق عليها وتخوف بوب من أن تكون الدعوة مجرد شعارات لا تجد طريقها للتنفيذ والنزول بها إلى أرض الواقع وأن يستمر الصرف من بنود الموازنة بنفس النمط في السابق وأن يكون تقليل الإنفاق غير واضح فتضطر الدولة لفرض ضرائب جديدة رغم أنفها مما يزيد العبء على عاتق المواطن ،وقال لابد من البدء بإعادة هيكلة الجهاز التنفيذي بصورة حقيقية بعيدا عن سياسة تدوير المناصب بين أهل الحظوة وأضاف إن تنفيذ أية موازنة على أرض الواقع لا يتم إلا بالجهاز التنفيذي وأن أساس تنفيذ الأرقام والالتزام بها هو المتابعة لأجل هذا يرى بوب أن يكون المبدأ الأساسي لتنفيذ ومتابعة بنود الموازنة مركزيتها وغير بعيد إفادات بوب يقول المحاضر بجامعة السودان للعلوم والتكنولوجيا الدكتور عبد العظيم المهل إن أهم ما يلفت النظر إلى ماجاء في الموازنة تصميمها على أساس السودان الموحد في وقت تشير فيه كل الدلائل والإرهاصات إلى انفصال الجنوب ويرى المهل أنه لم يكن هناك داع لإعلان الموازنة العامة وفي هذا التوقيت وأن تؤخر وزارة المالية إعلانها إلى ما بعد التاسع من يناير القادم أي تأخيرها لمدة أسبوعين بعد بداية العام 2011 حتى لا تجد نفسها مضطرة لإعادتها أو تعديلها بعد إعلان نتيجة الاستفتاء وقال لابد من وجود سياسة قوية لترشيد الإنفاق الحكومي لا سيما على صعيد الوزارات السيادية حيث تعود الناس على تخفيض الإنفاق في الوزارات الخدمية ( صحة وتعليم ) وإطلاق المقود للوزارات ذات الطابع السيادي وقال يجب أن يطال خفض الإنفاق مؤسسة الرئاسة والدستوريين وحكومات الولايات ومجالسها التشريعية شريطة ألا يمس التخفيض الصرف على مشاريع التنمية وتلك التي توفر فرص العمل للطاقات العاطلة وقال لامانع في تعطيل وتجميد كثير من البنود بعد فحصها بصورة دقيقة ( السفر الخارجي - الكرنفالات - الاحتفالات - المعارض ) وأن يتم التركيز على الصرف الإنتاجي وعن الإيرادات يقول المهل لابد من تفعيل وتسريع وتيرة العمل في دفع عجلة إنتاج حقول النفط بالشمال لتغطية النقص في الإيرادات الذي ينجم عن انسحاب عائدات نفط الجنوب حال انفصاله وأضاف لابد من التركيز على استخراج مفط الشمال لأنه لابديل للنفط غير النفط وطفق معددا ما يعضد وجهة نظره هذه لجهة أن النفط يمثل 95% من صادرات البلاد وأن عائدات النفط تأتي عبر القنوات الشرعية والرسمية بالعملات الحرة فتكون تحت سيطرة البنك المركزي الأمر الذي يسهل عليه أمر إعمال سياسته النقدية بعيدا عن التهرب المباشر وغير المباشر الذي تمارسه القطاعات الأخرى غير النفط حيث إنها تتبع في الغالب الأعم للقطاع الخاص الذي لا يملك كائناً في إجباره بالإتيان بعائداته من مباع صادراته عملة حرة بل يتفنن في إدخالها في شكل خدمات وسلع غير ضرورية ،الأمر الذي يقلل من أهميتها في دفع عجلة الإنتاج والإنتاجية بالبلاد علاوة على أن عائدات النفط تتميز بانخفاض التكلفة مما يسهل عملية استغلالها في المشاريع التنموية المختلفة وطالب المهل بالتوسع في التعدين الأهلي وليس العشوائي عن الذهب بالإضافة لخفض الواردات دون التأثير على حركة الاقتصاد مع طرح المزيد من المحفزات والمشجعات للمستثمرين الأجانب بجانب تفعيل وتنشيط حركة السياحة بالبلاد المرتبطة بالطليعة عن طريق التوسع في إنشاء المحميات الطبيعية التي لها روادها من سائر دول العالم .