مصر تدين العملية العسكرية في رفح وتعتبرها تهديدا خطيرا    إيلون ماسك: لا نبغي تعليم الذكاء الاصطناعي الكذب    كل ما تريد معرفته عن أول اتفاقية سلام بين العرب وإسرائيل.. كامب ديفيد    دبابيس ودالشريف    نحن قبيل شن قلنا ماقلنا الطير بياكلنا!!؟؟    شاهد بالفيديو.. الفنانة نانسي عجاج تشعل حفل غنائي حاشد بالإمارات حضره جمهور غفير من السودانيين    شاهد بالفيديو.. سوداني يفاجئ زوجته في يوم عيد ميلادها بهدية "رومانسية" داخل محل سوداني بالقاهرة وساخرون: (تاني ما نسمع زول يقول أب جيقة ما رومانسي)    شاهد بالصور.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبهر متابعيها بإطلالة ساحرة و"اللوايشة" يتغزلون: (ملكة جمال الكوكب)    شاهد بالصورة والفيديو.. تفاعلت مع أغنيات أميرة الطرب.. حسناء سودانية تخطف الأضواء خلال حفل الفنانة نانسي عجاج بالإمارات والجمهور يتغزل: (انتي نازحة من السودان ولا جاية من الجنة)    البرهان يشارك في القمة العربية العادية التي تستضيفها البحرين    رسميا.. حماس توافق على مقترح مصر وقطر لوقف إطلاق النار    الخارجية السودانية ترفض ما ورد في الوسائط الاجتماعية من إساءات بالغة للقيادة السعودية    قرار من "فيفا" يُشعل نهائي الأهلي والترجي| مفاجأة تحدث لأول مرة.. تفاصيل    الدعم السريع يقتل 4 مواطنين في حوادث متفرقة بالحصاحيصا    الرئيس التركي يستقبل رئيس مجلس السيادة    زيادة كبيرة في أسعار الغاز بالخرطوم    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    الأحمر يتدرب بجدية وابراهومة يركز على التهديف    كاميرا على رأس حكم إنكليزي بالبريميرليغ    الكتلة الديمقراطية تقبل عضوية تنظيمات جديدة    ردًا على "تهديدات" غربية لموسكو.. بوتين يأمر بإجراء مناورات نووية    لحظة فارقة    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    كشفها مسؤول..حكومة السودان مستعدة لتوقيع الوثيقة    يحوم كالفراشة ويلدغ كالنحلة.. هل يقتل أنشيلوتي بايرن بسلاحه المعتاد؟    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    وزير الداخلية المكلف يقف ميدانياً على إنجازات دائرة مكافحة التهريب بعطبرة بضبطها أسلحة وأدوية ومواد غذائية متنوعة ومخلفات تعدين    صلاح العائد يقود ليفربول إلى فوز عريض على توتنهام    (لا تُلوّح للمسافر .. المسافر راح)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الأحد    سعر الدولار مقابل الجنيه السوداني في بنك الخرطوم ليوم الأحد    برشلونة ينهار أمام جيرونا.. ويهدي الليجا لريال مدريد    الجنرال كباشي فرس رهان أم فريسة للكيزان؟    الأمعاء ب2.5 مليون جنيه والرئة ب3″.. تفاصيل اعترافات المتهم بقتل طفل شبرا بمصر    دراسة تكشف ما كان يأكله المغاربة قبل 15 ألف عام    نانسي فكرت في المكسب المادي وإختارت تحقق أرباحها ولا يهمها الشعب السوداني    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    شاهد.. حسناء السوشيال ميديا أمنية شهلي تنشر صورة حديثة تعلن بها تفويضها للجيش في إدارة شؤون البلاد: (سوف أسخر كل طاقتي وإمكانياتي وكل ما أملك في خدمة القوات المسلحة)    الأمن يُداهم أوكار تجار المخدرات في العصافرة بالإسكندرية    العقاد والمسيح والحب    الموارد المعدنية وحكومة سنار تبحثان استخراج المعادن بالولاية    بعد فضيحة وفيات لقاح أسترازينيكا الصادمة..الصحة المصرية تدخل على الخط بتصريحات رسمية    راشد عبد الرحيم: يا عابد الحرمين    تعلية خزان الرصيرص 2013م وإسقاط الإنقاذ 2019م وإخلاء وتهجير شعب الجزيرة 2024م    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أمس حبيت راسك!    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    الملك سلمان يغادر المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



من اوراق الراحل الاستاذ أحمد عبد الحليم
مستقبل السودان السياسي.. «رأي ورؤية» «2-2»
نشر في الصحافة يوم 30 - 10 - 2010

قد يرى البعض ان الحديث عن مستقبل السودان السياسي أمر يقترب من الرجم بالغيب، لما يحيط بأوضاع السودان من تعقيدات مركبة تعمل فيها تناقضات الداخل، وتدخلات الخارج بنوازعها المختلفات، وما نتج عن ذلك كله من اوضاع تشبه تلال الرمال المتحركة. نعم، وقد يكون الامر اعقد من ذلك. ولكن ليس أمام من يكون مسكوناً بهموم الوطن، ويتلقى دعوة من دورية علمية وقورة للكتابة ضمن ملف تخص به السودان إلا الاستجابة.
مسالك العجب:
من المحيرات متواترة الورود في السياسة السودانية وتردفها مجانبة الفعل للقول ومظنة ان القول يسد مسد العمل. وكأن بعض الناس يصدر القول زينة وتزيينا، ويأتي ما يشاء من افعال. ولعل مما يصدق في تصوير هذه الحالة ما ينتج عن مضاهاة الاطروحات السياسية للحكومة والمعارضة من اتفاق يكاد يكون كاملا حول القضايا الاساسية المتصلة بالهوية، والشرعية، واحترام التنوع والسلام والديموقراطية القائمة على التعددية، والتداول السلمي للسلطة، والتنمية والمشاركة العادلة في السلطة، والاقتسام المنصف للثروة. كل هذا وارد في الدستور، وفي قرارات مؤتمر القضايا المصيرية الذي عقدته المعارضة بأسمرا، وفي اتفاقيات الخرطوم للسلام وفشودة، وجبال النوبة، وفي الحديث المتواتر والصادر عن الحكومة والمعارضة وعن بعض المثقفين والسياسيين المستقلين. وهنالك ايضا ما تجسد من اتفاق بين كل القوى حول اهمية جعل المواطنة المتساوية المعيار الوحيد للحقوق والواجبات الدستورية، والاعتصام العملي بمساواة كل المواطنين امام القانون، اذا كان كل هذا الاتفاق واردا، فما الذي يحول دون جلوس كل القوى السياسية حول مائدة الحوار والوفاق؟ الغائب هو توافر الارادة السياسية لدى بعض اطراف المعارضة للجلوس حول تلك المائدة. ومرد ذلك عندي عائد إما الى غلو في الفجور في الخصومة او عدم الرغبة الحقيقية في الوفاق، لأن مآلاته النهائية بيد القوى السياسية الكبرى، او خشية الديموقراطية لأنها تقرر في عاقبة الامر وعبر صناديق الاقتراع الاوزان الحقيقية للقوى السياسية المختلفة، فتبطل المزاعم وتتلاشى الادعاءات.
ان منع توافق آراء القوى السياسية في السودان هو ادراك حقيقة ان السودان بلد متنوع الاعراق والعقائد والثقافات. وان حسن ادارة هذا التنوع العظيم الذي حبا الله به السودان، يجعله عنصرا غنيا وركيزة تقدم. والزيغ عن ذلك والاهمال فيه يورث النزعات ويغذي الشقاق، فيتبدد الاستقرار وتزهق الارواح وتضيع فرص التقدم. واعتقد ان هذه الحقيقة قد استقرت في الفكر السياسي السوداني الذي ادرك ان السلامة والنجاة تقومان على ادراك هذا التنوع حقيقة، والتعامل معه واقعا، ورعايته احتراما وتمكينا له من التعبير عن ذاته رضاءً ييسر تكامله في كل وطني منسجم. ولقد ظهرت مؤشرات هذا الادراك في مداولات مؤتمر المائدة المستديرة، ومداولات لجنة الاثنى عشر التي انبثقت عنه عام 1965م، ووجدت تعبيرا اوفى عنه في اعلان التاسع من يونيو عام 1969م، وكان السعي الى ترجمة احترامه واقعا معاشا في اتفاقية اديس ابابا عام 1972م، وفي قانون الحكم الاقليمي عام 1981م، وقانون الحكم الاتحادي عام 1994م، وما تلى ذلك من ادبيات الحكومة والمعارضة حتى كاد هذا الامر يكون من ضمن محفوظات تلميذات وتلاميذ مدارس الاساس. بل اكاد اجزم ان ايا من هؤلاء التلميذات والتلاميذ يكاد يردد مقولات الحكومة والمعارضة في شأن التنوع واحترامه، وهي غير مختلفة وروقها بأهمية الحرص على الانتقال الى الديمقراطية الكاملة على اساس رعاية الحريات الاساسية وحقوق الانسان والاقتسام العادل للثروة والسلطة في اجابته اذا ما سئل عما يراه طريق خلاص للسودان من ازمته الحالية التي تشابكت فيها العوامل الداخلية والخارجية وتفاعلت.
والامر الثاني الذي وقع الاتفاق عليه خاصة بين اهل البصيرة من المثقفين والمفكرين والناشطين السياسيين، هو اهمية احلال السلام العادل والوفاق الوطني، واقامة نظام اجتماعي اقتصادي يشيع العدل ويوسع فرص الحياة والمشاركة في صنع واقع جديد للمجتمع السوداني قادر على احداث التقدم والارتقاء بنوعية حياة المواطنين بكل فئاتهم وفي كل جهات الوطن وربوعه. وهكذا صار السلام والوفاق والديمقراطية والتنمية البنود الاساسية في الاجندة الوطنية. وان كل انصراف عن تحقيق هذه الغايات النبيلة أو سعي لعرقلة سبيل الجلوس للاتفاق على المبادئ والمناهج والوسائل التي تحققها يصب في مسالك التعويض - التعطيل والرغبة الارادية وغير الارادية لمواصلة الحرب والعمل على تفتيت الوطن.
ومن بين كل هذه القضايا تبرز مسألة السلام بحسبانها القضية السياسية والاجتماعية الاولى للوطن، وتحقيق السلام العادل هو صمام أمان الحفاظ على وحدة الوطن وليس غريبا وقضية الوحدة هي القضية المركزية لكل سعي مخلص لتحقيق حل سياسي شامل ان تجهر كل الاصوات بحرصها على هذه الوحدة حقا او اصطناعا. والذي دفعني الى اضافة مصطلح «اصطناعا» هو ما ظل يظهره البعض خاصة الحركة الشعبية لتحرير السودان من سعي متصل لتجاوز الوفاق حول القضايا الخلافية الى الحديث عن حق تقرير المصير، واني لاعتبر الحديث عن حق تقرير المصير قبل استنفاد فرص السعي المخلص للاتفاق على حل سلمي عادل ترديا للخلف. ومسألة تقرير المصير هذه من الامور التي خالطها شغب فكري من الصفوة السودانية.
ان السودان قد قرر مصيره عام 1956م، بمقياس المفهوم التاريخي لحق تقرير المصير، ذلك ان ذكر مبدأ تقرير المصير قد ورد في قرارات الامم المتحدة مقترنا بجعله وسيلة لتحقيق الاستقلال عندما كانت تلك المنظمة الدولية منشغلة بتصفية الاستعمار. وجاء ذلك خاصة في قرار الجمعية العامة للامم المتحدة رقم 1514 لسنة 1960م، ولم يكن عنوان ذلك القرار حق تقرير المصير، وانما كان عنوانه في منح الشعوب والدول المستمرة الاستقلال. وذكر حق تقرير المصير في الفقرات العاملة لذلك القرار كآلية لتحقيق الاستقلال عن الاستعمار وليس باعتباره حقا لتفلت الجزء عن الكل. وكل حديث عن حق تقرير المصير يشكل تعاملا ايجابيا مع مدلول هذا المصطلح وتحويرا لدلالته وخروجا به من سياقه التاريخي، وجدير بنا ان نتذكر دائما، نحن الافارقة، ان الآباء المؤسسين لمنظمة الوحدة الافريقية قد شاءت حكمتهم ان يقرروا مبدأ الحفاظ على حدود الدول بالصورة التي ورثت بها من الاستعمار. ومن هم هؤلاء الآباء والمؤسسون؟ ان من بينهم الازهري والمحجوب وجمال عبد الناصر وكوامي نكروما وهيلاسلاسي وسيكتورى ومحمد نحاس. وهؤلاء هم ابطال التحرر الوطني الذين قادوا نضال شعوبهم في وجه الاستعمار ونازلوه فصرعوه، وانتزعوا من بين براثينه استقلال اوطانهم. ولا يمكن لهؤلاء وامثالهم ان ينادوا بالحفاظ على الحدود الموروثة من الاستعمار اجلالا واحتراما لهذا الاستعمار الذي صارعوه، وانما صدر ذلك عنهم ادراكا لهشاشة بنية الدول الافريقية حديثة الاستقلال، بفعل السياسات الاستعمارية التي سعت لتفرقة صفوف كل شعب مُني باستعمارهم للحيلولة دون وحدته في وجههم. ان هؤلاء القادة العظام قد ادركوا ان السماح لأي جزء في اية دولة بالانفصال قد يغري اجزاءً اخرى داخلها بسلوك ذات السبيل، اما اذا تسرب اثر ذلك وشاع في القارة فإن كل دولها ستتفكك الى مكوناتها القبلية والجهوية والثقافية والعقيدية المتعددة. ان واقع العديد من الدول الإفريقية، ان لم نقل كلها، ومن بينها السودان، يزخر بالتنوع الذي يستدعي الموازنة والتكامل بين دواعي احترام التنوع وتمكين كل ضروبه من التعبير عن ذاتها الى اقصى مدى ممكن، وبين ممسكات الوحدة الوطنية بما يضمن تشكل وتكون الدولة القومية داخل كل بلد افريقي - وان يأتي من بعد تعاونها او تكاملها او اتحادها على اساس ارادات وطنية جامعة.
ان بعض مزوري التاريخ والراغبين في تفتيت بعض الدول، يسوقون امثلة خاطئة لحالات تمت فيها ممارسة حق تقرير المصير، ومن تلك الامثلة التي يسوقونها حالة ارتيريا وجمهوريات يوغوسلافيا والجمهوريات الآسيوية التي كانت منضوية في اطار الاتحاد السوفيتي.. إن كل هذه الحالات هي لدول لم تكن اجزاءً اصيلة في الدول التي خرجت منها، وما كانت ارتيريا جزءا من ارض الحبشة ولا كرواتيا جزءا من صربيا، وما كانت جمهوريات الاتحاد السوفيتي الآسيوية جزءا اصيلا في روسيا، ان الذين يسوقون هذه الامثلة الخاطئة ينسون حالات حاولت فيها بعض اجزاء الدول الافريقية الخروج من دولها، وقوبلت بالرفض الوطني والافريقي، بل قوبلت بالرفض الى ان فاءت الى رشدها كالتي في بيافرا وكتانجا.
ان كل الوثائق التي جاء فيها ذكر لحق تقرير المصير قد اوردته على استحياء وجعلت الوحدة مقدمة عليه، فإعلان مبادئ الايقاد مثلا قد ألزم كل الاطراف بمنح الاولوية للوحدة، وقرر ان الحرب لا تشكل حلا لقضية الجنوب، وحدد عددا من المبادئ والقضايا الخلافية لتكون مكان التفاوض وتتصدر الاتفاق، وان يأتي حق تقرير المصير مفزعا أخيرا اذا فشلت مساعي الاتفاق. ان ما جاء في اعلان المبادئ، يلزم الحادبين حقا على مصالح الشعب السوداني ان يجهدوا النفس، ويتحلوا بالمرونة، وأن يقدموا من التنازلات، بل ربما التضحيات لتحقيق اتفاق عادل يصون وحدة الوطن، فلماذا تسعى الحركة وبعض مشايعيها من شركاء الايجاد الى الهرب من مسؤولية بذل هذه الجهود المستحقة الى المناداة بتطبيق فوري لحق تقرير المصير..؟! ان واجب كل وطني مخلص هو المثابرة على طرق كل ابواب الاتفاق واقامة الحل الديمقراطي التفاوضي العادل لتفادي حق تقرير المصير على اساس من الاقتناع والرضاء المنصف.
اما مقررات مؤتمر القضايا المصيرية فإنه يجعل الاسبقية للوحدة، وان نادى بأن تكون طوعية اي بمعنى ان تقوم على الرضاء. ويدعو البند السادس من الباب المخصص للفترة الانتقالية في اتفاقية الخرطوم الى وضع خطة سياسية اعلامية تعزز السلام والوحدة. ان كان كل الذين صاغوا هذه الوثائق صادقين حقا في ما اولوه الوحدة من مكانة ومقام، فلماذا يسارع بعضهم الى الحديث عن حق تقرير المصير وتطبيقه؟ ان الفرص التي يتيحها الاتفاق الذي تبدى في اطروحات الحكومة والمعارضة والمبادرة المصرية الليبية المشتركة والصورة التي جاء بها الحديث في اعلان مبادئ الايقاد، تفرض على كل القوى السياسية السودانية أن تنكب مخلصة على صياغة حل عادل لمشكة الحرب، وحل سياسي شامل لكل قضايا الوطن، عوضاً عن التلكؤ واقامة العراقيل في سبيل الملتقى الشامل للوفاق الوطني الذي جاءت به المبادرة المصرية الليبية المشتركة التي تجعل التنسيق بينها ومبادرة الايقاد جزءا اصيلا منها. ولعل من بارقات الأمل للسير في هذا الطريق ما ظهر في أقوال بعض المنتمين للحركة ومن خارجها من الإخوة الجنوبيين من أن المناداة بحق تقرير المصير انما قصد بها ان تكون اداة ضغط على كل القوى لتتفق على حل عادل لقضية الجنوب، او قصد منه ان يكون سيفا مسلطا على الرؤوس يحفزها الى قدح زناد فكرها للتوصل الى الحل العادل. وجاء ذلك في اقوال العقيد جون قرنق وفي اقوال الدكتور فرانسيس دينق والدكتور لام اكول، كما ظل كثيرون بمن فيهم الدكتور جون قرنق يجهرون بتمسكهم بالوحدة. ولكن ينبغي ان نذكر الحركة بأن اعلان قائدها تمسكه بالوحدة لا ينسجم مع ما جاء في خطابه في الذكرى السابعة عشرة لتأسيس حركته من انه سيتفاوض مع الحكومة على اقامة نظام كونفدرالي اثناء الفترة الانتقالية، وأن يكون الخيار القائم في الاستفتاء يعقب تلك الفترة بين الحكم الكونفدرالي والانفصال.
صورة المستقبل:
ان ما سقناه في الفقرات من هذا المقال، يحفل بالعديد من بشائر العافية، كما يشير في جوانب منه الى القصور عن ادراك المخاطر المحدقة بالوطن، وعتمة طريق بلوغ مرافئ السلام والوفاق ومشقاته. فما اشرنا اليه من اتفاق في اطروحات الحكومة والمعارضة في شأن القضايا الاساسية يشكل قاعدة بشائر العافية. وما اشرت اليه في شأن بنية التشكيلات السياسية والخلط الظاهر لدى بعض اطراف الصفوة السودانية الذي مازج مستقيم فهم دلالة مبدأ حق تقرير المصير والعراقيل التي ما فتئت تقيمها الحركة الشعبية وبعض القوى المنضوية في اطار التجمع الوطني الديمقراطي امام تفعيل المبادرة المصرية الليبية المشتركة وانعقاد الملتقى الجامع للوفاق الوطني، هي المؤشرات الدالة على عتمة الطريق ومشقاته. وقد آن الاوان الى وقفة نقد صادقة مع النفس نعبد بها طريق السير المتسارع صوب تحقيق السلام والوفاق واقامة المجتمع الديمقراطي القادر على التنمية المستدامة لكل ارجاء الوطن.
وسبق لي ان جليت المقعدات التي حالت دون انطلاق الوطن في اطار الانسجام والعدل. كما ذكرت بقيام الاتفاق بين كل القوى السياسية حيال القضايا الاساسية، وغياب توافر الارادة السياسية للجلوس الى دائرة الحوار والوفاق لدى بعض القوى السياسية المعارضة، ولكن آن الاوان لأن ندرك ان المخاطر الجسام المحيطة بالوطن والمهددات الماثلة لوحدته، تدعو كل وطني مخلص الى وضع مصالح الوطن وصون وحدته فوق كل الاعتبارات، وان يتخلى التجمع الوطني الديمقراطي عن الشروط التي يقيمها عائقا امام انعقاد الملتقى الجامع للحوار والوفاق الوطني. ان الانصاف، وليس التحيز، يدعونا الى ذكر حقيقة ان الحكومة والتجمع قد اتفقا على قبول المبادرة المصرية الليبية المشتركة. وهي المرجعية الملزمة للاطراف التي قبلتها وليس سواها من مرجعية. والحكومة عندما قبلت تلك المبادرة لم تقبل الشروط التي الحقها بها التجمع في اعلان طرابلس، وانما استجابت لها باعتبارها مقترحات حرصا منها على تيسير سبيل الوفاق وتهيئة الاجواء له، وما كانت تعتقد انها ستتحول الى شروط ينبغي الوفاء بها قبل الجلوس الى مائدة الوفاق. ولا بد لنا جميعا ان نتذكر انه في حالة نزاعات كثيرة سبقت النزاع القائم في السودان وتلته، كان الحل الذي تواضعت عليه الاطراف والجهات التي سعت الى عونها لبلوغ الحلول المرضية قد قام على ركائز ضمان الحريات العامة ورفع القيود عن النشاط لحركة واجراء انتخابات ديمقراطية حرة ونزيهة تحت نظر ورقابة داخلية او اقليمية او دولية او بالجمع بينها دون فرض شروط اخرى.
وهذا كله حق الاطراف المتنازعة، ولا بد من ضمان توافره.. اما المزايدات وفرض الشروط فإنها تدخل في باب التردد اكثر منها في الاندماج في صدق النية والعزم على بلوغ الحلول. ولئن اقتضى الانصاف، كذلك ان ننوه بتخفيف التجمع من شروطه بعد استجابة الحكومة طوعا بمعظمها، فإن ذات الانصاف يدعونا الى ذكر حقيقة ان الحكومة قد قبلت المبادرة المصرية الليبية المشتركة كاملة دون حذف او اضافة، كما سبق لها ان قبلت مبادرة الايقاد، وانها قد اوفت بكل متطلبات المبادرة المشتركة يوم طلبت منها اللجنة المصرية الليبية المشتركة أن تحدد أسماء ممثليها في اللجنة التحضيرية الواردة في تلك المبادرة. ثم قد سلمت اللجنة المشتركة بعد ان اوكلت اليها مهام اللجنة التحضيرية نتيجة عجز التجمع عن تسمية ممثليه في اللجنة التحضيرية، سلمتها رأيها في البنود الواردة في اختصاصات اللجنة التحضيرية من حيث تحديد زمان ومكان انعقاد الملتقى الجامع للوفاق والجهات التي شاركت في ذلك الملتقى، وجدول اعماله. واتسمت مقترحاتها بالمرونة، حيث تركت تحديد زمان الملتقى للجنة المشتركة والطرف الآخر، واعلنت انها وان كانت تفضل انعقاد الملتقى في الخرطوم فإنها لا تمانع في عقده في احدى دولتي المبادرة. وقد اتفقت الدولتان على عقده في القاهرة. اما في شأن الجهات التي لم تشارك في الملتقى، فقد شاء مقترح الحكومة أن يجعل المشاركة عامة بحيث تشمل كل القوى السياسية وبعض الشخصيات الوطنية التي يتفق الطرفان على مشاركتها.. كما جاء مقترحها لجدول الاعمال مرنا كذلك، حيث تضمن السلام ونظام الحكم والديمقراطية القائمة على التعددية السياسية والتنمية والعلاقات الخارجية، اضافة إلى بعض المسائل الاجرائية التي تعين في حسن سير الملتقى، مع ابداء استعدادها لقبول تضمين اية بنود اضافية ترى المعارضة تضمينها في جدول الاعمال.
مع اكيد حرصي على عدم الخوض في اقامة الادلة على تلكؤ التجمع حيال تفعيل المبادرة المشتركة، وسعي بعض اطرافه المستميت لعرقلة مسيرها لكي لا يظن خطأ انني استخدم هذا الحيز الذي اتيح لي للهجوم على بعض اطراف التجمع، اذ ان كل الفرقاء يعلمون انني قد ظللت اجانب هذا المسلك حرصا مني على الاسهام في تذليل سبل الوفاق الوطني، فإني قد ذكرت ما سبق على سبيل حث الإخوة من التجمع على الاتجاه الصادق صوب انعقاد الملتقى الجامع للحوار الوطني، وان يشارك بهمة في تقديم مقترحاته لتعديل قانوني النقابات والنظام العام، بعد ان اعلنت الحكومة استعدادها الى تعديلهما ودعت كل الاطراف الى تقديم مقترحاتها المعينة على تمام ذلك. كما ادعوه مخلصا الى ترك امر التنسيق بين المبادرتين للدول المعنية بهما. وان باب ملتقى الحوار والوفاق يسع تدارس كل القضايا المتصلة بالشأن الوطني.
واني لارى ان الحديث عن صورة المستقبل لا يكتمل الا بالتطرق الى عدة قضايا لعل من اهمها:
1 اقامة نظام الحكم على الديمقراطية التعددية مشفوعة بأوسع مشاركة شعبية، وهذا يتطلب التمسك بالحكم الاتحادي كأنسب نظام يرعى التنوع، ويمكن له من التعبير عن ذاته. وهذا يضمن كذلك اهمية تطوير الحكم المحلي القائم في اطار الحكم الاتحادي، بما يفسح المجال واسعا للمشاركة القاعدية في صنع القرارات التي تؤثر على حياتها واتخاذها والنهوض بالمسؤوليات اللازمة لانفاذها. ويدعو التنبه الى ممسكات الوحدة الوطنية، في بلد شاسع كالسودان الى التمسك بالنظام الرئاسي. ولا ضير من المرونة في شأن توزيع السلطات بين الرئاسة ومجلس الوزراء، مع ضمان جعل القيادة الحقيقية للجهاز التنفيذي في يد رئيس الجمهورية. والواجب الملح يفرض علينا، ان نوظف كل امكانات الوطن، لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية شاملة لكل ارجائه. مع تحيز للمناطق الاقل حظا خاصة الولايات الجنوبية. ولا يمكن لهذا ان يتم تحت نيران الحرب، فيجدر بالذين يحملون السلاح ان يضعوه، ليمنحوا وطنهم واهلهم فرصة التقدم والارتقاء وليحقنوا دماء مواطنيهم، طالما ان نية الجميع قد انعقدت على تحقيق حل عادل لمسألة الحرب.
2 منح قضية التنمية الاهمية التي تتكافأ معها في جدول اعمال الملتقى الجامع وفي مداولاته لمحورية هذه القضية في ازالة عدم التوازن والتشوهات التي عرقلت تحقيق العدل واشاعة السلام والاستقرار. وان يكون التوجه صوب التنمية قائما على متوالية تشمل الغاية، حيث تقوم حاجة لها، واعادة التأهيل والتوطين في كل المناطق التي تأثرت بالحرب، والتنمية الاقتصادية والاجتماعية الشاملة، مع الحرص على جسر المفارقات الجهوية في حظوظ التنمية بين اقاليم السودان المختلفة، خاصة تلك التي تأثرت بالحرب. ان السودان بما حباه الله من الموارد الطبيعية المائية والثروات المتعددة الشاخصة على وجه ارضه وتلك الخبيئة في جوفها، تؤهل السودان اذا ما توقفت الحرب لاحداث تنمية شاملة ومتواصلة خاصة بعد اكتشاف النفط والشروع في استثماره، فإن عائدات النفط يتوقع لها ان تكون كبيرة على اساس مؤشرات وجوده التي ظهرت في مواقع عديدة في جنوب السودان ووسطه وشماله وشرقه وغربه. ويمكن توظيفها بدءا في اعادة اعمار الجنوب ورفع الغبن عن المناطق التي ضمر حظها في التنمية في العهود الماضية، ثم توظف تلك العائدات في الارتقاء بالقدرات الانتاجية للوطن وبسط الخدمات التي تفي بالحاجات المعنوية والمادية لكل المواطنين.
3 أهمية المراجعة البصيرة والذكية لكل اختلالات الماضي، ويأتي في مقدمتها الاهتمام بتحديث الاحزاب السياسية والحرص على اعادة تشكيلها بحيث تكون ديمقراطية في ذاتها ومزكية للمؤسسية. ذلك اننا لا نضمن اقامة نظام ديمقراطي تعددي متطور الا على اساس ارتكازه على احزاب سياسية عصرية ومتجددة، ففاقد الشيء لا يعطيه، ولا يمكن ان يؤتمن على صونه والحفاظ عليه. ان قضية تحديث الاحزاب وديمقراطيتها مسألة محورية في البناء السياسي المعافى. ويؤمل أن يحفز ذلك المفكرين والمثقفين السودانيين الى دخول هذه الاحزاب او تشكيل احزاب جديدة ترضي طموحاتهم، لينتج ذلك كله احزابا فاعلة تضمن تطور الحياة السياسية.
4 العلاقات السودانية المصرية: لقد اثبتت تجارب تاريخ وادي النيل ان هذه العلاقات استراتيجية ومفتاحية في حركة التقدم الذي ينشده شعب وادي النيل، ولقد دلت تجارب السودان الحديث وتجارب مصر المعاصرة على انه لا غنى لاي من البلدين عن الآخر، وان مقولة ان السودان يشكل البعد الاستراتيجي لمصر كما تشكل مصر البعد الاستراتيجي له، ليست بالمقولة العاطلة، وانما هي حقيقة كبرى ينبغي تأكيدها والحرص عليها. وها نحن اليوم نرى السودان حكومة ومعارضة يفزع الى مصر.. حرصا على عون له وتأكيدا لاهمية دورها في حل المشكلات التي تجابه السودان. وها هي مصر لا تكف عن الجهد بحرصها على وحدة السودان التي ترى فيها ركيزة لامنها القومي. وما من لحظة في التاريخ اجمعت فيها كل القوى السياسية في السودان وفي مصر على اهمية هذه العلاقة وابداء الاستعداد لدفعها وتطورها.
ومن اشراقات التناول الحالي لهذه العلاقات، حرص كل الاطراف في البلدين على اقامتها على اسس ثابتة تمكنها من الصمود في وجه اهواء الحاكمين وتقلبات السياسة. ان هذه لحظة تاريخية ينبغي اقتناصها لتأسيس هذه العلاقات الاستراتيجية والمفتاحية لتقدم البلدين على اسس راسخة ومناهج قويمة تجعل رعاية كل بلد من البلدين لمصالح الدولة الشقيقة جزءا اصيلا في سياستها ومخططاتها. ومن علامات الجد في هذا السبيل ان ارادة مركز دراسات وبحوث الدول النامية في كلية الاقتصاد والعلوم السياسية في جامعة القاهرة، ومركز الدراسات الاستراتيجية في الخرطوم، قد التقت على عقد ندوة تخصص لتحديد هذه الثوابت، ويدعى للمشاركة فيها المفكرون والممارسون المصريون والسودانيون بمختلف انتماءاتهم الفكرية والسياسية. وانه من دواعي السرور ان وزارتي الخارجية في البلدين قد سارعتا الى دعم هذه الندوة، وقبول فكرة مشاركة كل المدارس الفكرية والسياسية في إعداد أوراق عملها والاسهام في مدارستها. ومن المقرر أن تنعقد في شهر اكتوبر القادم.
5 - لقد ظل الحديث يشكل البنية ذات الطبيعة القومية المكتملة. وتراوح الرأي في دوره السياسي بين القبول والرفض، فالبعض يرى انه صمام الامان، فإن تدخلاته الحاسمة في السياسة للاستيلاء على السلطة قد جنبت البلاد ويلات التمزق وحصن الشعب من انفراط الامن. وما من مرة تدخل فيها الا كانت مبررة بعجز النظم الليبرالية عن الوفاء بمسؤوليات بناء الوطن وتقدمه وافراز الفوضى التي بددت الطمأنينة والاستقرار وذهبت بالامن الفردي والجماعي، على حين ان البعض يرى ان تدخل الجيش قد حرم الديمقراطيين من التجريب والتطور الذي ينبغي أن يتوفر لها لكي يقوى عودها وتعظم فاعليتها. وبعض آخر يرى ان يكون للجيش دور رقابي عام يمكنه من التدخل اذا سادت الفوضى ويعود الى ثكناته بعد استتباب الامن واستئناف المسيرة الديمقراطية.. ولعل الكل يذكر ما عرف باجتماع القصر الذي تطرق الى أهمية مشاركة الاحزاب والنقابات والجيش في السلطة.. وان تشتت الآراء حول طبيعة علاقة الجيش بالسياسة يفرض على الناظرين في مستقبل السودان السياسي ان يمعنوا النظر في هذه المسألة، وان يتفقوا على معادلة تضمن دورا محددا للجيش في تأمين المسيرة الديمقراطية والحفاظ على وحدة الوطن وحماية حرمة أراضيه. ويفرض هذا بالضرورة الحفاظ على قومية المؤسسة العسكرية لضمان آراء ما يوكل اليها من دور على أساس قومي يؤمن عدم انحيازها لأيٍ من الفئات المتصارعة في اطار الديمقراطية التعددية.. إن هذه قضية ينبغي عدم اهمالها او تجاوزها ونحن ننظر للمستقبل السياسي في السودان.
خاتمة:
أود أن أؤكد ان الآراء التي ابديتها في هذا المقال آراء شخصية، ابديتها من منطلق الاهتمام بالمساهمة في الحوار الفكري الذي تعمر به الساحة السودانية، وارجو النظر فيها بهذا الاعتبار. وأني لاتطلع الى مساهمات فكرية جادة من قبل علماء السودان وساسته المثقفين، بأمل أن يعين ذلك في تحقيق وحدة فكرة، تفضي الى وحدة الارادة القادرة على بناء الوطن العزيز الذي نتطلع جميعا إليه.
٭ الكاتب، مفكر سوداني، وأستاذ جامعي، ووزير سابق، وسفير السودان بالقاهرة.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.