في واقع عالمنا العربي الفعلي المعيش، وعلى جميع مستويات خطاباته المنتجة «الاجتماعي والسياسي والثقافي»، وبين دعاة القومية، أو الماركسية، أو دولة الخلافة الإسلامية، أو حتي دعاة الليبرالية، جميعهم، في تقديري يفتقرون إلى رؤية موضوعية دقيقة للآخر، أو إلى اعتماد منهجية خاصة في التعامل معه. فقد ظلت بلداننا العربية وعلى الدوام بكل اتجاهاتها الفكرية وأصول مشاربها ومنابتها المتعددة، كأنها ترهن أقوالها وأفعالها إلى صوت المتنبئ وتحمله فى أعماقه البعيدة وهو يقول: ودعْ كلّ صوت غير صوتي فإنني أنا الصادح المحكىّ والآخر الصدى إن ما يراه الناقد فى وضعياتنا السياسية والاجتماعية وفى كل الأحوال تلتمع عنده، أن فكرة الآخرَيّة ضئيلة، وتبدو بطيئة الخطى على سلم الارتقاء في حياتنا، ومفهوماته ملتبسة على نحو هو أبعد ما يكون عن الموضوعية، فاحترام الآخر مصطلح ولفظ لا يأتى فى عالمنا، إلا فى سبيل التلطف والتجمل أمامه، وسرعان ما يسقط المعنى فى المحكات العملية إلى درجة أهدار معنى الإنسانية نفسها. هذا أمر، أو حقيقة لا يمكن، تغييبها عن وعينا، من خلال ممارستنا النقدية فى واقع فعالياتنا الثقافية، ومنتجنا الفكرى والإبداعى، الذى كثيرا ما تعوقه أنماط الأداء فى إدارة السياسة الثقافية لأغلب عواصمنا العربية. وإن كانت، هناك عاصمة عربية يمكن أن أقف عندها، بوصفها الحالة الاستثناء المغاير لمجمل أوضاعنا، الراهنة، فهى «القاهرة».... «أم» عواصمنا العربية، وقلب حركتها الثقافية والفكرية، فقد استطاعت وبجدارة واستحقاق أن تقوّض أركان تلك الفكرة من زاوية النظر في الممارسة الابداعية الفنية، والمنجز الثقافي، الذي يتمتع بالعمق وثراء الدلالات في بحثها عن الآخر، وهي تثري فعل التجريب الذي يقف ضد النقل والالتزام الايديولوجي. وبهذا تمكنت القاهرة من هتك التقاليد والذهنيات والآليات التى تحول دون أن يفهم المثقف أو المفكر ما يصله بالعالم، أو ما يتوسط بينه ونفسه، من رؤى واتجاهات فكرية وأنساق من النظم والمؤسسات. رأيت التجريب فى القاهرة بوصفه فعلا فنياً إبداعياً، يعمل على إبقاء الأبواب مشرعة أمام العقل، ليمارس حيويته فى التفكير النقدى الفعال، مبتكرا ومجددا، للمفاهيم التى تعمل على استكشاف المعارف، ومواجهة عمليات التعمية والزيف والطغيان، من كل صنف ولون فى حيواتنا، المحاطة بآليات الإقصاء الضخمة البارعة الألاعيب فى قوتها وشدتها. الأبداع المعرفى، فى القاهرة، هو فعل فى صميم استراتيجية الدولة المقرونة بالفعل التطبيقى، لا التهويم الخطابى الشفاهى من غير الوفاء به. فبالفنون والآداب والثقافة تجاوزت مصر مأزق الأيديولوجيا، تلك التى أحالت مجتمعاتنا الى حالة من التشوهات. وكم كان مدهشا أن يتجلى مشهدنا السياسى المأزوم فى دلالات أغلب العروض المسرحية المنطلقة من منظورات التجريب الذى من خلاله، قفزت معانى فى غاية الحكمة، تقول وتدعو الى تنزيه الأفكار وفصلها عن الأنظمة السياسية، وتحميل القادة مسؤولية سقوط المناهج والنظريات فى التطبيق العملى لها، وهى زاوية إبداعية أخرى لما قاله الكاتب المسرحى الألمانى «بريخت»: فلنسقط الشعب إذا لم يكن بالإمكان إسقاط القيادة والحزب. إن ما تفعله القاهرة ومن خلال التظاهرات والاحتفاليات الدولية فى كل ضروب الأبداع الثقافى، إنما تقدم للناس وبقدر كبير، ممارسة التفكير النقدى الحر، وجردا شفيفا للواقع العربى، فى حواره مع الذات من جهة، وحواره مع الآخر من جهة أخرى. وبهذا تنظر ومن خلال حركتها الثقافية إلى عالمنا الذي يتشكل فيه الخطاب المعادي للتجريب باسم التقاليد القديمة، وفقاً للدكتور «فوزي فهمي» أو دعوى الحفاظ على المألوف في مواجهة البدعة، وحماية الاجماع من مخالفة الآحاد، فإن هذه الخصوصية تتشكل في الخطاب نفسه باسم مسميات أكثر حداثةً من حيث الظاهر، والدور الذي لعبه مفهوم الثقافة الوطنية، في تشكلات الخطاب المعادي للتجريب، دور يمكن رصده، من هذا المنظور، على مستوى الوضع الذي تحوّل فيه المفهوم إلى تعصب قومي.. والمعنى هنا في تقديري أنه لم يعد هناك مهرب من الاتصال بالآخر، وخاصة ذلك الآخر الأقوى. إذ تقول الكلمة المأثورة عن الماهاتما غاندي: «لا أريد لبيتي أن تحجبه الأسوار من كل صوب وحدب، ولا أريد أن تغلق نوافذه فيفسد الهواء، بل أُريد أن يغمر بيتي العبق الأصيل لكل ثقافات الدنيا، وينتشر في حرية بقدر ما تيسر ذلك. ولكنني في نفس الوقت أرفض وبشدة أن تنتزعني ثقافات الآخرين من جذوري وتطوح بي بعيداً عن رحاب بيتي»... وهو ذات القول الذي تتمثله «القاهرة» العاصمة العربية «الأم» وهي تضرب بنيان هذا المعنى بجذوره في واقع فعلها الثقافي والإبداعي، في سياق التبادل الثقافي الذي رأيته حقيقةً ماثلةً في مصر أثناء مشاركتي في لجنة التحكيم الدولية لمهرجان القاهرة الدولي في أكتوبر الماضي، كما أشرت بذلك في مقالي السابق بعنوان «القاهرة وفاروق والصعود إلى درجة النقاء».. إنني أكثر اقتناعاً الآن بأن مصر «القاهرة» هي من أكثر بلداننا العربية حضوراً، وموقعاً ظاهراً يقع في الممر الفاصل الواصل بين الثقافات والأمم والهويات والعوالم. إن الناظر المتأمل العميق، للفعل نفسه، في جوهره تكاملية الخطاب الإبداعي والخطاب المنهجي الموضوعي الدقيق للنظر إلى «الآخر». فالوجود في «القاهرة» يعني أنك تتواصل وتقطع في آن واحد، حيث تأخذك الحركة الثقافية مع كل إنتاج الآخر الثقافي. أن تضع الدولة، رجلاً مثل الدكتور «فوزي فهمي» على رأس مؤسسة الدولة لرعاية الثقافة، هذا وحده امتياز لمصر على قدرتها على بلوغ ذرى وأعماق بعيدة. وتستطيع أن تطلق به المياسم التي تركتها الخبرة الإنسانية في تجاربها مما يمنحها التجدد الدائم، مع استقلالية شخصيتها، وقدرتها الإبداعية. وفي هذا حسبي الاستشهاد بقول «فوزي فهمي» نفسه: «ويكتمل هذا الأفق التحرري بتحقق أمور عدة على مستوى الثقافة الوطنية القومية ومن منظورها، أولها وأهمها التخلص من منطق رد الفعل الذي كان «لازمة» من لوازم خطاب الكولونيالية القديم، ذلك الخطاب الذي انعكست آلياته على نقائضه، كما تنعكس الموضوعات على سطح المرآة، فيتكرر الأصل على نحو معكوس دون مغايرة أو مناقضة جذرية. ولا تزال تجليات هذا المنطق القديم باقية، متعددة، يشيعها خطاب ايديولوجي يعلن تحرير الثقافة الوطنية القومية في الظاهر، مع أن آلياته تعمل على إبقائها في حال من التبعية لا الاستقلال. ويرجع ذلك إلى أن هذا الخطاب «التابع» لا يجاوز رد الفعل الآلي الذي يصاحبه نزوع قطعي حدي، في كل المستويات المعرفية. وينبني على استجابة دفاعية عصابية، تتأسس بنقيضها، وتتشكل في آليات هي صورة منعكسة من الآليات المعادية، لا تفارق حدودها أو تراتب أولوياتها، على نحو يحيلها إلى تحقيق للهدف منها، وهو تجسيد الحضور المعرفي لتشكلات الخطاب الكولونيالي، وإشاعة مبرراته المضمنة التي لا تفارق منطق الحدّية والتراتب القمعي». إن ما يمكن قوله، تأسيساً على ذلك، هو أن مصر حالة استثنائية الحضور في واقعنا الفكري، وهي تدفع بحركتها الإبداعية والثقافية إلى فعل نقدي تفتح به حقولاً جديدة، دون أن تتورط في عمليات طمس الشخصية الثقافية الوطنية، بقدرما تعززها وتجليها، وهو فعل الوعي المستقبلي بالأنا والآخر في آن واحد. إن عمليات التداخل الواسع في مساحاته من خلال المهرجانات الدولية في المسرح وأجناس الفنون الأخرى ومهرجانات الإنتاج الإعلامي بشتى أنماطه، هي جزء من عالمية الثقافة في «القاهرة» التي تؤكد صورة التناسق العالمي في الخطاب الإبداعي النقدي المستقل في مصر ... وهي تأكد الدلالة العميقة التي تضمنتها قصيدة الشاعر نزيه أبو عفش: أنت «الآخر» وأنا «آخر الآخر» كلانا يملك الحق لكن، لا أحد يملك الحقيقة نعم سيخلد الشر !!! ٭٭٭ لا تبتسم أرجوك لا تبتسم فخلف هذه الوردة أشم رائحة موت إن المنجز الثقافي الإبداعي المصري والحركة المنشطية الفنية التي تشهدها القاهرة بهذا الدوام المستمر، هي بلا شك تتوافر فيها الانتقالات أو التجادلات بين المخفي والمعلن إلى حد ما، بين الظاهر والباطن، تشكل نوعاً من الدفع الذي يمنح الفنون على الجذب والفاعلية الفنية وإثارة الوعي والذائقة، التي تعمل بلا شك في استكشاف في اللحظات والأمكنة، وهي زمانيات وفضاءات المعرفة، والإدراك، وقابلية الآخر، حيث يجري تفاوض الهويات، وتبرز المقامات الموضوعية بينهما، وتتداخل الذات/ الآخر إلى الإنسانية في عالميتها. ومن هنا، تتكون المصدات المضادة للدعوات العرقية الانعزالية وفي الوقت نفسه والحديث لفوزي فهمي «يتزايد الحضور العدواني لنزعات أصولية ملازمة، تستبدل التعصب بالتسامح، والتمييز بالمساواة، ووحدة الاجماع بوحدة التعدد والتنوع، كما تستبدل بالديكتاتورية السياسية للمنظمات المدنية «أو شبه المدنية» السائدة في العالم الثالث ديكتاتورية جديدة، تبرر نفسها بتأويل ديني، تخييلا بدولة تملأ الأرض عدلاً بعد أن ملئت جوراً. وتجد هذه النزعات ما يدعمها في الثقافات التقليدية للعالم الثالث، حيث الإشباع الفكري هو الوجه الآخر من التبعية السياسية الاقتصادية. وعليه إن تلك المنطوقات، وحركة آلياته المستخدمة اليوم في عالمنا العربي، المقترنة بملفوظات العنف المتزايد على الدوام لحماية التقليد دون النظر إلى الاجتهاد بوصفه فعالية إنسانية تبتغي في أهدافها ارتقاء الإنسان والذهاب به إلى ما هو أفضل، اعتماداً على الواقع والمجتمع والظروف الاجتماعية والتاريخية التي تسهم في المنتج من الأفكار، باعتبار أن الاجتهاد وفق منظورات الفنون، لا يمكن أن تعمل على إلغاء الواقع والحياة الاجتماعية، وذلك شرط القدرة على صياغة التأويل الذي هو جزء أساسي من عناصر الخطاب الإبداعي . والمعنى المسَكن دائماً في كل نوع من أنواع الفنون. إن الفنون، هي قدرة الحوار وإمكانية التسامح، وعلى أية حال، إن «القاهرة» في تقديري، وبمؤسسات الدولة المدركة لغاياتها، أرى أنها تجاوزت واقعنا العربي، في اتجاهات حركة الابداع الفني، والإنتاج الفكري ... والذي يفتقره مشهدنا الثقافي «والشيء بالشيء يذكر» إذ لا بد من الاشارة إلى حدث في غاية الأهمية في تاريخ حركة الفنون في السودان، وهو ما أصدره رئيس الجمهورية عمر البشير لأول مجلس حكومي يأسس لمهنة الفنون الموسيقية والمسرحية رعاية وتنظيماً، «مجلس المهن الموسيقية والمسرحية» برئاسة الأستاذ علي مهدي، والدكتور عبد القادر سالم أميناً عاماً له، هذا القرار في حد ذاته حدث، يشير إلى تحول مفاهيمي كبير في السودان بالنظر إلى فنون المسرح والموسيقي، كدائرة من دوائر الخلق في عمليات التنمية البشرية، وفي إنتاج علاقات المعرفة والوعي، ويقيني أن هذا التحول المفاهيمي للدولة المتمثل في هذا القرار الرئاسي، أنه يمثل إضافة كبرى في دائرة حواراتنا الوطنية للإسهام في عمليات بناء الدولة المستندة على الثقافة بخصوصيتها الوطنية المتدافعة مع الآخر. إننا اليوم في السودان، وبهذا المجلس، نستبدل تراتباً جديداً بالفنون المسرحية والموسيقية، بتراتب قديم، عمد إلى عدم الاعتراف بها باعتبارها نشاطا إنسانيا تولد وفق ضرورة الحاجة الإنسانية نفسها. إن القاهرة بوصفها النموذج المتقدم في حركة الثقافة، هي بلا شك في حاجة إلى عاصمة عربية أخرى، تقاربها في المنهج والرؤية الموضوعية في النظر إلى الإنتاج الفكري الثقافي. ورؤيتى الخاصة وحلمى أن الخرطوم هي الأقرب إلى ذلك سبيلاً، وبما تملك من ثراء ثقافى، وإمكانية الإنسان السودانى، الكادح نحو ألق المكان، هذا البلد الوافر الإبداع المسكون بقلق الثقافة الهجين «يغنى بلسان ويصلى بلسان» سودان «محمد عبد الحى وصلاح أحمد أبراهيم ومحمد المكى إبراهيم وإبراهيم الصلحى وشبرين وأحمد عبد العال وأبو الروس والعبادى» وأوراق كثر من غصون شجرة المنتمين بأصولهم لثقافات شتى. هى الخرطوم، الأقرب نفسا وأنفاسا الى القاهرة، بهذا الحب الوجودى الذى بيننا، وسهوب الجغرافية التى تحتضننا معا، أن يمد كلينا كفه، ولن أقول هنا «الآخر» بل لأخيه، ودعوتى للخرطوم بأن لا تنام بعد اليوم «على صبر الخصاصة وانكسارات النفوس»، استعصاماً بقول الشاعر مصطفى سند: هم يزرعون الطيب بين النيل والأشياء والخرطوم ساقيتى ومحرقتي وبيتي قد جئت استسقي ونيل بهائها غيمي وساريتي وأنفاسي على وجع الحياة أنا وموتي وحدي عشقت ويحلمون به وحدي أسافر في صبا حزني وأقبس ورد مصباحي وأشرعتي وزيتي وأطير ... أبدع أشغل الدنيا وأطلق في فضاء الكون صاعقتي وأوراقي وأغنيتي وصوتي .. وحسبى أيضا غنائية محمد المكى إبراهيم: يا بعض عربية وبعض زنجية وبعض أقوالى «أمام الله فى القاهرةوالخرطوم»... فهل أنا بائع وجهى وأقوالى أمام الله..؟!