ونحن نقرر تناول سيرة الأستاذة آمنة عطية، رائدة التعليم النسوي وأول أمرأة سودانية تحصل علي رخصة قيادة السيارات في العام 1945م، ورخصة لإستخدام السلاح في ذات العام، اتصلنا بالأستاذ حسن علي عمر، مدير منتدى الخرطومجنوب للآداب والفنون، ليسهل لنا مهمة الاتصال بها، فوصف لنا خارطة الطريق إلي منزل آمنة عطية فذهبنا إليها ونحن نبحلق في الورقة كما كنا نفعل في مرحلة الأساس بحثاً عن الكنز: شمالك (منبر السلام العادل)، يمينك عمارة التوحيد، قدّامك البساتين و.. (1) أمام منزل الأستاذة آمنة عطية تقف عربتها المورس العتيقة (خ 395) وعلى زجاحها الخلفي كتبت الحاجة آمنة عبارة: والتاريخ يعيد نفسه..! ربما استوحت اللافتة من هول التحديات التي واجهت مسيرتها في التعليم منذ أيّام فتح الرحمن البشير، ضابط مجلس الخرطوم في الخمسينات وحتى نكبات نميري الاقتصادية وتأميمه لبعض المؤسسات التعليمية ومن بينها (أماني آمنة عطية) أو مدرسة (الأماني) التي تحولت إلى مدرسة المقرن الثانوية. (2) فتحت لنا الحاجة آمنة الباب بصعوبة، متحاملة علي وعكتها الصحية وسنواتها الثمانين، لكنها تبدو أصغر من ذلك، فحين طلبت أن أساعدها في فتح باب متحفها المنزلي رفضت وهي تقول في ابتسامة: حبوبتك لسّع شباب..! وحين طلبت منها تأجبل اللقاء ريثما تسترد عافيتها، رفضت تقديراً منها ل (الصحافة) التي ساندتها طوال مسيرتها الطويلة، كما قالت. تبدو كبيرة السن، ورغم تراكم التجاعيد على وجهها إلا أنها لم تستطع أن تخفي سماحة روحها أو إبتسامتها التي تنبئ بأن ثمة جمال صارخ كان على هذا الوجه يوماً ما. (3) ولدت آمنة عطية بمنطقة كركوج شمال الفونج بمديرية النيل الأزرق في العام 1928م. بعد أن أكملت تعليمها الأولي هاجرت إلى ودمدني لتلتحق بكورسات التربية التي أقامتها وزارة المعارف في زمن كان فيه تعليم البنات أثم عظيم. اختارها الأستاذ صالح بحيري مسؤول التعليم بالجزيرة في ذلك الوقت لإنشاء مدارس لتعليم البنات في مدني، فأنشأت أول مدرسة لتعليم البنات في منطقة (مهلة) ثم (فداسي) و(الرميتات) و(ود نعمان) في العام 1945م. (4) سألت الحاجة آمنة، كان عمرك كم؟ 17 سنة.. * كنت متزوجة؟. شوف ياولدي، حكاية الزواج دي خليها، خلينا نتكلم في الشأن العام، واستدركت قائلة: أنا اتزوجت بدري، كان عمري 13 سنة. * وحكاية الرخصة شنو؟ كنت بتجول في قرى الجزيرة كل ما أفتتح مدرسة، بدرب بعض البنات وأذهب لمنطقة أخرى أفتتح مدرسة جديدة، الخواجات أدوني عربية (المورس) الواقفة برة دي، ومعاها سواق سوداني كان كبير في السن، كنت دايماً بلقاهو نايم في العربية وبخاف أقطع عليهو نومو، فطلبت من الخواجة مسؤول التعليم يطلع لي رخصة. (5) تعلمت الحاجة آمنة قيادة السيارة في سبعة أيام، لكن واجهتها مشكلة في استخراج الرخصة فلم يكن في ودمدني استديو للتصوير، فالتقطت لها زوجة مدير التعليم البريطانية الجنسية الصورة التي تشاهدونها جوار سيارتها المورس لتستخرج لها أول رخصة قيادة لإمرأة سودانية في العام 1945م. والحاجة آمنة التي مر على صورتها التي ترونها ستين عاماً، لا يختلف شكلها الآن كثيراً عن ملامحها في الصورة المرفقة.. قليل من التجاعيد وكثير من الجلال والوقار والجمال. بطاقة الرخصة تآكلت بفعل السنين الطوال، لكن الصورة تبدو في حالة جيدة بعد أن نسخت منها الحاجة آمنة عطية عدة نسخ تحتفظ بها في متحفها الجميل الذي يحتوى علي صورها التاريخية التي تجمعها مع الزعيم اسماعيل الأزهري والمشير عبد الرحمن سوار الذهب وتتوشح جدرانها بالشهادات التقديرية ومقتنياتها الشخصية النادرة التي جمعتها عبر سنوات عامرة بالعطاء. (6) ولأن الجزيرة في تلك الفترة كانت (خلاء يشرد منها القرد) كما قالت الحاجة آمنة، طلبت من المفتش الإنجليزي التصديق لها بحمل سلاح ناري، فصدق لها برخصة لتسجل أسمها أيضاً كأول إمرأة سودانية تحصل علي رخصة سلاح في العام 1946م. التحقت آمنة عطية بكلية المعلمات بالخرطوم ودرست علي أيدي الاستاذتين: سكينة توفيق وآسيا علي نميري وتخرجت منها في العام 1950م لتعمل بسنجة ثم سنار عقب تخرجها لتعود إلى مدني وتفتح مدرسة جزيرة الفيل للبنات. (8) اختتمت حياتها في التعليم الحكومي بشندى في العام 1955م وعادت إلي الخرطوم وتقدمت باستقالتها لوزير المعارف زيادة أرباب. * إستقلتي ليه؟ كان عندي هدف. * هدفك شنو؟ أفتح مدرسة خاصة. * وين؟ في المقرن؟؟ * ليه المقرن بالتحديد؟ وأنا طالبة في كلية المعلمات كنا ساكنين داخلية، بنطلع كل يوم خميس نمشي لمعارفنا في الخرطوم بالترماي، مساكن المقرن كانت في مكان فندق الهيلتون _سابقا_ فندق كورال حاليا هي بيوت عادية من القش والطين، كنت بشوف بنات المقرن شايلات الموية فوق الراس من البحر والصغار منهن حاملات الحطب من الغابة التي كانت غابة بمعني الكلمة، قلت لزميلاتي أنا حأفتح مدرسة في المنطقة دي فكن يضحكن فيني واعتبرن حديثي من المستحيل. (9) صدّق لها وزير المعارف زيادة أرباب بمدرسة أولية بمنطقة المقرن أطلقت عليها في ما بعد (مدرسة الأماني)، افتتحها الزعيم الأزهري وأول سفير مصري لدي السودان، سيف اليزل خليفة، ولكن من الغرائب أن فرحة الحاجة آمنة بالافتتاح لم تكتمل، فبعد انتهاء الحفل البهيج زج بها في السجن. كيف؟ تقول الأستاذة آمنة عطية: أن ضابط مجلس الخرطوم لم يكن موافقاً علي إنشاء المدرسة في منطقة المقرن فأرسل أمراً بالقبض عليها صادف يوم الافتتاح، فانتظر الضابط الذي كُلف بتنفيذ القبض حتى توارى موكب الرئيس والقي القبض عليها. وتضيف الأستاذة آمنة : عم فتح الرحمن البشير تدخل والغي البلاغ وأفرج عني. (10) بعد أربعة أعوام افتتحت (مدرسة الأماني الأوسطي) ثم (الأماني الثانوية) ثم داخلية الطالبات الوافدات من أم ضوبان والعيلفون وكركوج التي تسع 45 طالبة في وقت لم يكن للطلاب صندوق يرعاهم ويشيد لهم المدن الجماعية، فليت الصندوق القومي لرعاية الطلاب يكرم هذه المرأة الرائدة في تسكين الطالبات. (11) خمسة عشر عاماً و(الأماني) تحتضن كل عام دفعة جديدة من الطالبات حتى صادرها النميري في نوبة التأميمات. * سألت الحاجة آمنة، المدارس هسع اسمها شنو؟ أسمها المقرن. * والأماني؟ الأماني، تعيش إنت، الشيوعيين ملو لنميري رأسو، والعملوها فيني لسع ما مرقت. * بعد العمر دا كلو يا حاجة آمنة، دايرة تعملي شنو؟ أعمل جامعة الأماني لكن عاكسوني. * العاكسك منو؟ ناس الحكومة طبعاً. * دايرة تقولي ليهم شنو؟ أقول ليهم نفس الكلام القلتو سنة (56): كان الله مد في أيامي بفتحها، وانتو تعالوا سدوها..!