لقي نزيل مصرعه على يد آخر شنقاً، على بوابة زنزانة داخل سجن الهدى غربي أم درمان. وشرحت الشرطة في بيان رسمي تفاصيل الواقعة: بأن الجاني معتوه ويدعى أسامة موسى آدم، استدرج المجني عليه وهو نزيل أيضا بالمكان، ودخل في عراك عنيف معه، وشلّ حركته قبل خنقه وتقييده ببعض الملابس، وتعليقه على بوابة الزنزانة حتى فارق الحياة. وأشار البيان الى أن القاتل والمقتول يعانيان من اضطرابات نفسية، وأُحيلا الى مستشفى عبد العال الإدريسي بحي كوبر بالخرطوم بحري، وأُعيدا الى مدينة الهدى الإصلاحية مرة أخرى، وجرى وضع الاثنين قيد الحبس داخل الزنازين الخاصة بالمعتوهين. ولفت البيان إلى أن الشرطة اتخذت الإجراءات القانونية وتدوين بلاغ بالحادثة وإرسال جثة المجني عليه الى المشرحة، كما شكلت لجنة لتقصي الحقائق بشأن الواقعة المأساوية. الخبر أعلاه نشره زميلنا الاستاذ/ خالد فتحي في جريدة «الأحداث» الصادرة يوم الاربعاء الموافق 25/11/2010م. وبدءاً نترحم على القتيل، ونسأل الله العظيم رب العرش العظيم أن يشفى القاتل شفاءً لا يغادر سقماً، كونه يعاني من اضطرابات نفسية، وتسلط هذه الحادثة الحزينة، التي تدمي القلوب، الضوء على واقع سجوننا، والنزل الإصلاحية في السودان، هذا الواقع البائس، الذي يجعل معتوها يدخل في عراك شديد، مع رفيق له في الابتلاء، ثم يشل حركته، ويخنقه خنقا يكتم أنفاسه ثم يقيده ببعض الملابس، ثم يقوم بتعليقه على بوابة الزنزانة تماما كخروف «الضحية» حتى تفارق الروح الجسد، والحمد الله أن رجال شرطتنا الأشاوس، الذين لا تغفل أعينهم وتبيت تحرس الزنازين آناء الليل ولا تنام أطراف النهار، أدركوا بحسهم العالي ذلك المعتوه قبل أن يسلخ جلد قتيله المسكين، لذلك فإننا ندعو سعادة المهندس ابراهيم محمود وزير الداخلية، الى أن يقوم بترقية هؤلاء الصناديد، ومكافأتهم على حسن صنيعهم، كونهم منعوا القاتل من عملية السلخ والتمثيل بضحيته، دون أن ينسى بالطبع كافة الضباط القائمين على أمر تلك الإصلاحية التي كشفت للمواطنين كم هي بائسة سجوننا، وكم هي رخيصة أرواح السودانيين، فحادثة كهذه في بلد يحترم حقوق الانسان وكرامته كانت كفيلة بأن يقدم الوزير المسؤول عن أمن المواطن الحر ناهيك عن هؤلاء المرضى والمعتوهين، استقالته، لحادث مأساوي بشع كهذا ومعه كافة مسؤولي السجن، لكن موت إنسان في بلد التوجه الحضاري، لا يساوي عند هؤلاء شيئا، سيما إن كان الميت فاقدا لبصيرته، ومن حق ذوي القاتل والمقتول أن يسألوا أين كان رجال الشرطة المعنيون بمراقبة الزنازين؟حتى يستدرج أحد المقيمين فيها زميلا له ويعلقه جثة هامدة على باب الزنزانة، ربما كانوا يتسامرون، ربما كانوا في سبات عميق والنوم سلطان، أو أغلقوا الزنازين، وراحوا الى بيوتهم، هذا إذا وقعت تلك المأساة ليلا، أما إن وقعت في وضح النهار فليس من احتمال سوى أن يكون حراس السجن قد ذهبوا لتناول وجبة سمك او دجاج او كباب شهية، لأننا لا نتصورهم ينامون نهارا، ولا أدري ما هي طبيعة الاجراءات القانونية التي اتخذتها الشرطة لكشف غموض هذه الجريمة، وما فائدة لجنة تقصي الحقائق التي شكلتها الشرطة في هذا الصدد، كنت أتوقع أن تشكل لجنة تحقيق عن قصور مسؤولي السجن وبيئة السجن البائسة التي تسببت في إزهاق روح شخص برئ وضعه أهله أو وضعته ظروفه بين جدران تلك الزنزانة، حتى تحافظ الحكومة على روحه وأرواح الآخرين، هل يعقل أن تضع شخصين مختلين عقليا في زنزانة واحدة؟ أو بالقرب من بعضهما البعض؟لكن في السودان كل شيء جائز وممكن ومقبول، فكثيرا ما يجد المرء بعض من فقدوا نعمة العقل، يجوبون الشوارع، حاسري الرأس حفاة عراة تماما «كيوم ولدتهم أماتهم» شعثا أغبراء، دون أن تحرك الجهات المسؤولة ساكنا، لكن أن تؤتمن الحكومة على حياة من أودعوا في سجونها، سيما من أولئك النفر الذين أصيبوا بأمراض عقلية ونفسية، ثم تقوم بقتلهم قتلا رحيما، أمر غير مقبول الا في السودان بلد العجايب، هل يستطيع السيد وزير الداخلية أن يقول لنا: المرحوم كان غلطان؟ بالطبع لن يستطيع ولن تستطيع تلك اللجنة التي شكلت لإماطة اللثام عن الجريمة، لكنه بوصفه مسئولا رساليا في دولة المشروع الحضاري سوف يذكرنا بحتمية الموت، تماما كما قالت وزيرة الخارجية الأمريكية هيلاري كلنتون بحتمية انفصال الجنوب، وقد يذكرنا بأن الموت سنة ماضية فينا معاشر المسلمين، وكل نفس ذائقة الموت، وان الموت سوف يدركنا ولو كنا في بروج مشيدة أرفع من برج الفاتح وليس في زنازين صغيرة نسيها حراسها، وقد يذكرنا ببيت الشعر الذي يقول: وكل ابن أنثي وإن طالت سلامته يوماً على آلة حدباء محمول دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان وقد يذكرنا السيد الوزير وأركان وزارته وسجونه، بضرورة ألا نجزع لموت معتوه أو مختل عقلياً في بلد قتل فيه الملايين في حروب عبثية، هذا غير الذين ماتوا في حوادث طيران ومرور وغرق وحرائق وجوع وأمراض، فروح ابن آدم السوداني لا قيمة لها، ومن عجب أن مسؤولينا يعرفون تمام العلم أن من قتل نفسا بغير حق فكأنما قتل الناس جميعا. ولعل القاتل المعتوه قرأ عبر شبكة الانترنت التي توفرها وزارة الداخلية لكافة نزلاء السجون السودانية، التي نالت شهادة الجودة، من قبل منظمات حقوق الإنسان العالمية في خدماتها التي تقدمها لنزلائها، لعل المعتوه القاتل قرأ عبر النت «أشك في توفير هذه الخدمة ولو بعد ألف عام من الآن في سجوننا» في سجنه، هذا الخبر الذي يقول: أنهى ثمانيني أميركي اهتم بزوجته المريضة لفترة طويلة زواجاً دام 70 عاما وقتلها في دار لرعاية المسنين في كاليفورنيا. حيث نقلت صحيفة «لوس أنجلس تايمز» الأميركية عن الشرطة قولها إن روي شارلز ليرد «88 سنة» قتل زوجته كلارا «86 سنة» بطلقة نارية واحدة في رأسها في مركز «كاونتري فيلا» الصحي لرعاية المسنين في سيل بيتش. ونقلت عن ابنة الزوجين كايثي بالماتير «68 سنة» قولها «كان قتلاً رحيماً، فقد فقدت عقلها». وقال أصدقاء وأفراد من العائلة ان الأطباء أعلنوا ان المرأة مصابة بالخرف منذ «5» سنوات، واهتم زوجها بها بمفرده في منزل العائلة إلى حين نقلها قبل «3» أشهر إلى دار للمسنين، حيث ما انفك يزورها «3» مرات يومياً ويطعمها بيديه. لكنهم أشاروا إلى ان طلقاً نارياً سمع من دار الرعاية، وخلال دقائق طوقت الشرطة المكان وطلبت مساندة، لتكتشف ان المرأة ميتة في سريرها، فيما لحق زوجها بعناصر الشرطة وسلمهم مسدساً وجلس بهدوء «يو بي أي». وربما حاول القاتل المعتوه أن يقلد ذلك الرجل الذي قتل زوجته المريضة رحمةً بها، فحاول هو الآخر قتل رفيقه المريض نفسيا رحمةً به أيضا، وربما تفيد ملاحظتي هذه لجنة التحقيق الموقرة فتأخذ بها، فتحفظ ماء وجه السيد وزير الداخلية وشرطة ولاية الخرطوم وسجونها البائسة. وبالعودة إلى التجاوزات الكثيرة التي تقع داخل سجون السودان المختلفة، نشير فقط إلى أن كل السجون بلا استثناء تفتقر إلى ابسط مقومات الحياة الآدمية الكريمة، وهي لا تخرج أناسا صالحين إلى المجتمع بعد قضاء فترة العقوبة المقررة، بل أشخاصا أكثر إجراما نتيجة ما يعانونه من ظلم على أيدي سجانيهم.. ولكم أن تتصوروا حارسا ضعيف النفس يبتز نزلاء السجون ليدفعوا له مبلغا من المال نظير خدمة يستحقها أو ليقوم بتجاوز ما، كما تفتقد سجوننا ونزلنا المعنية بإصلاح نزلائها إلى النظافة والتهوية الجيدة والمياه النظيفة والأكل النظيف، بل يفتقد النزلاء الرعاية الصحية الأولية، ولا يقابل النزيل طبيبا إلا إذا شارفت روحه على الخروج، طبعا لن نتحدث عن انعدام غرف مخصصة لخلوة الرجال داخل السجون بزوجاتهم ولا الأزواج خارج أسوار السجون بزوجاتهم في غياهب السجون في بلد يدعي حكامه أنهم سداة مشروع التوجه الحضاري، ولن نتحدث بالطبع عن واقع سجن النساء في أم درمان حتى لا نثير أشجان البعض، فمعاناة من ادخلوا سجون السودان لا تنفصل عن معاناة معظم السودانيين، وفوضى سجوننا لا تحصى ولا تعد، ويكفى أن نشير إلى هروب أربعة من قتلة مسؤول المساعدات الأمريكي أخيرا بالخرطوم، أما ضرب السجناء من قبل سجانيهم فهو أمر عادي ومقبول في دولة التوجه الحضاري التي تسعى لتأديبهم على ما اقترفوه من جرم ولو كان صغيرا، كما أن تكليفهم بما لا يطيقون من أعمال شاقة فهو أيضا أمر مقبول ومسموح به، ولا يمنعهم من الضغط على السجناء في الأعمال الميدانية سوى الخوف من هروبهم، والسعيد فيهم من يكلف بالعمل خادماً في منازل كبار الضباط، فهو على الأقل سيجد لقمة هنية بينما لا يجد رفاقه داخل السجون سوى الفتات، وكثير من النساء يتعرضن داخل السجون ودور الإيقاف إلى تحرشات ضعيفي النفوس. وقد أشار تقرير المنظمة العربية للإصلاح الجنائي لعام 2006م الذي تصدره سنوياً، إلى بعض التجاوزات في حقوق الإنسان داخل المحاكم والسجون نقتبس منه ما يلي: يصعب على منظمات حقوق الإنسان السودانية دخول السجون، إلا أنه يسمح بدخول محاميها بصفتهم القانونية، وتوجد في السودان مراكز غير قانونية وتنتشر في كل ولايات السودان، كما تنتشر مراكز احتجاز لا تخضع للرقابة القضائية العادية، وفي السودان هناك ما يُعرف بالمحاكم الخاصة لبعض الشركات كشركة الاتصالات والكهرباء وديوان الضرائب خصص لها قاضٍ لبحث مطالباتها المالية من المواطنين، وينتقص انعقاد هذه المحاكم ووجودها ذاته من حيدة واستقلال القضاء. كما يمنح الدستور السوداني رئيس الجمهورية بموجب المادة «132» حق إنشاء محاكم خاصة في حال ارتكاب مخالفات معينة، وقد أنشئت محاكم طوارئ خاصة في دارفور تصدر أحكامها منذ مايو 2001م، كما منح القانون سلطة الطوارئ صلاحيات استثنائية واسعة تمارسها بأوامر تصدر عنها، وفوق ذلك محاكم خاصة تختص بالنظر في مخالفات تلك الأوامر. كما يتم إنشاء ما يُسمى بالمحاكم الخاصة في السودان، بمعنى أنه أصبحت هناك محكمة خاصة بشركة الاتصالات السودانية، وهي شركة خاصة خصص لها قاضٍ للفصل في قضايا مطالباتها المالية من المواطنين، ومقر المحكمة داخل مباني الشركة. والشركة تخصص بعد ذلك عربةً ومنزلاً ومخصصات مالية للقاضي، وبنفس المنوال خصصت محكمة لشركة الكهرباء وأخرى لديوان الضرائب وثالثة للمصارف. مما يشكل تشكيكاً في نزاهة وحيدة المحكمة. ٭ كاتب وصحافي سوداني مقيم في قطر.