من يطلع على ما اسمته واشنطن ( خارطة طريق للسودان) يدرك أن مفرداتها يفترض أنها في صلب العمل اليومي الحكومي السوداني لاكمال عملية السلام.. كما يدرك مدى حاجتنا إلى حكومة وطنية تكتسب فاعليتها وقوتها من تمثيلها للجميع بما يدرأ عن بلادنا مغامرات الاستهداف.. ومن المهم النظر إلى ما جاء في الخارطة على أنه من صميم واجبات الحكومة السودانية، حتى يستقيم الأمر في الوضع الصحيح، وحتى لا تبدو حكومتنا وكأنما يتم تسييرها من الخارج بالريموت كنترول وبالجزرة والعصا، أو كأنها نحتاج إلى الرعاية الدائمة في انجاز أعمال هي من أهم واجباتها.. وتشترط خارطة الطريق الأمريكية على الخرطوم الوفاء بعدة عناصر من أجل استئناف التطبيع معها، بما في ذلك أن تعترف الحكومة باستقلال الجنوب في حال الانفصال.. وأن تواصل الخرطوم التزامها نحو السلام بين الشمال والجنوب والعمل على تسوية القضايا العالقة مثل البترول، الحدود، الجنسية، المياه، قضية أبيي وحل الأزمة في دارفور..، وإذا التزمت الحكومة بكل ذلك فإن الولاياتالمتحدة مستعدة لبدء عملية سحب السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والتطبيع معها، مع ملاحظة أن واشنطن تؤكد على أهمية الأفعال لا الأقوال بهذا الشأن.. ويبدو الأمر بهذه الصورة وكأن واشنطن تعمل على تيسير وتسيير الأمور بين الحكومة ومواطنيها وأنها تأخذ بأيديها لمعالجة مختلف الشؤون السودانية وتتوسط بين مختلف الفئات وحكومة الخرطوم، لنخلص في النهاية إلى صورة حكومة غير قادرة على التواصل مع مواطنيها، وذلك لأن الحكومة ببساطة لا تمثل كافة ألوان الطيف السياسي، وهي بالتالي غير قادرة على التعاطي مع الجميع بفاعلية يمكن أن تقود إلى استتباب الوضع السياسي بالطريقة التي تحظى برضاء الجميع.. وهذا لعمري وضع لا ترضاه أية حكومة ، إذ أن الإدارة الحكومية الفاعلة تستنبط وسائل ذاتية فاعلة لمواجهة مشاكل لايتوقف ظهورها، وهذا الأمر ينبع من طبيعة التحديات اليومية للحياة، ويستلزم حلولا تشكل مفردات العمل اليومي للإدارة الحكومية، دون الالتفات يمينا ويسارا بانتظار ما يجود به الآخرون من حلول، فيكفي ما قدمه المجتمع الدولي في نيفاشا، وينبغي أن نقول شكرا للجميع وأن نتعلم مما حدث، وأن نصر على انجاز الأفضل بأيدينا لا بيد عمرو.. ولعل ذلك يستوجب، ضمن أشياء عديدة، مباشرة العمل بالطريقة التي يمكن معها الحفاظ على ما تبقى من السودان بكل ما يتطلبه ذلك من اشراك الجميع في الخطوات المقبلة وبالطريقة التي تمهد لاقامة نظام سياسي في المستقبل القريب تتناغم فيه المكونات السياسية للمجتمع بعيدا عن الهيمنة الخارجية، التي تغريها على التدخل، حالة التشتت السياسي، ومن ثم تحاول توجيه الأمور وفق مرئياتها ومصالحها المحضة بعيدا عن المصلحة الحقيقية للسودان.. وفي بلد كالسودان فإن الصياح صباح مساء ورفع التحديات في وجه المعارضين وحتى الموالين غير الراضين لا يصلح لتصريف الشؤون المعقدة في ساحتنا السياسية، التي تحتاج أكثر ما تحتاج إلى خطاب متوازن يضع نصب عينه الخارطة الإثنية بتعدداتها واختلافاتها التي ينبغي أن تكون محفزا للوحدة والاجماع بدلا من تعميق تبايناتها بصورة سلبية تقضي على مزايا هذا التنوع والتعدد الذي قد ينقلب ليكون أداة للتقاتل والصراع. ** وتبدو الحاجة ملحة لتنشيط كامل الساحة السياسية من خلال افساح المزيد من الحريات أمام الجميع لأنه من خلال ذلك تجد النوايا الطيبة سبيلها إلى الظهور، وفي المقابل فإن عصا القمع لن تفيد إلا في كتم الأصوات وإلا في ما يتلوها من انفجار للمطالب والنوايا الحبيسة.. وفي هذا المقام ينظر إلى اعتقال أمين عام حزب المؤتمر الشعبي على أنه تحذير للآخرين بمن فيهم من أحزاب إلى التصرف ضمن النطاق الضيق للحرية، حتى وإن كان تجاوز ذلك النطاق ينطوي على ابتدار حلول صادقة لما تموج به الساحة السودانية من مشكلات عويصة.. وتبدو نغمة التحديات هي السائدة بين المؤتمر الوطني والمعارضة، وفيما يهدد المؤتمر الوطني بإمكانية القضاء على القدر اليسير من الحريات المتاحة، فإن المعارضة من الجانب الأخرى تهدد بازالة النظام، ولا يعتقد أنه في مثل ظروف السودان يتحمل الوضع مثل هذا الاحتقان الحاد، خصوصا وأن الأمور تبدو في الكثير من الاحيان على وشك الانفلات إن لم نقل أنها منفلتة اصلا في مناطق النزاعات، ومثل هذا التراشق المحموم بين المعارضة والحكومة من شأنه فقط زيادة حالة الفوضى، في ساحة تعج بقدر هائل من الجماعات المسلحة وغيرها من المحتمين تحت مختلف اللافتات الجهوية.. * ويبدو تنشيط آليات الديموقراطية أمرا لا مناص منه لتقليل حدة الجهويات التي باتت تستشري وتتقوى بصورة مقيتة، كما أنها انتقصت بالفعل من قوة الأحزاب التي فقدت الكثير من التأييد في الأطراف، بسبب هيمنة الحزب الواحد، وبسبب عدم فاعلية تلك الأحزاب ، ولأنهم في الأطراف رأوا أن الاحتماء بالسلاح يفيد كثيرا وبصورة مباشرة في الحصول على المطالب.. ومن هنا ينظر إلى محاولات التقارب بين المؤتمر الوطني وحزب الأمة على أنها بداية للم شمل الصف الوطني، وينبغي المضي إلى آخر الشوط من أجل اعادة العافية إلى الساحة السياسية والقبول بما تستوجبه هذه الخطوة بطريقة تحفظ للجميع اقدارهم وأوضاعهم واحترامهم، ولن يتحقق ذلك إلا بالتزام قوى بمقتضيات الديموقراطية والاحتكام إلى قواعدها ومبادئها.. فلو أن هناك وجودا فاعلا ومؤثرا للأحزاب لما اندلعت الكثير من النزاعات المسلحة، حيث يفترض أن تتصدى الأحزاب للمطالب وتعمل على تنفيذها، ودوننا الآن تلميحات هنا وهناك بالانفصال والحكم الذاتي وغيرهما، وكان من الممكن أن يتكفل حزب قوي يعمل في ظل ظروف ديموقراطية مواتية في الأطراف في الابقاء على اولئك الناس في الدائرة الوطنية للدولة إذا أفلح في التناغم مع مطالبهم وهواجسهم، وإذا كان بالفعل يتمتع بوجود محسوس ومؤثر على الساحة السياسية. [email protected]