ما بين صفة (الصراصير )التي اطلقتها محطة التلال الالف في رواندا في وصفها لمجموعات التوتسي سالت شلالات الدماء لما يزيد عن المليون شخص هناك، وبين العبارة المستخدمة الآن في توصيف اهل الجنوب من قبل بعض الكتابات الصحفية الداعية للانفصال ( السرطان ) وما يمكن ان تقود له من ازمات مستفحلة في البلاد بعد الاستفتاء او بعد الانفصال الذي صار حقيقة ماثلة يبدو الدور الكبير الذي يمكن ان يلعبه الاعلام في حفاظه على النسيج الاجتماعي او مساهمته في تفتيته . نقطة اخرى تبدو متشابهة مابين الجانبين وهي ان المجتمعين يقفان في نقطة مجتمعات ما بعد الصراع .مجموعة من شباب الصحفيين قادت مبادرة تهدف للمساهمة الصحفية في خلق خطاب للتعايش الاجتماعي بين المكونات الاجتماعية في السودان سواء المكون الذي انفصل او ما تبقى في اطار السودان الجديد او سودان ما بعد الانفصال ، وبحضور لافت من رموز الحقل الصحفي ممثلا في المجلس القومي للصحافة والمطبوعات واتحاد الصحفيين وعدد كبير من الصحفيين الشباب جلسوا امس في المركز القومي للانتاج الاعلامي في دائرة محور نقاشها كان القضايا الصحفية ما بعد الاستفتاء، وهي قضايا لا تنفصل بأية حال من الاحوال عن مجمل القضايا الوطنية باعتبار الدور الكبير الذي يلعبه الاعلام في قيادة وصياغة الرأي العام وتوجيهه وهو ما يعني انه سلاح ذو حدين حاول الجميع توجيهه في اتجاه خدمة القضايا الوطنية والحفاظ على التعايش السلمي والسلام الاجتماعي وهو امر تناول الماضي والحاضر ولم يهمل مستقبل الصحافة مقرونا بمستقبل الوطن، الماضي والحاضر واستشراق المستقبل بدا واضحا داخل القاعة التي استضافت اجيالاً صحفية مختلفة حيث جلس في المنصة استاذ الاجيال محجوب محمد صالح جاوره البروف علي شمو وتوسطهم العبيد مروح فيما جلس اقصى اليسار فيصل محمد صالح واقصى اليمين الصادق الرزيقي وفي جود آمال عباس وبخيتة امين وغيرهم من الصحفيين. ابتدر الحوار البروفيسور علي شمو وقبل ان يلج الى موضوع الجلسة اشاد بالمبادرة الشبابية والتي قال انها تؤكد على تعمق فكرة المسؤولية الوطنية والمهنية عند الصحفيين مشيرا لانها تمثل صمام الامان للحفاظ على التعايش السلمي في الوطن الذي يدخل في فترة مفصلية من تاريخه. واكد شمو على نجاح الصحافة باعتبارها العامل المؤثر في تجاوز المراحل السابقة الا انه اضاف اننا تجاوزنا الجهاد الاصغر المتمثل في فترة الانتخابات الى الجهاد الاكبر متمثلا في قضايا ما بعد الاستفتاء وحالة الاستقطاب الحاد حولها وهي مرحلة يمكن ان تنسف كل الذي حدث من سلام. وقال ان المعالجة تكمن في التعامل بمهنية ووفقا لاخلاق المهنة من قبل الصحف وعدم الانسياق خلف تصريحات السياسيين واضاف ان الحفاظ على السلام هو مسؤولية الصحفي وليس السياسي واضاف ان التجربة الصحفية السودانية فيها سلبيات الا ان ايجابياتها اكبر من سلبياتها. ورهن الاستاذ محجوب محمد صالح الحفاظ على التعايش السلمي بضرورة سيادة مفهوم الانضباط المهني عند الصحفيين وقال انه يعتمد على المواثيق الاخلاقية والادبية اي ان ضمير الصحفي هو المحدد الاساسي وان حرية التعبير ليست هي ميزة للصحفي بقدر ما هي حق للمواطن بحسب الدستور والمواثيق الدولية ويجب التعاطي معها وفقا لهذا المنحى، وهي امر لايمكن تحقيقه الا في ظل مجتمع ديمقراطي. وقال ان وظيفة الصحافة الآن هي ضمان ان لا ينتقل صراع واستقطاب الماضي الى الفترة اللاحقة في تاريخ البلاد من خلال مخاطبة صناع الرأي العام من اجل الانتقال نحو وضع جديد لا يستصحب ميراث الماضي ،واعتبر ان المهنية هي الطريق نحو استدامة السلام والحفاظ على التعايش السلمي مع استصحاب تجارب الآخرين الايجابية في هذا المنحى ووضع التجارب السيئة في مجهر التحليل ،مشيرا الى تجربة رواندا باعتبارها تجربة ترسخ للدور السالب لوسائل الاعلام في تغذية الصراعات والدفع بها نحو اسوأ الاحتمالات . وختم حديثه بان على الصحفيين عدم الانزلاق نحو الدعوة للعنف واثارة الكراهية الدينية والعرقية والجهوية والدعوة للحرب. وفي مداخلته اتخذ رئيس تحرير الانتباهة (الصادق الرزيقي ) منحىً نقدياً للتجربة والممارسة الصحفية التي قال انها تعاني من مجموعة من السلبيات اولها هو الخلط المريع ما بين الموقف السياسي والآثار الاجتماعية له واضاف ان هناك صراع سياسي متبوع بصراع اجتماعي قبل ان يقول ان اس البلاء في الممارسة الصحفية اليومية هو كتابة الرأي والتي قال ان معظم الذين يمارسونها الآن يكتبون انطباعاتهم الشخصية بعيدا عن الموضوعية. وقال ان كتابة الانطباعات مرغوبة في الاوضاع العادية ولكن الواقع الآني للسودان لا يحتملها واضاف ان ثمة تداخل يبدو واضحا ما بين المواقف السياسية والممارسة الصحفية ،مشيرا الى ان عملية التعايش لا يمكن ان تصنعها الصحافة التي لا تملك القدرة على إلجام الصراعات السياسية في مناطق الهامش او مناطق التماس . وقال ان الممارسة الآن معيبة وهو عيب مرده لغياب الروادع القانونية والاخلاقية الكافية ووصف الرزيقي المرحلة المقبلة بانها ستكون مرحلة بالغة التعقيد وملأى بالقضايا الخلافية خصوصا قضايا ما بعد الاستفتاء واشار الى ان هنالك حالة من الخلط في تقييم تجربة الانتباهة بين الخط السياسي الذي تطرحه وما بين الاتهام بالتأثير على التعايش الاجتماعي في البلاد، واضاف ان الحل يكمن وبشكل اساسي في توفر الرشد في عملية الممارسة الصحفية وفقا للقواعد الاخلاقية وهو امر يحتاج لفهم عميق من الجميع في ظل هذا الواقع الموصوف عنده بأنه لا يسر احدا. وفي تحليله للدور المنتظر للاعلام وللصحافة من اجل الحفاظ على السلام الاجتماعي ربط فيصل محمد صالح بين الامر وعملية الاوضاع السائدة في السودان والتي يصفها بانها تمثل اوضاع مجتمعات ما بعد الصراع ولها مجموعة من الخصائص وهو وضع اشبه بوضع المريض في مرحلة النقاهة يتميز بهشاشة المؤسسات الدستورية القائمة ،غياب وضعف الثقة بين الاطراف المنتقلة من حالة صراع (الوطني والشعبية ) القابلية للتوتر الحنين للعودة الى النزاع مرة اخرى، ضعف وغياب آليات الحوار والتردد في عملية الانتقال من الشمولية نحو الديمقراطية . وقال ان الاعلام يلعب دورا كبيرا في رسم الصورة القادمة في البلاد سلبا او ايجابا وتناول فيصل ما اسماه خطاب الكراهية الذي تم استخدامه في رواندا ويتكرر الآن في التجربة السودانية مقاربا ما بين توصيف الصراصير هناك والسرطان هنا واشار الى اخفاقات قابلت الممارسة الصحفية في رسم صورة الآخر لتجاوز حالات الاحتقان مشيرا لاكتفائها بالتوصيفات القديمة التي تنعته بالمارق والمتمرد والشيطان وغيرها من الصور المتخيلة للآخر عند المجموعات السكانية المختلفة في السودان والتي تتعاطى معه وفقا لهذه الصورة النمطية والسلبية اشار إلى ان خطاب الكراهية تجذر شمالا وجنوبا واضاف ان التلفزيون القومي ساهم فيه ولم ينحصر شمالا فقط فحتى في الجنوب هناك خطاب للكراهية من خلال توصيف واستخدام عبارة الجلابي واضاف ان للاذاعة دور ايجابي في نشر خطاب التعايش السلمي وللصحافة ايضا دورها مع بعض الاستثناءات واعتبر فيصل ان نشر خطاب المصالحة يجب ان يكون جوهر العملية الصحفية في مقبل الايام ويجب ان يستفاد فيه مماهو متوفر واستصحاب تجارب الآخرين اصحاب المبادرة من شباب الصحفيين الذين مثلهم خالد البلولة فاشار لنقطة اساسية وملاحظات قال ان المتحدثين تجاوزوها بحصرهم للنقاش في التعايش بين الصحافة والمجتمع واهمالهم نمط العلاقة مابين الافراد داخل المؤسسات الصحفية وبين الصحافة والجهاز التنفيذي . واعتبرت آمال عباس ان استجابة الاتحاد لمثل هذه الدعوة وقيام الشباب بالمبادرة دليل عافية يحسب للمجتمع الصحفي الذي يحتاج لنقد الذات اكثر من حاجته لجلد الذات وهي خطوة من شأنها الغاء كل حساسيات وصراعات الماضي واستلهامها كنقطة انطلاق من اجل فتح ابواب الحوار بعيدا عن القاء او اقصاء او ارهاب الآخر. الامين العام لاتحاد الصحفيين الفاتح السيد اعتبر الخطوة بانها الاولى من اجل جمع الصف الوطني قبل ان يستبدلها بالصحفي مشيرا إلى ان الاتجاهين يصبان في كنانة واحدة هي كنانة المحافظة على النسيج الاجتماعي وهي نقطة من اجل فتح آفاق جديدة للحوار الذي يصب في صالح معالجة سلبيات العمل الصحفي ومعوقاته المتمثلة في بيئة ومؤسسات العمل وتوفير حقوق العاملين وتوفير المقومات المساعدة للقيام بالدور المنوط بها في قيادة دفة المجتمع والمحافظة على تماسكه. وقال انهم كاتحاد ينظرون بحالة من الاشفاق الى التأثيرات التي تفرزها السياسة والمعلنون على اتجاهات الصحافة ودورها.