كانت تقف على قارعة الطريق ترتدى أثواباً بالية قبل عام «1505م» ولكن مزقتها اليوم، لتعلن فجر إشراق جديد وهى منذ أن يفعت ترفع راحتيها الى السماء تسألها ان تنزل عليها المن والسلوى، وان تغمر واديها «بصناديق الطابشير»، لأنها صاحبة رسالة لا تريدها أن تتوقف، فالنيل يجرى تحت أقدامها بماء ازرق نمير يكفيها مؤونة البحث عن الماء، وسهل البطانة الذي يلفها يدثرها بخضرة في عناق مع النيل، إنها مدينة رفاعة التي شرعت في بناء مجسم يحكى عظمة تاريخها المشرق تعتليه «شعلة» يقبضها ساعد امرأة فى رمزية عميقة لتعليم البنات الذي انطلق من باحتها فعم سائر ربوع السودان. فمدينة رفاعة من المدن العريقة في ولاية الجزيرة الخضراء، تقع شرق النيل الأزرق قبالة مدينة الحصاحيصا، اسمها منسوب الى قبيلة رفاعة صاحبة الاسم، ويقال أيضاً إنها تعني المنطقة المرتفعة، واكبر القبائل الموجودة فيها «الرفاعة والشكرية والبطاحين». وتعد رفاعة من اقدم المدن السودانية التي اهتمت بالتعليم وارتبطت فى أذهان الجميع برائد تعليم المرأة فى السودان الشيخ بابكر بدري «1856 يوليو 1954م» الذى أنشأ أول مدارس لتعليم البنات وسماها «مدارس الأحفاد»، وقد هاجر بابكر بدري بعد معركة كرري 1898م التي شارك فيها الانصار، الى مدينة رفاعة واستقر هناك وأنشأ مدرسة للأولاد تختلف عن المدارس التقليدية التي كان متعارفا عليها وقتها، والشيخ بابكر بدري كان رجل دين معروف بالتزامه، ولكن مع ذلك كانت له نظرة مختلفة لتعليم البنات عما كانت سائدة وقتها، فكان يرى أن من حقهن بل و من الواجب أن ينلن نصيبهن من التعليم، وافتتح أول مدرسة لهن عام 1907م في رفاعة، وتطورت الاحفاد لتصبح مؤسسة تعليمية كاملة تشمل مدارس للاولاد والبنات في مختلف المراحل، وتوج ذلك بكلية الاحفاد الجامعية للبنات التي تحولت الى جامعة الاحفاد للبنات. ومن المنارات المشهورة ايضاً مدرسة الشيخ محمد لطفي التي يدرس فيها أكثر الطلبة الذين اتوا من جنوب السودان للتعليم، وكذلك بها اقدم خلوة لتحفيظ القرآن الكريم، واول امرأة تعلمت وقادت النساء نحو القمة ونحو التعليم هي الاستاذة نفيسة محمد عوض الكريم التي كان لها القدح المعلى في تعليم نساء المنطقة ونساء السودان عامة، بصحبة زميلاتها حليمة الطيب وسكينة ابو تركى وعائشة مالك، فحملن مناهج الاقتصاد المنزلى وأشغال الإبرة وعلمن نساء السودان. وبجانب ذلك فإن المدينة عريقة بتراثها الثقافى والاجتماعى والإبداعى، ويشهد لها انها أول مدينة ادخلت المسرح في السودان بعد أن نقل الفكرة من مصر المبدع محمد البدوي، وسمي أبو الفنون ب «مسرح النيل الأزرق». ومن رموز المدينة أيضاً الشاعر محمد عثمان عبد الرحيم الذي كتب كلمات أغنية «أنا سوداني أنا» التى تغنى بها الفنان الراحل حسن خليفة العطبراوي، ومن رموز المدينة أيضاً البروفيسور عثمان وقيع الله الذى خط المصحف الشريف بأسلوب ينافس الخط الفارسى، ويمتدد الإبداع المتوارث من عبقرية رفاعة ليكون الوفاء هذه المرة لمدينة العلم والنور بمجسم من تصميم عميد كلية الفنون الجميلة والتطبيقية بجامعة السودان الدكتور عمر محمد الحسن درمة. وفكرة المجسم تقوم على مسلة من الحجارة فى مساحة قاعدتها «25م 15م» وارتفاع «12.5 م» وعلى رأس المسلة حجارة منحوتة فى شكل كتب يخرج من وسطها ساعد امرأة تتحلى بأسورة ذهبية تحمل مشعلاً، فى إشارة إلى رمزية عميقة باعتبار أن المدينة رائدة فى تعليم النساء، ومنها انطلقت جذوة المعرفة بعد أن كان التعليم وقتذاك حكراً على الرجال، لتكسر رفاعة المتاريس وتشعل شمعة تعليم النساء فى غياهب القيود الاجتماعية التى كانت تحرم دخول البنات المدارس. ويقول الدكتور عمر درمة إنه سينفذ المجسم قريباً بطريقة وأسلوب يجعله يعيش كما عاشت أهرامات مصر، لرد الجميل لمدينة تستحق وفضائلها لا تحصى، ويوضح درمة أن العمل كونت لتنفيذه لجنة من أبناء رفاعة الحادبين اتصلوا بمعتمد محلية شرق الجزيرة الذى ثمَّن المشروع ووعد بدعمه.. وعبر «الأبواب» تناشد اللجنة أبناء رفاعة بالداخل والخارج مد يد العون حتى يرى المشروع النور.