ثمة تزامن غريب بين تعثر مفاوضات الدوحة حول إقليم دارفور المنكوب ،بالخميس الماضي،والقرار الذي صادقت عليه الخرطوم ،ممثلة في مجلس وزرائها بتقسيم «دارفور الكبرى» إلى خمس ولايات ،نهار ذات اليوم ،ليضم إقليم دارفور المضطرب خمس ولايات بدلاً من ثلاث ،والحال هو ذاته في الميدان،وفي قاعات التفاوض ،خطوة إلى الآمام وخطوتان نحو الخلف .وثيقة السلام الشامل التي إقترحتها الوساطة في الدوحة قبل أيام ،لازالت حبراً على ورق ،حيث لم يصادق طرفا النزاع سوى على ورقة ونصف من أوراقها الكثيرة ،المثقلة بالآجندة ،فيما لازال مطلب الاقليم الواحد قائماً على رأس أولويات الحركات المسلحة التي لازالت تنتشر هناك على طول ميدان المعركة وعرضه .وبالمقابل لازالت الحكومة السودانية تتمترس خلف إستراتيجيتها الخاصة لمايعرف بسلام دارفور ،تمضي في تنفيذها في ذات الوقت الذي تتفاوض فيه مع الحركات على أجندة أخرى ،بيد أن خطوات إستراتيجيتها الداخلية بدت أسرع إيقاعاً عندما صادق مجلس وزرائها أمس الاول على مشروع قانون يقضي بالغاء ولايتي جنوب وغرب دارفور. وينص كذلك على إنشاء ولايات جديدة تتقدمها حسب مشروع القانون ولاية جنوب دارفور وعاصمتها نيالا وتتكون من (10) محليات، وولاية شرق دارفور وعاصمتها الضعين، وتتكون من خمس محليات، وولاية غرب دارفور وعاصمتها الجنينة وتتكون من (8) محليات، وولاية وسط دارفور وعاصمتها زالنجي وتتكون من (8) محليات.وهو القانون الذي قدمه محمد بشارة دوسة وزير العدل،مشيراً في حديثه للصحفيين أن القرار يأتي متسقاً و مقتضيات إستراتيجية سلام دارفور و إستناداً على الدستور الإنتقالي، الذي حدد بأن تكون جمهورية السودان لا مركزية وتتكون من ولايات يحدد التشريع القومي عددها وأسماء عواصمها، بالاضافة إلى أنه يأتي كذلك نزولاً لرغبات أهل دارفور المطالبة بزيادة ولاياتهم.ولم يقتصر القانون المجاز لتوه على تقسيم إقليم دارفور على جهاته الاربع ومركزه ،بل ترك للولايات المنشأة بموجب أحكامه ووفقاً لسلطاتها المنصوص عليها في الدستور الولائي، أن تنشأ بالتقسيم أو الدمج لأية محلية من محلياتها التي حددها مشروع القانون، كما نص أيضاً على أن تكون الحدود الجغرافية لهذه الولايات هي ذات حدود المحليات المكونة لها وفق خارطة مرفقة ،حسبما مضى لذلك الناطق الرسمي باسم مجلس الوزراء عمر محمد صالح الذي أكد في تصريحات صحفية أن القانون قد أجيز من قبل مجلس الوزراء في جلسة ترأسها الرئيس عمر البشير .وبعيداً عن تجاذبات المفاوضات ومطالبات الحركات وأهل الاقليم بان تكون دارفور إقليماً واحداً ،كما في ماضي عهودها ،إلا أنه يبدو أن الخرطوم قد حزمت أمرها تماماً ،لتتجاوز مرحلة التقسيم على الورق ،لتشرع في عملية إنزاله على أرض الواقع ،لتقوم بمواءمة القرار ومتطلبات الفترة الانتقالية ،لتشير في منطوق المادة الرابعة منه إلى أن الترتيبات التشريعية في الولايات الوليدة ،تعود لرئيس الجمهورية الذي يخول له إتخاذ مايراه مناسباً لحين قيام الانتخابات وفقاً لما مضى إليه دوسة مضيفاً أن المادة الخامسة من القانون تمنح رئيس الجمهورية كذلك حق تكوين لجان لتقسيم الأصول بعدالة بين الولايات، والنظر في تقسيم العاملين بين الولايات حتى لا تختص ولاية بكفاءات دون الأخرى،مبيناً أن القانون أفرد مادة للحديث عن الفترة الإنتقالية، التي ستتم خلالها الإجراءات ليردف : « بما أن الولاة في السودان منتخبون ،لذلك فان القانون نص على أنه للرئيس الحق في إتخاذ التدابير اللازمة لحين قيام الإنتخابات».مصادقة مجلس الوزراء على القرار وشروع مشرعه في الترويج له والتمهيد لتنفيذه بهذه السرعة ،يشي بان دارفور الكبرى ستصبح في غضون الاسابيع القليلة القادمة أرضاً لخمس ولايات ،بولاة وسلطة تشريعية ،وبنود صرف جديدة ،وما هو إلا توقيع مرتقب من مجلس الولايات يعقبه توقيع رئاسة الجمهورية ،ليصبح القرار ساريا وضمن حقائق الارض في الإقليم المضطرب ،وهو الأمر الذي من شأنه أن يعيد إنتاج أزمة دارفور من جديد بعد أن خف أوار الحرب حسبما يقرأ ذلك أستاذ العلوم السياسية والمحلل السياسي المعروف الدكتور صلاح الدومة ،مشيراً إلى أن تقسيم إقليم درافور إلى خمس ولايات أو الالتفاف على جوهر القضية عبر إستفتاء أو غيره ،يؤكدان عدم جدية حكومة الخرطوم والمؤتمر الوطني في الوصول إلى السلام ،ويبين الدومة الذي تحدث ل(الصحافة) أمس أنه كلما خفت صوت الحرب والموت في دارفور ،لجأ المؤتمر الوطني لاشعال النار مجدداً ،مشيراً إلى أن القرار الاخير بتقسيم دارفور لخمس ولايات يأتي ضمن أساليب المؤتمر الوطني المعروفة للالتفاف على الازمة ،وهي الاساليب التي يصفها الدومة بسياسة التشفي والانتقام ،والتي تهدف إلى خلق موازنات عرقية ينال بموجبها الجنجويد القادمون الجدد لدارفور شريعة مزيفة ،يرى الدومة أنها غير موجودة على أرض الواقع .كما أن الخطوة التي تقضي بتفتيت دارفور تعتبر غير ذات بال في مسار العملية التفاوضية التي يمكن أن تجهض إذا ما أصر المؤتمر الوطني على قرار الخمس ولايات في الوقت الذي ينادي فيه أهل دارفور بالاقليم الواحد وتسعى فيه قوى المعارضة إلى عودة البلاد لنظام الاقاليم الستة .وعلى الرغم من أنه لم يتبق وقت طويل على نهاية الفترة الانتقالية في التاسع من يوليو القادم ،إلا أن التفاوض حول أزمة الاقليم الذي تقسم إلى خمسة أجزاء لازال يمضي بوتيرة بطيئة جداً ،كما أنه من شأن القرار الاخير الذي شرعت الخرطوم في تنفيذه ،أن يعرقل التفاوض نهائياً وفقاً لما أعلنته الحركات المسلحة التي لازالت متمسكة بخيار الاقليم الواحد لدارفور ،فالقرار حسب حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور مرفوض تماماً ولامعنى له ،لكونه يهدف لإضعاف نفوذه وتقسيم دارفور وفقاً للخطوط القبلية وتفتيت قاعدة قوته العرقية. كما أن التأمين على مطلب الاقليم الواحد يعتبر خطاً أحمر بالنسبة لحركة العدل والمساواة، التي آثرت أن تعبر عن موقفها ،عبر بيان مزيل بختم أمانة الطلاب المركزية للحركة ،ليأتي بلغة أكثر حده رافعاً سقف المطالب إلى ، ضرورة اقامه نظام حكم ديمقراطى وتقديم العدالة على عملية السلام عبر تقديم مرتكبي الجرائم للعدالة الدولية ،بالاضافة إلى إشراك القوى السياسية في حل مشكله السودان فى دارفور مع منحهم رئيس أونائب رئيس وفق تقسيم عادل للسلطة والثروة.ومابين إصرار الخرطوم على تشكيلتها الجديدة للاقليم وتمترس الحركات المسلحة خلف مطلب الاقليم الواحد ،يظل التصعيد على الارض مستمراً ،ريثما تصفو سماء الدوحة ،مسفرة عن تنازلات جدية من أطراف التفاوض ،سيما الخرطوم التي بيدها أن تصك قوانين أخرى أكثر تشجيعاً على السلام . [email protected]