سُكتُم بُكتُم    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    إسرائيل والدعم السريع.. أوجه شبه وقواسم مشتركة    السودان شهد 6 آلاف معركة.. و17 ألف مدني فقدوا حياتهم    شاهد بالفيديو.. مذيعة تلفزيون السودان تبكي أمام والي الخرطوم "الرجل الذي صمد في حرب السودان ودافع عن مواطني ولايته"    مسيرات تابعة للجيش تستهدف محيط سلاح المدرعات    مصر: لا تخرجوا من المنزل إلا لضرورة    الملك سلمان يخضع لفحوصات طبية بسبب ارتفاع درجة الحرارة    واصل برنامجه الإعدادي بالمغرب.. منتخب الشباب يتدرب على فترتين وحماس كبير وسط اللاعبين    عصر اليوم بمدينة الملك فهد ..صقور الجديان وتنزانيا كلاكيت للمرة الثانية    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    المريخ يستانف تدريباته بعد راحة سلبية وتألق لافت للجدد    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    تعادل سلبي بين الترجي والأهلي في ذهاب أبطال أفريقيا في تونس    باير ليفركوزن يكتب التاريخ ويصبح أول فريق يتوج بالدوري الألماني دون هزيمة    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مقتل مواطن بالجيلي أمام أسرته علي ايدي مليشيا الدعم السريع    محمد وداعة يكتب: معركة الفاشر ..قاصمة ظهر المليشيا    أمجد فريد الطيب يكتب: سيناريوهات إنهاء الحرب في السودان    يس علي يس يكتب: الاستقالات.. خدمة ونس..!!    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



في سيرة معلم مغمور ... عبد الملك عبد الله حامد مؤسس مدارس دار السلام في ربك
تجربة في التعليم في السودان
نشر في الصحافة يوم 16 - 06 - 2011

عبدالملك عبدالله حامد مدرّس من معلمي المدارس الوسطى العاديين الذين تخرجوا من كلية المعلمين الوسطى I.T.T.C. في بخت الرضا. وهو لا يمتاز عن زملائه بشيئ غير عناده الملحوظ الذي يجعله عندما يؤمن بشيئ ويعتقد صوابه لا يتنازل عنه قيد أنملة مهما كانت الكوابح والتحديات. فهذا كان هو عبدالملك في جميع مراحل حياته المثيرة للتأمل. وقد يكون مخطئاً في بعض ما يصر عليه من عمل أو رأي يطرحه، لكنه وبكل شجاعة كان يتحمل تبعات أخطائه ولا يرمي بها على كاهل أحد ويقول إن فلاناً كان هو سبب الفشل الذي قاد إلى المعاناة. بمعنى أنه لا يتنصل عن أخطاء جنتها يداه أبداً. وأنا كأخ له أكبره بسنين عدداً كثيراً ما كنت أنصحه مردداً له الحكمة القائلة : ( لا تكن ليّناً فتُعصر ولا يابساً فتُكسر ). وعهدي به أنه لم يُكسر حتى عندما يفشل في إنجاز مهمة من مهامه ؛ وبالمقابل إنه لم يُعصر ، ولو خسر كل شيئ. ولعلكم سادتي القراء تقرأون جانباً من شخصية المعلم عبدالملك في الوقائع التالية:-
عندما جاء عبدالملك ملتحقاً بكلية المعلمين الوسطى I.T.T.C. في بخت الرضا مع دفعته العاشرة نشب خلاف بينه وبين عميد المعهد الأستاذ مندور المهدي (الأب) وكان يمكن تسويته بسهولة بإعتذار من جانبه ويواصل عبدالملك دراسته مع زملائه. ولا ضير أن يعتذر تلميذ لأستاذه حتى وإن رأى الحق في جانبه، فليس في ذلك ما يشين. لكن عبدالملك لعناده رفض ذلك الإعتذار الذي نُصح به مهما كانت النتائج التي تمخض عنها عناده إذ كانت هي فصله من المعهد وإرجاعه للعمل التجريبي وستتاح له فرصة الإلتحاق بالكلية لاحقاً. وعندما جاء العميد مندور المهدي في زيارة تفقدية للمدرسة التي أرجع إليها عبدالملك ? مدرسة القطينة الوسطى ? كان اللقاء بينهما طبيعياً كأن شيئاً من جفاء لم يحدث، و وعده بإستيعابه في الكلية في العام القادم ، وقد كان.
أتيحت لعبدالملك الذي كانت مواد تخصصه الرياضيات والعلوم واللغة الإنجليزية فرصة عمل في التدريس مع شركة أرامكو الأمريكية في المنطقة الشرقية من المملكة العربية السعودية بتعاقد خاص وبراتب مجزي. ولمّا كانت إملاءات مخدميه الأمريكان مجحفة في رأيه لم يعمل عبدالملك بالحكمة القائلة: (دارهم ما دمت في دارهم ، وأرضهم ما دمت في أرضهم) ، لأنها في نظره إستسلاماً مهيناً ? وهو العنيد فاستقال بخطاب إستقالة جريئ تحدّث عنه زملاؤه بإعجاب شديد ، يشهد عليه صديقه وزميله الأستاذ محمود قرشلي الذي إغترب معه وبالصبر ظل يعمل في الشركة زمناً طويلاً حتى ? بفضل الله ? منّه نعمة يستحقها بارك الله له فيها ، وقفل عائداً عبدالملك إلى وطنه بعائد مادي لا بأس به كان يمكنه من أن يؤسس له به مشروعاً إقتصادياً صغيراً يتعيش به ويكون سيداً على نفسه أو يضعه في أحد البنوك رصيداً له عند الملمات تجاوباً مع قول : (القرش الأبيض لليوم الأسود) ويلتحق عبدالملك من جديد بوزارة المعارف، فهي في حاجة لأمثاله. وبما أن الوزارة هي الأخرى فيها رؤساء يملون إرادتهم حتى لو كانت خطأً ، وهو عبدالملك من عناده لا يعرف الإنحناء ? فهل فعل من الخيارين أحدهما؟ لا ، لم ينشئ عملاً إقتصادياً يجني ثمرته ، ولم يلتحق من جديد بوزارة المعارف. إذن ماذا فعل الأستاذ العنيد؟!
فتح عبدالملك مدرسة دار السلام الوسطى بنين عام 1965م في ربك بعد أن صُدّ عن فتحها في مسقط رأسه الجزيرة أبا بحجج بيروقراطية لم تقنعه. ولإنشاء وتأسيس مدرسته لم ينطلق عبدالملك في حملة جمع تبرعات وما شابه ذلك كما يفعل الآخرون ، بل إكتفى بما أحضر من مال أتعاب غربته، وهو لا يكفي ولكن بعزم وإصرار شمّر عن ساعديه مستعيناً بزملائه الأوفياء الذين عينهم للتدريس معه، وبتلامذته النجباء الذين إختارهم فصلاً أولاً في مدرسة دار السلام الوسطى. ومع مسيرة الدروس أخذوا جميعهم المعاول وأدوات البناء يبنون مع العمال والحرفيين الذين رضوا بالأجر القليل من أجل العمل الجليل. فكان عبدالملك وكان زملاؤه المعلمون لا يترفع أحدهم عن حفر للأساس أو ضرب للطوب أو نقل للمونة حتى تم تشييد الفصل الأول الذي إنتظم التلاميذ يدرسون فيه على وجه السرعة وبإتقان كان البناء. لكن ما زال المتبقي من مباني تنتظر التشييد كثيرة والمرصود لها من المال قليل ، لكن عبدالملك وزملاؤه كانوا في تأهب واستعداد ؛ فكان الواحد منهم ينفض يديه من غبار الطباشير ليغمسها في مونة الطين للبناء أو يمسك بيمناهما الشاكوش ليدق مسماراً في باب أو في زنك بعد أن يعلو السقف ، وهكذا دواليك هو وهم عبدالملك وزملاؤه الأفذاذ مروان وشعبان والغالي وشريف والأمين ...
ولتعلموا سادتي قراء الصحافة ? جريدة المثقفين والمهمشين على السواء ? إن عبدالملك قد خرج من تجربته التعليمية في مدرسة دار السلام، بل من مدارس دار السلام لأنها قد صارت لها أنهر في مدرسة البنين ، وأسّس توأماً موازياً لها هي مدرسة دار السلام الوسطى للبنات ... فخرج عبدالملك من هذا العمل التربوي .. أكرر (العمل) لأنه لم يكن أداءاً نظرياً فقط . خرج خبيراً في البناء بالطوب أو الجالوص يستخدم بمهارة ميزان الماء وميزان الخيط و يحكم نسب خلط الأسمنت بالرملة حسب نوع المدماك الذي يبني. وصار أسطى معلم في الحدادة واللحام. وأصبح نجاراً له شاكوش وإزميل ومنشار .. فيا درّه من معلم وأسطى وعامل بناء!.. وعلى ذلك درّب المعلم عبدالملك تلامذته فما خاب منهم أحد في تحصيل علم أو في معترك الحياة العملية. ومن طلبته النجباء هؤلاء أذكر لكم الطالب صديق البخاري الذي واصل تعليمه الجامعي وساهم بفاعلية في الحياة العامة وأخصه بالذكر لأن والده أخي الطيب البخاري كان مريداً لوالدنا السيد عبدالله الهاشمي وكثيراً ما كان يزوره في الجزيرة أبا ويسر بصحبته ولا يتوانى من الإنخراط في خدمته بتواضع تام كما يخدم المريد شيخه في الأدب الصوفي أو الإبن أباه ، يرحمهما الله.
ولكم أن تسألوني هل إنفرد عبدالملك بذلك العمل التربوي الكبير وحده أم كان له أعوان في العمل الميداني ومستشارون لهم إلمام وتخصصات فكرية وتربوية فأجيبكم بنعم. فقد كان له أعوان يشدون من أزره ويتحركون معه من مواطني مدينة ربك منهم على سبيل المثال الشيخ يوسف جلال الدين ، وإبن أخيه حامد أحمد جلال الدين ، وأحمد عبدالله الطاهر وبابكر حسين وبابكر يوسف وشيخ الدين أحمد جمال الدين ومصطفى وعوض الكريم من لجنة المدرسة ، ويوسف هجو ألخ. وفي الجانب الفكري والدعم المعنوي أرجو أن أذكر من مجلس الأمناء كلاً من د. أحمد السيد حمد وعبدالرحمن سيد أحمد ود. موسى عبدالله كما أضف لهؤلاء شخصي الضعيف، وكان منهم أيضاً الأستاذ عبدالمنعم عبداللطيف الذي كان يولي مدرسة دار السلام عنايته الفائقة من موقعه ذي الصلة مساعداً لوكيل المعارف مديراً لإدارة التعليم الشعبي ولم يكن يداري إعجابه بالعميد عبدالملك لجرأته، لأنه الأستاذ عبدالمنعم كان قمة في الجرأة وحسم القضايا في حينها مهما تشعّبت الآراء.
ومن الزملاء في المهنة في ربك الذين وقفوا إلى جانب عبدالملك وأعانوه بتغطية بعض الحصص في مدرسة دار السلام الزميلان محجوب المبارك وبكري محمد صالح ، ومن مكتب التعليم في ود مدني وجد الدعم والمساعدات القيمة من كل من مسئول التعليم الأول الأستاذ محي الدين دياب ومن مساعديه الأستاذين أحمد محمد علي ومحمد جاد كريم وغيرهما من الزملاء الكرام جزاهم الله خير الجزاء.
وإنحيازاً منه عبد الملك إلى جانب تلامذته لم يكن يصُد عن مدرسته تلميذاً يعجز والده عن دفع المصروفات المقررة من قبل الوزارة، وفي شرعته كان لا يرى كبر السن عائقاً عن الإلتحاق بالمدرسة إذا توفرت الرغبة وحسن الخلق . وفي منزل عبد الملك كان هناك براح لإيواء الطلبة الغرباء الذين لا أهل لهم في ربك ، من غير مقابل طبعاً. والمدهش حقاً أن الراتب الذي كان يتقاضاه العميد عبد الملك فعلاً أقل من راتب كثير من المعلمين الذين يعملون معه وإن ظهر في كشوفات الرواتب التي ترفع للجهات المسئولة بخلاف ذلك ، فهو يُنقص راتبه ليسد به عجوزات الميزانية التي تسبب فيها رفع المصروفات عن كاهل التلاميذ الفقراء كلياً أو جزئياً حسب الحالات الفردية المؤكدة، وهو يفعل ذلك بعناد رغم الإضرار به.
وجاء السلم التعليمي المشهور في ولاية وزير المعارف محي الدين صابر عهد حكومة مايو الإنقلابية ، وعمل عبد الملك بإخلاص مع لجنة بناء الفصول الإضافية بحذق بخلفيات تجاربه في البناء والتشييد في مدارس دار السلام ممّا وفّر لهذه اللجنة الكثير من المال والجهد والزمن سرعة في الإنجاز وتجويداً في الأداء الشيئ الذي حدا بالإداري الجنوبي في ربك المسئول عن السيد بناسيو لورو أن يشيد بعبد الملك ويقيّم أداؤه تقييماً منصفاً، في الوقت الذي وزعت فيه وزارة المعارف أنواط الجدارة والتقدير وخطابات الشكر لمن هم أقل عطاءاً وأداءاً من المعلم المغمور عبد الملك فهي لم تقل عنه شيئاً ، ولم تذكره بكلمة. فلم يلتفت لذلك الجحود عبد الملك لأن أعماله كلها كانت من أجل الوطن وإنسانه وليست لمكاسب ذاتية تخصه.
وانتُخب عبد الملك رئيساً للمجلس الشعبي لمدينة ربك ، وفي غضون ولايته اكتشفت تجاوزات في بيوعات أراضي ربك لم يكن له يد فيها ، لكنه وبفعل كيد الكائدين أُعتقل مع ضابط الأراضي وطاقمه و أُودع السجن الذي ظل فيه وهو سجين يجاهر بالقول ويتحدّى السلطة إن وجدته مداناً بأدلة حقيقية أن تنفذ فيه حد السرقة بأغلظ أوصافه وهو القطع. فيا له من مسئول أمين واثق بأمانته. وظل سجيناً لا يرهبه سجن أو سجّان إلى أن برأه القضاء العادل وأشاد به قاضي الموضوع رئيس المحكمة. الحكم الذي أثلج صدور الأغلبية الساحقة من مواطني مدينة ربك الذين يعرفونه شجاعاً أميناً عادلاً حق المعرفة.
وعند الغزو الجائر الذي ارتكبته حكومة مايو نميري للجزيرة أبا حوصر منزل عبد الملك بإعتباره رمزاً من رومز الأنصار في ربك وقريباً من أقرباء الإمام الهادي المهدي. وأمطر المنزل بنيران بنادق نظام مايو التي إخترق رصاصها الأبواب والشبابيك ، وسلّم الله أطفاله ووالدته ذات التأريخ البطولي الناصع لمواقفها الشجاعة في ملحمة إستشهاد زوجها الأول ثائر سنجة ? أعني الوالدة دار السلام جار النبي التي أرقدها عبد الملك وأطفاله جبراً تحت الأسرّة تحاشياً من وابل الرصاص ? أسألوا عن المجاهدة دار السلام جار النبي السفير عمر بريدو فهو قد إطّلع على ثورة السيد محمد ود السيد حامد في إرشيفات جامعة درم عندما كان سفيراً للسودان في بريطانيا وهي قريبته وتاريخ نضالها يهمه.
ومن عناده ولا أقول من شجاعته فقط عندما أقتيد عبد الملك من منزله بعد الضرب إلى ساحة يصطف فيها العساكر مدججين بالسلاح ومن خلفهم يقف الشامتون على الأنصار ؛ إنبرى أحدهم مشيراً إلى عبد الملك وليسمع الضابط قائد السرية قائلاً : هذا ابن عم الهادي . فردّ عليه عبد الملك بما يسمع ذلك الضابط ومن حوله قائلاً : نعم أنا الآن ابن عم الإمام الهادي المهدي حتى لو لم أكن ابن عمه من قبل ليلقم ذلك الشامت الجبان حجراً بشجاعته المعهودة عند المواقف الحرجة.
ولاحقاً في فترة مجانية التعليم الأوسط الحكومي جاء عبد الملك وسلّم مدارسه مدارس دار السلام لوزارة التربية كاملة المباني والأثاثات والكتب وحتى معدات حجرة العلوم التي أهدتها اليونسكو لمدرسة دار السلام لتفوقها ، كما سلّم معدات وأثاثات حجرة الفنون والأعمال اليدوية التي كان قد جمعها بعناية لأن المنشط التربوي الذي تخصص فيه في بخت الرضا كان هو الفنون والأعمال اليدوية . وقد عرضت عليكم ما كانت تعمل يداه في أعمال كبيرة دعك من تشكيل ورسم وتلوين وتجليد للكتب، فهذا لا يقل عن ذاك في ترقية المهارة وصقل الوجدان. سلّم عبد الملك مدارسه لوزارة التربية كاملة لا يتبعها عجز أو ديون مالية بل كانت ذات رصيد على كل حال وإن قل. ولم يطلب تعويضاً على ما بنى بيديه وأسّس من حر ماله وهو الفقير إلاّ من كرامة نفسه وأريحيته التي تجعله يعطي من العدم ( فليتق الله سائله ) .
لكن الزميل الكريم المرحوم مختار أحمد يوسف لمّا جاء مفتشاً للتعليم في النيل الأبيض ولمعرفته الوثيقة بظروف عبد الملك المعاشية حمل عليه أن يقبل تعويضاً رمزياً قدره ثمانون ألفاً من الجنيهات وقتها ، سلّمت له في أقساط ، وهي في الحقيقة لا تساوي قيمة الأثاثات التي خلّفها في مدرسة البنين بنهريها ، فضلاً عن المباني والأرض التي كانت ملكاً له والتجهيزات الأخرى ، وما قيل عن مدرسة البنين ينطبق على مدرسة البنات أيضاً لكن تعويضه فيها تناقص إلى النصف وكفى.
و لمّا تقلّد زميل لعبد الملك وزارة التربية في المحافظة التي كانت تضم النيل الأزرق والنيل الأبيض وعاصمتها ود مدني ألا وهو الأستاذ يعقوب عيسى جفون ، ولمعرفته بكفاءة عبد الملك وصدقه في العمل إستعان به مشرفاً تربوياً لمنطقة ربك شرق النيل الأبيض شمالاً حتى شرقي الدويم وجنوباً حتى الجبلين. فأدّى عمله بالإخلاص المعهود فيه إلى أن إستقال ثانية من العمل العام ليزاول أعمالاً صغيرة خاصة به إلى أن تلاشت ولم تتناقص معها مبادؤه ( ولكل شيئ إذا ما تمّ نقصان ).
ومن بعد سنوات حنّ عبد الملك لمهنته السابقة مهنة ذوي العزم ? التعليم ? وتحصّل على أرض خالية قرب منزله في ربك لينشئ عليها معهداً للكمبيوتر ? العلم الجديد ? وبعد دفع الرسوم وما يصاحبها من دفوعات إستخرج لأرضه شهادة بحث موثقة وسوّرها بالسلك الشائك ، لكن سلطات الولاية في ربك إستكثرتها عليه وأخذت تساومه بأخذها وتعويضه قطعة نائية بدلاً عنها. ولعناده المعهود عندما يقع عليه غبن عبد الملك عبد الله الهاشمي لم يستجب للمساومة فاستعملت رئاسة الولاية ما لها من سلطات قاهرة ونزعت أرض عبد الملك عنوة بحجة أنها حرم لمدرسة مجاورة لكنها جاءت وباعتها لأحد البنوك في المدينة بعد أن إقتلعت سور السلك الشائك الذي سوّرها به عبد الملك واحتفظت به في مخازنها أو أين لا أدري!. و لا يستغرب تصرّف كهذا في عهود الشموليات فقد ظلم عبد الملك وأفراد أسرة والده الكبيرة في حوش والدهم في الجزيرة أبا عندما نزعت سلطات الأراضي حيّزاً كبيراً من وسط دارهم وأعطتها تعويضاً لجار لهم لم يرع إلّاً و لا ذمّة بدلاً من جزء أخذه الشارع من منزله شارع التخطيط الذي لم يلامس دارهم، أعطته له ظلماً وجوراً بدلاً من أن تعوّضه في الفلوات كغيره وهي كثيرة في الجزيرة أبا التي نهبت أراضيها في عهد مايو وكما هو الحال الآن. ولم يستسلم عبد الملك الذي نزعت أرضه وظل حتى الآن ممسكاً بشهادة بحثه هذه إلى أن يقل له حاكم آخر متجبّر يسخر منه : ( بلّها وأشرب مويتها ) . والله هو الغالب.
ويسألونك أين هو الأستاذ عبد الملك الآن؟ .. عبد الملك الذي تجاوز السبعين من سني عمره المديد إن شاء الله ، وعندما إلتحقت بناته بالجامعات في عاصمة البلاد ، وعندما ضاقت به سبل المعيشة في ربك المدينة التي أحبّها وأعطاها أخصب سنوات عمره وساهم جوّاداً سبّاقاً في عمرانها منذ عهود مشاركته في تخطيطها وجلب المياه الصالحة للشرب إلى أحيائها ، وفي بناء المدارس وترشيدها وفي الجري وراء التصديق بالمستشفى ، وبالمشاركة في لجان الصلح التي تصلح ذوات البين بين القبائل وفخوذها كلما نشب بينهم خلاف والبشر خطّاؤون وهذه سنة الحياة و لا بد أن يكون في كل أمّة عقلاء يصلحون. وأحسب أن الأستاذ عبد الملك منهم و لا أزكيه على الله . ويحفظه الله. وبعد أن باع منزله في ربك على مضض بثمن زهيد إشترى له منزلاً في أطراف المدينة في الدروشاب ضمّ فيه أسرته . واقتصر دخله على المعاش الحكومي، ومن كان منكم من هو معاشي يستطيع أن يحكي عن معاناة المعاشيين في السودان الذين أفنوا زهرة شبابهم في خدمة بلادهم التي كانت أكبر قطر أفريقي قبل أن يصبها الوهن والفساد والضعف من حكّام غير شرعيين فتسبّبوا لقصور نظرهم في بتر ساقي الوطن فصار كسيحاً. «إنّا لله وإنّا إليه راجعون».


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.