عامر الطفل الذى لم تبدُ عليه في سنته الأولى أية ملامح لإعاقة أو مشكلة، كان ككل الاطفال يمرح ويحاول أن يتفاعل كأقرانه ويهتف «بابا.. بابا» ومع مرور الأيام اكتشفت الأم تأخر الكلام وبعض الاعراض الاخرى التي بدأت تظهر على الطفل عامر، فهُرعت أمه تلتمس عيادات الأطباء بحثا عن العلاج والإجابة الشافية لمشكلة عامر الذي يبلغ الآن العشرين من العمر. وكاشفها الأطباء بأن عامر مصاب بالتوحد.. وباتت تدعمه عاطفيا ووجدانيا حتى حدثت تحولات نوعية في حياة عامر، فكان مبدعا في التعامل مع الحاسوب وخاصة الجرافيك، وفي مجال تصميم اللوحات التشكلية وتنسيق الزهور. وبات الطفل عامر من النماذج المشرقة في السودان، فحصل على الوسام الذهبي في الندوة الدولية لتطوير برنامج المعوقين بمدينة «مصراتة» بالجماهيرية الليبية لأعماله ولوحاته الفنية من الخرز والنحاس التي اثارت اعجاب ودهشة كبار الفنانين العالميين. وأبان أطباء واختصاصيون أن التوحد حالة من حالات الاعاقة لها تطوراتها، وهي تعوق بشكل كبير استيعاب المخ للمعلومات ومعالجتها.. كما يؤدي إلى مشكلات في اتصال الفرد بمن حوله، واضطرابات في اكتساب مهارات التعلم والسلوك الاجتماعي.. وتظهر اعاقة التوحد بشكل نمطي خلال السنوات الثلاث الأولى من عمر الطفل لكل نحو «15 20» مولوداً، وتفوق اصابة الصبية أربع مرات نسبة اصابة البنات.. والتوحد ينتشر في جميع بلدان العالم ومنها السودان، وبين كل العائلات بجميع طوائفها العرقية والاجتماعية.. والتوحد بدأ ينتشر بصورة كبيرة أخيراً بحسب تقرير معهد ابحاث التوحد. ويطلق على الاطفال المصابين بالتوحد مسمى «ذوو القصور النمائي الشامل»، وهم يختلفون في سماتهم من مستوى لآخر، بحسب شدة الاصابة بالمخ، وشدة الاعراض المصاحبة للحالة.. وأطفال التوحد تفكيرهم غير مرن، في الغالب، وغير منطقي، لذا تكون استجاباتهم بطيئة للمواقف المعقدة في اللعبة، وتنعكس على تصرفاتهم بشكل عدواني، فيقومون بالتكسير والتدمير.. فالتوحد إذاً من الاعاقات الصعبة التي تعرف علمياً بأنها «خلل وظيفي في المخ» لم يصل العلم بعد لتحديد اسبابه.. وهو يظهر خلال السنوات الأولى من عمر الطفل، ويمتاز بقصور وتأخر في النمو الاجتماعي والإدراكي والتواصل مع الآخرين.. ويلحظ أن الطفل المصاب بالتوحد قد يكون طبيعياً عند الولادة وليست لديه أية اعاقة جسمية أو خلقية، وتبدأ المشكلة بملاحظة الضعف في التواصل لديه، ثم يتجدد لاحقاً بعدم القدرة على تكوين العلاقات الاجتماعية وميله إلى العزلة، مع ظهور مشكلات في اللغة إن وجدت ومحدودية في فهم الافكار، لكن الطفل التوحدي يختلف عن الأطفال المتخلفين عقلياً.. والتوحد أسرع مرض اعاقة انتشاراً في العالم الآن، وبعض الإحصاءات تؤكد أنه خلال هذا العام تجاوزت نسبة المصابين بالتوحد في العالم عدد المصابين بالسرطان، والايدز.. والاشكالية تتمثل في عدم وجود سبل طبية لعلاج التوحد، لكن التشخيص المبكر يساعد على تحسين الحالات. وعلى حسب تقرير مركز أبحاث التوحد فإن هنالك اشكالية تواجه الأسر السودانية التي لديها اطفال توحديون، وهي التكلفة العالية، حيث كلفة رعاية وتأهيل طفل توحدي واحد تصل الى حوالي «61» الف جنيه سوداني، وهي كلفة عالية جداً لا تستطيع معظم العائلات السودانية تحملها، مما يحتم ضرورة مساهمة الدولة والمجتمع في دعم اطفال التوحد.. وتعود هذه الكلفة العالية إلى أن التوحد لا يماثل الاعاقات العقلية الاخرى، حيث انه حالات فردية متمايزة لا تتشابه حالة مع اخرى في اعراضها، فكل طفل يحتاج لمدرب فردي، ولعدة تدريبات، كما أن وسائل التواصل مكلفة وتختلف وتتباين من حالة إلى أخرى، لأن سمات كل طفل توحدي تختلف عن الطفل الآخر.. وكمثال «غرفة دمج الحواس»، وهي تحتوي على وسائل وتجهيزات مكلفة، حيث يجب أن تكون مغلفة بالكامل بالاسفنج ومزودة بأجهزة خاصة تجعل الحواس السمعية والبصرية واللمسية تعمل لدى الطفل التوحدي. وقالت المدير التنفيذى لمركز التوحد فاتن التوم فى ندوة، إن هناك خلطا وجهلا وعدم دراية بالتوحد في السودان، مثلاً احدى المتحدثات ظهرت في التلفاز قائلة إن التوحد «مرض» وهذا خطأ كبير وشائع، فالتوحد «متلازمة»، أو اضطرابات في وظائف الدماغ.. وأخرى قالت من خلال التلفاز أيضاً إن التوحد لا يأتي لأخوين اثنين في الاسرة، وهذا فهم مغلوط فالتوحد يمكن أن يصيب اثنين أو ثلاثة أو اربعة إخوان معاً، بل أنه يصيب حتى التوأم.. وهناك أحد المتحدثين ذكر أن سبب التوحد «جيني» وهذا ليس صحيحاً، فاسبابه مجهولة حتى اليوم، وبعض الدراسات تضع عدة احتمالات لأسباب الاصابة بالتوحد، منها طريقة حفظ أمصال التطعيم خاصة المصل الثلاثى، إضافة الى زيادة السموم فى الدم، وتعامل الأم باردة التعامل مع الطفل، أى التى لا تتعامل معه. وهذه جميعها أسباب «افتراضية» لم يثبت علمياً حتى الآن مسؤوليتها المباشرة في الاصابة، ولذلك مازال التوحد بلا علاج. ولذلك نناشد اجهزة الاعلام المختلفة، التأكد تماماً من المعلومات العلمية عن التوحد قبل اطلاقها عبر وسائل الاعلام المختلفة. واضافت فاتن أن المرجعية لمرض التوحد فى السودان هي «مركز الخرطوم للتوحد»، بصفته المركز الأول والوحيد في السودان وكل القارة الافريقية، فهو يزخر بمصادر معلومات ثرة، ويقف على آخر طرق التدريب، ولديه أساتذة متخصصون في التعامل مع الاطفال التوحديين، وقالت فاتن إن تشخيص التوحد لا بد أن يمر بعدة مراحل وعدد من الاطباء الاختصاصيين، حيث يعرض الطفل اولاً على طبيب اطفال عام، ثم اختصاصي علم نفس، ثم اختصاصي انف واذن وحنجرة ومخ واعصاب، واختصاصي مخاطبة، واختصاصي علاج طبيعي، وتستمر هذه المعاينات ما بين «2 3» أشهر، بعدها تستخلص النتائج والتقارير الطبية التي توضح إذا كان الطفل توحدياً أم لا، وذلك لأن التوحد اعاقة «صعبة جداً»، فاذا تم تشخيص الطفل انه توحدي، واتضح بعد ذلك انه خلاف ذلك، نكون قد ظلمناه ظلماً فادحاً، فالتوحد عدة اعاقات مندمجة مع بعضها البعض، فعدم التركيز والانتباه لوحدهما لا يحددان ان الطفل توحدي، وللأسف احدى السيدات عرضت طفلها على احد الاطباء لأنه كثير السهو، وعلى الفور شخص حالته بأنه «توحدي»، وهذا خطأ قد يكون مدمراً لنفسية الطفل وأسرته. وتحدث إلينا هاتفيا أستاذ علم النفس بجامعة افريقيا العالمية الدكتور نصر الدين موسى قائلا إن انتشار مرض التوحد فى السودان بصورة نسبية يرجع الى عدة عوامل، منها العوامل الوراثية الناتجة عن زواج الاقارب، لكن قد يحدث أحيانا خارج اطار هذا الجانب. وناشد نصر الدين الأسر التي لديها أطفال مصابون بمرض التوحد تقبلهم للأمر بدرجة ايمانية، والرضاء بقضاء الله وقدره، ثم التعامل مع الطفل على أساس أنه كائن له حقوق، ولا يشعرونه بأنه مصدر إزعاج وقلق، ناصحا الأسر بالذهاب بالطفل الى المراكز والمدارس المخصصة لهذه الشريحة، وبهذا يستطيع الأطباء تقييم حالته، لأن التقييم يلعب دورا اساسيا فى العلاج، وهذه المتطلبات يحتاجها الطفل التوحدى، لأن مرض التوحد يتباين من طفل لآخر، وبالتالى من المهم ان يخضع الطفل الى تقييم لتقديم العلاج والخدمات المناسبة له واسرته. وأبان نصر الدين أن الطفل التوحدى إذا وجد الرعاية والمتابعة من الاسرة والجهات المختصة فإنه سوف يتعلم الكثير من المهارات الحياتية التى تعينه وتعين الاسرة على اعتماده على نفسه، وتقليص كثير من الضغوطات عليه، ناصحا الاسر بعدم اهمال الطفل التوحدى، وان يتم التعامل معه، لأن كثيراً من الأسر تعتبره مصدر إزعاج، لذلك تقابله كثير من المشكلات التى تأخذ هذا المنحنى، وأيضا نجد بعض الأسر تحاول إبعاد الطفل عن الضيوف وعدم اختلاطه بالآخرين باعتبار ذلك وصمة اجتماعية، وهذا خطأ كبير، لذلك يجب على الأبوين وأفراد الأسرة قضاء وقت كافٍ مع الطفل التوحدي، ومحاولة جذب انتباهه بواسطة ألعاب تتناسب مع إمكانياته العقلية، واستخدام كلمات بسيطة للتواصل معه، والتوسع في العلاقات الاجتماعية وخاصة مع الأسر التي لديها طفل توحدي، وذلك لتبادل الخبرات في كيفية التعامل مع هذه الحالات. وعلى الرغم من أن التوحد لم يكتشف له علاج حتى اليوم، إلا أن الأطباء والاختصاصيين أكدوا أن العناية والجهد والمثابرة والمنهج العلمي، تمكن أطفال التوحد من العودة لحياتهم الطبيعية.