كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مناوي: وصلتنا اخبار أكيدة ان قيادة مليشات الدعم السريع قامت بإطلاق استنفار جديد لاجتياح الفاشر ونهبها    تنويه هام من السفارة السودانية في القاهرة اليوم للمقيمين بمصر    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    مطار دنقلا.. مناشدة عاجلة إلى رئيس مجلس السيادة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    بعد حريق.. هبوط اضطراري لطائرة ركاب متجهة إلى السعودية    نهضة بركان من صنع نجومية لفلوران!!؟؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    د. الشفيع خضر سعيد يكتب: لابد من تفعيل آليات وقف القتال في السودان    الكشف عن شرط مورينيو للتدريب في السعودية    نتنياهو يتهم مصر باحتجاز سكان غزة "رهائن" برفضها التعاون    شاهد بالصورة والفيديو.. في مقطع مؤثر.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تبكي بحرقة وتذرف الدموع حزناً على وفاة صديقها جوان الخطيب    رئيس مجلس السيادة القائد العام للقوات المسلحة يلتقي اللجنة العليا للإستنفار والمقاومة الشعبية بولاية الخرطوم    شاهد بالصورة والفيديو.. في أول ظهور لها.. مطربة سودانية صاعدة تغني في أحد "الكافيهات" بالقاهرة وتصرخ أثناء وصلتها الغنائية (وب علي) وساخرون: (أربطوا الحزام قونة جديدة فاكة العرش)    قطر تستضيف بطولة كأس العرب للدورات الثلاثة القادمة    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني في أوروبا يهدي فتاة حسناء فائقة الجمال "وردة" كتب عليها عبارات غزل رومانسية والحسناء تتجاوب معه بلقطة "سيلفي" وساخرون: (الجنقو مسامير الأرض)    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    سعر الدولار في السودان اليوم الأربعاء 14 مايو 2024 .. السوق الموازي    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    عالم آثار: التاريخ والعلم لم يثبتا أن الله كلم موسى في سيناء    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    أموال المريخ متى يفك الحظر عنها؟؟    قطر والقروش مطر.. في ناس أكلو كترت عدس ما أكلو في حياتهم كلها في السودان    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    هل يرد رونالدو صفعة الديربي لميتروفيتش؟    انتخابات تشاد.. صاحب المركز الثاني يطعن على النتائج    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    روضة الحاج: فأنا أحبكَ سيَّدي مذ لم أكُنْ حُبَّاً تخلَّلَ فيَّ كلَّ خليةٍ مذ كنتُ حتى ساعتي يتخلَّلُ!    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    القبض على الخادمة السودانية التي تعدت على الصغيرة أثناء صراخها بالتجمع    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الرُّوح الجماعية في أدب الطيِّب صالح
نشر في الصحافة يوم 23 - 03 - 2010

٭ أهتم الطيب صالح اهتماماً بالغاً بإبراز الروح الجماعية في مجتمع القرية السودانية، الجماعية في كل شيء، في مسائل كسب العيش، وفي الافراح والأحزان، وفي حالة المرض والكوارث وعند استقبال ضيف أو ابن عاد الى القرية بعد غيبة طويلة، وعند التصدي لخطر يهدد القرية. وإبراز الروح الجماعية حتى عند الأكل وحل المشكلات الخاصة، وهكذا تتم معالجة الأمور وفقاً لرأي الجماعة ومشاركتهم في الحدث حفظا لكيان المجتمع وحرصاً على استقراره، فالتعاون والتآخي والتآزر هو السمة الغالبة وهى التي تحفظ للفرد قيمته وأمنه واستقراره داخل المجتمع. وهذه الروح التي تتولد عنها قيم وعادات الجماعة هى إنسانية وأخلاقية في جوهرها قلَّ أن تشوبها النظرة المادية.
ويؤكد الطيب صالح الروح الجماعية في المجتمع التقليدي في القرية السودانية في مواضع عديدة من رواياته، وهو يتحدث عنها ويفصل فيها من موقع الحادب والداعي للحفاظ عليها. فهى في نظره ضرورية لتماسك المجتمع وتطوره، وعلى المفكرين والقادة يقع عبء استنباط المعايير والأطر المناسبة للإبقاء عليها وفقاً لأسلوب وروح ومقتضيات العصر الحديث، وقد أكد دعوته للحفاظ على هذه الروح بإدانته للذين عملوا على الفرقة وتفكك الجماعة أمثال الطريفي وسعيد البوم في بندر شاه.
وبداية ودلالةً على الروح الجماعية، نشير الى صيغ الجمع التي يستخدمها أفراد مجتمع القرية التقليدي في التعبير، وهى الصيغ التي حرص الطيب صالح على إيرادها في تخاطب وحوار شخصياته في القرية، فمثلاً قول احدهم «ولما كشفنا عليه وجدنا جرح كبير تحت الضلع» و«قلنا لا بد عسكري من جيش الترك هارب» وقوله «وقمنا على تمريضه شهر كامل» وقوله «كنا نضحك معاها ونقول لها» وقوله «بالفعل وجدناه نسى كل شيء» وقوله «ونحن كما ترى نعيش تحت ستر المهيمين الديان.. القليل عندنا عملناه بسواعدنا» وهكذا نجد صيغ الجمع سائدة في حوار شخوصه يتخاطبون بها ويستخدمونها رغم كون المتحدث فرداً واحداً، وهذه الصيغ توحي بأن روح الجماعة وحضورها متغلغل في داخل كل فرد يعبر عنها دون شعور إرادي منه.
وهنالك نماذج وأوجه شتى يوردها الكاتب لإبراز الروح الجماعية في مجتمع القرية. ففي حالة الأفراح نجدهم يقبلون عليها كأنها فرح كل فرد أو كل أسرة منهم، يشاركون فيها مشاركة حقيقية سواء بالابتهاج بالمناسبة أو في إكرام المدعوين من القرى والفرقان المجاورة. ويقدم كل منهم وبروح طيبة ما يستطيعه من عون مادي أو عيني لأهل الفرح. ففي جانب المشاركة الوجدانية نجد أن النسوة يبدأن هذه المشاركة بالزغاريد عند إعلان الفرح، وإيذانا ببداية المناسبة المشتركة. فعند الزواج مثلاً تنطلق الزغرودة الاولى من البيت المعني، وتستجيب لها النسوة من المنازل المجاورة. ونجد وصفاً لذلك في «عرس الزين» إذ يبدأ الطيب صالح صورته الوصفية بقوله «أول من زغردت أم الزين كانت فرحة فرح الأم الغريزي لزواج ابنها، وزغردت معها جاراتها وأحباؤها وأهلها وعشيرتها، وتزغرد أم الزين فترد عليها النساء وتسمع زغاريدهن وتزغرد من جديد.. لم تبق امرأة لم تزغرد في عرس الزين». وفي موضع آخر يعمق الكاتب هذه المشاركة الوجدانية ويكثف بعدها إذ يقول «تصل المرأة طرف الحي وعرقها يتصبب لأنها قامت من أهلها مع طلوع الشمس ووصلت الشمس في كبد السماء، فتسمع أصوات السرور وتشم روائح الوليمة وتسري فيها عدوى الطمأنينة من الجمع الغفير الذي غرز بيرق الحياة وسط ذلك العدم، فتزغرد من بعيد فرحاً بوجودها بادئ ذي بدء، ثم إعلان للملاأبأنها هنا الآن».
فالمشاركة هنا إذن فيها تأكيد للذات وسط الجماعة من جهة، وأن الفرد بدوره يستمد معنى وجوده من نفس هذه الجماعة، وهو ما عبر عنه الكاتب بقوله «وتسري فيها عدوى الطمأنينة من الجمع الغفير».
وقد جرت العادة في مثل هذه الحالات أن تقدم الدعوات للقرى المجاورة التي غالباً ما يربطها ببعضها البعض صلات النسب وقربى وصداقات في العمل والتجارة وغير ذلك، ويقوم أهل القرية الداعية بكل واجبات الضيافة، ولا يترك الأمر لعائلتي العريس والعروس وحدهما، وإنما ينهض الجميع بذلك، فجميعهم يمثلون كياناً واحداً. والمدعوون بدورهم يحضرون معهم بعض الهدايا مساهمة منهم في إقامة الفرح الذي سيطعمون فيه ويشربون ويمرحون. ويصف الطيب صالح قدومهم الى مكان الفرح بقوله :« فجاءوا من قِبلي ومن بحري ومن السافل والصعيد بالمراكب عبر النيل وبالحمير وسيراً على الاقدام يحملون هداياهم، تمراً وقمحاً وشعيراً ولوبيا وبصل وسمن ودهن كل حسب طاقته، هذا يحمل ديكاً وهذا يحمل حملاً أو عتوداً يجيئون مشتتين مثل رذاذ الغيث ثم ما يلبثون أن يتكاتفوا ويتلاحمون في خضم عظيم، يجيش ويزخر بحياة جديدة أرحب من حصيلة أحزانه». وهنا لا يكتفي الكاتب فقط بقدوم هؤلاء القوم ومشاركتهم الوجدانية والمادية، وإنما يذهب ابعد من ذلك ليؤكد مرة أخرى الروح الجماعية والتلاحم الناتج عنها وأبعادها المعنوية والإنسانية، وذلك واضح في الجزء الأخير من وصفه.
وبعد وصول جماعات المدعوين يتصدى لهم أهل القرية وينزلونهم في الدور التي أعدوها لهم، وفي ذلك يعتبرون كل دار مكاناً معداً لاستضافة المدعوين. وهنا نجد الطيب صالح يقول:«وجاء فريق الطلحة فتصدى لهم أحمد اسماعيل وانزلهم وربط دوابهم وجاء لها بالعلف، ثم أمر لهم بالطعام فاطعموا واشربوا». ويقول: «وهاج الحي من أركانه وامتلأت الدور بالواقفين لم يبق بيت إلا ونزلت فيه جماعة من القوم، دار حاج ابراهيم على سعتها امتلأت ودور كل من محجوب وعبد الحفيظ وسعيد وأحمد اسماعيل والطاهر الرواسي وحمد ود الريس، دار الناظر ودار العمدة.. جاء الناس من بحري وجاء الناس من قبلي، نحرت الإبل وذبحت الثيران ووكئت قطعان الضأن على جنوبها، كل واحد جاء أكل حتى شبع وشرب حتى ارتوى وهكذا حالهم، يعدون لكل شيء عدته لا تفوتهم صغيرة ولا كبيرة لن يمسوا طعاماً ولن يذوقوا شراباً حتى يأكل ويشرب الناس».
هذا نموذج عن تحركهم وروحهم الجماعية أثناء مناسبات الفرح، يشاركون بوجدانهم ووجودهم وممتلكاتهم، وهم حتى في طربهم يصفقون جماعة ويبشرون في جماعات ويضربون الارض بأرجلهم في جماعات وفي إيقاع موحد طرباً ونشوة، وهكذا فإذا كان هذا هو حالهم في الافراح فكيف يكون الأمر عند مجابهة الخطر والكوارث.
فاذا كانوا يتكاتفون ويتآزرون عند الأفراح فإنه وبطبيعة الحال فإن تلك الروح الجماعية تكون هنا أكثر بروزاً وشموخاً، فهم بحكم وجودهم على ضفاف النيل، وذلك وفقاً لنموذج القرية التي اتخذها الكاتب مسرحاً لرواياته، نجد أن كثيراً ما كانت حياة بعض الافراد تتعرض للخطر أثناء الفيضانات، بل وأثناء عملهم اليومي في الزراعة وغيرها، وبعضهم من تذهب حياته غرقاً. فتراهم عندما يسمعون بغرق احدهم يهرعون الى النيل جماعات وافرادا يتركون ما بين ايديهم من عمل او طعام لإنقاذ حياة رفيقهم من الخطر ما أمكن ذلك، والتخلف عن النجدة في مثل هذا الموقف يعتبرونه عيباً كبيراً يقلل من قيمة الفرد في نظرهم.
ويصف الطيب صالح إحدى هذه الحالات بقوله «إنهم سمعوا بعد صلاة العشاء صراخ نسوة في الحي، فهرعوا الى مصدر الصوت فإذا الصراخ في دار مصطفى سعيد.. وانكبت البلد كلها على الشاطئ، الرجال في أيديهم المصابيح وبعضهم في القوارب وظلوا يبحثون الليل كله دون جدوى، وفي النهاية اخلدوا الى الرأى انه مات غرقاً، وان جثمانه قد استقر في بطون التماسيح التي يغص بها البحر في تلك المنطقة».
وفي مكان آخر يصف حادثة أخرى بقوله: «بعضنا نزل الماء وبعضنا جرى على امتداد الشاطئ، وضوء المشاعل على الضفتين، وتنادى الناس من مكان الى مكان، ومن شاطئ الى شاطئ، الى أن صارت الدنيا كلها تنادي في جوف الظلام «ضو البيت». انتظرنا يوماً بعد يوم بين اليأس والرجاء نقول لعل وعسى، ولكن ضو البيت اختفى لا خبر ولا أثر». وهم يقدرون الرجل الذي يهب لنجدة الآخرين في وقت الأزمات أيما تقدير، ويشيدون به ويحترمونه، فتراهم يقولون عنه: «رجلاً منقطع النظير.. دائماً تجده وقت الشدة» فأوقات الشدة عندهم هى المحك الرئيسي لتقويم الرجال، ولهذا قل ما تجد من يتخلف منهم في وقت الأزمات.
هذا في حالة هروعهم لنجدة أحد افراد الجماعة، ولكن عندما يكون الخطر أكبر يهدد كيان المجتمع القروي بكامله، نجد رد فعلهم أقوى وأشد، ووقفتهم أكثر تماسكاً وتصلباً. فعندما انحرف أحد أبناء القرية وغادرها. ولكنه عاد اليها بعد فترة لحضور زواج اخته، واتى معه عدد من الغرباء ممن تعرف عليهم أثناء وجوده خارج قريته، أظهر هؤلاء الغرباء تصرفات اعتبرها أهل القرية خطراً يهدد أخلاقيات مجتمعهن. فكان أن وقفوا ضدهم وقفة رجل واحد في حزم وقوة وطردوهم جميعاً بمن في ذلك ابن قريتهم، إذ لا مكان بينهم لمن يحاول خدش قيمهم وأخلاقياتهم حتى ولو كان واحدا منهم. ويصف الكاتب هذه الحادثة فيقول: «في الأسبوع الأخير من حفل الزواج انهمر على الدار عشرات الناس الغرباء الذين لم يرهم أحد من قبل، نساء ماجنات ورجال زائغو النظرات وصعاليك وسفهاء جاءوا من حيث لا يدري أحد، كلهم أصدقاء سيف الدين دعاهم لحفل زواج أخته، وهنا لم يجد أهل البلد بداً من القيام بعمل قبل ان يستمر هؤلاء الضيوف في جلساتهم، وإذا بصف من رجال أهل البلد يتقدمهم أحمد اسماعيل ثم محجوب ثم عبد الحفيظ فالطاهر الرواسي وحمد ود الريس وأعمام سيف الدين وإخوانه نحو من ثلاثين رجلاً في ايديهم عصى غليظة وفؤوس اغلقوا الابواب عليهم واشبعوهم ضرباً وأكثر من ضربوا سيف الدين ثم القوا بهم في الطريق». فرغم عاداتهم وتقاليدهم المرعية في احترام الضيف وإكرامه، إلا انهم قساة مع من يسعى للمساس بقيمهم وأعرافهم. وإذا حدث وصادف احدهم امراً غريباً عليه وعلى مجتمعهم، نجده لا يتصرف تجاهه وحده وإنما يرجع في ذلك الى الجماعة، فهى التي تقرر في نهاية الأمر ما يجب عمله. ولكن مع ذلك هنالك تصرفات معلومة يتحرك الفرد في إطارها انتظاراً لرأى الجماعة. فعندما كان أحد افراد القرية وهو حسب الرسول يقوم بري زراعته من النيل برز له شخص غريب خرج من النيل أتى على طوف من جهة غير معلومة، أبيض اللون، أزرق العينين تأكد انه من بلد اخر لا يعلمه، ولكنه خاطبه وفق عادات المجتمع وتقاليده في مثل هذه الحالة : «أهلاً والف مرحبا بالضيف الغريب الجاى من بلاد الله وصلت محل عشا الضيفان وجمة الفتران. وكنت قد عدت كما أنا وأكثر، حسب الرسول ود مختار ود حسب الرسول الخمجان شكال الصريمة ومخلص اليتيمة ناره ما تنطفي وضيفه ما ينكفي، ونحن يعلم الله حالتنا حال، عندنا عنزة واحدة ترضع وثور وحيد بدون قرن، لا حمار ولا سرج وبيتنا قطية لسع ما بنيناه طين، ومختار ابني طفل رضيع، في البيت شوية دخن ولا سمن ولا لحم، زارعين القمح منتظرين فرج الله، ميمونة ام مختار عملت عصيدة دخن بشوية لبن، وكنت انا اتباطأ في الأكل عشان يأكل الضيف». فالرجل هنا تصرف بهدى من قيمه وتقاليده، وهى القيم التي يقرها المجتمع ويشجع عليها. وقد فعل ذلك بطيب خاطر رغم ضيق ذات يده. ويأتي بعد ذلك موضوع قبول ذلك الضيف في وسط مجتمع القرية، فهذا أمر لا يستطيع اتخاذ القرار فيه بمفرده وإنما على الجماعة ان تقرر لأن وجوده في مجتمع القرية يهم مجمل الناس فيها، فهذه المجموعة المتماسكة لا يستطيع أي فرد من أفرادها أن يخفي امراً مثل هذا عن الجماعة، فالمسؤولية جماعية صادرة عن تلك الروح الجماعية، ولذلك نجد الرجل يستطرد قائلاً: «بعدما أكل وشرب سقته للمسجد.. اجتمع الرجال في المسجد وقت الضحى للتعرف على الرجل الغريب، وكل واحد أحضر ما يقدر عليه العنده تمر والعنده لبن والعنده لوبيا والعنده عصيدة، عمي محمود كان أحسن حالاً ذبح دجاجتين قبل الغداء، حكيت لهم الحكاية». ودار نقاش بينهم حول الأمر وقلبت الآراء، وجاء قرارهم النهائي متفقاً مع اعرافهم ومبادئهم إذ يقول الراوي: «تفاكرنا في أمره كيف العمل هل نلقيه في النيل من حيث جاء؟ هل نمسكه الدرب ونقول له السلام عليكم؟ لكن الشفقة في قلوبنا تغلبت على الخوف، ونحن قوم على ما بنا من ضيق الحال لا نرد من طلبنا ولا نخيب سؤال من سألنا» وكان ردهم عليه جماعي حيث قبلوه بينهم كواحد منهم فخاطبه كبيرهم قائلاً:« وانت يا عبد الله جيتنا من حيث لا ندري كقضاء الله وقدره، ألقاك الموج على أبوابنا ما نعلم انت مين وتقصد وين، طالب خير او طالب شر مهما كان نحن قبنالك بين ظهرانينيا زى ما نقبل الحر والبرد والموت والحياة، تقيم معنا لك ما لنا وعليك ما علينا اذا كنت خير تجد عندنا كل خير واذا كنت شر حسبنا الله ونعم الوكيل» هذا التوكل كان ديدنهم في الحياة.
والطيب صالح يحاول في موضع آخر من كتاباته تفسير أسباب ذلك الترابط والروح الجماعية في مجتمع القرية بقوله: «تربطهم بعضهم ببعض اواصر وقرابات وانساب، وتجمعهم الأسواق والمعاملات، ويتبادلون بذور التيراب وشتول النخل وفحول البقر والحمير، ويجمع بينهم المداحون والمغنون وحفظة القرآن، وهكذا حالهم من ملتقى النيلين الى ما وراء صعيد مصر». وهو هنا يشير إلى تلك الروابط بأنها ثقافية واجتماعية واقتصادية، كما يحدد المنطقة التي يرمز لها بقريته ود حامد، وهى المنطقة الممتدة من الخرطوم وحتى حدود السودان مع مصر، وهى منطقة السودان الشمالي، وأن كان نموذجه جامعاً لكل القيم والأعراف والتقاليد المتعارف عليها في كل أنحاء القطر، مع وجود اختلافات طفيفة في بعض المناطق.
ونخلص مما تقدم إلى أن الروح الجماعية في مجتمع القرية التقليدي التي عكسها الطيب صالح في رواياته، هى التي حفظت لذلك المجتمع تماسكه ووحدته ونمط حياته، وحفظت للأفراد توازنهم، ووفرت لهم حياة آمنة ومستقرة خالية الى حد كبير من الاضطرابات الاجتماعية والاقتصادية والهزات النفسية، وهى حياة وإن لم تكن متطورة بالمفهوم الحديث للحياة الاجتماعية والاقتصادية، إلا أن تلك الصيغة التي توصل اليها العقل الجمعي في المجتمع التقليدي الذي أساسه القرية في هذه الحالة، قد مكنت ذلك المجتمع من الحفاظ على كيانه واستمراريته وتواصل نظمه وتقاليده، وهى صيغة لا تزال لها إيجابياتها في المجتمع الحديث، ونلمس ممارستها بصورة واضحة في مجتمعنا السوداني المعاصر، بل وتشكل أهم مقومات هويته وذاتيته وطريقة حياته. واستناداً على ذلك فإنها يمكن أن تشكل أساساً متيناً يقوم عليه بناء مجتمعنا الجديد ومؤسساته الحديثة وفقاً لنظريات ومفاهيم وأساليب العصر الذي نعيش فيه. وهنا لا بد من الإشارة الى ان الطيب صالح قد درج على طرح بعض النماذج التي ضمنها رواياته لاستيعاب الروح الجماعية موضوع حديثنا هنا في مؤسسات المجتمع الحديث، عندما جعل من الجمعية التعاونية والمشروع الزراعي الذي يُدار على أساس جماعي دعامات مادية واقتصادية لمجتمع القرية، وهى مشروعات تقوم في أساسها على العمل الجماعي والرؤية الجماعية في تنظيم الأفراد ومواردهم وقدراتهم ومهاراتهم وأفكارهم لانجاز أي مشروع، وهو ما يعبر عن رؤاه الإبداعية والفكرية في توظيف الروح الجماعية التي يتصف بها مجتمعه في حل مشكلات تطوره الاقتصادي والاجتماعي، فالفكر التعاوني ونظام الشركات والشراكات واللذان يقومان على تجميع موارد ومساهمات الافراد داخل المجتمع وإدارتها إدارة جماعية على أساس اقتصادي، هما من صميم المشروعات الحديثة القائمة على المبادرات الذاتية التي أسهمت في تقدم المجتمعات المعاصرة مادياً واقتصادياً وسياسياً وثقافياً، وبالتالي أسهمت في عصرنتها وفقاً لمعطيات ومقتضيات ومتطلبات الحياة الحديثة التي نعيشها اليوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.