استعرت هذا العنوان الجذاب لهذا المقال من عبارة عبقرية ماتعة ، كان قد وصف بها الناقد العربي الكبير الراحل الدكتور علي الراعي ( 1920 – 1999 م ) رواية " عرس الزين " لأديبنا الفذ المرحوم " الطيب صالح ". ومما لا شك فيه ، فإن درة هذه العبارة الطلية ، وسر جاذبيتها الآسرة، هي لفظة " زغرودة " هذه لما تثيره في نفس كل متلقٍ عربي – وإفريقي أيضا – من إحساس بالفرح والبشرى والتفاؤل. ثم إن الدكتور على الراعي قد وفق في تقديرنا أيما توفيق في اختيار لفظة " زغرودة " هذه لكي يصف بها رواية " عرس الزين " بالتحديد ، لأن الزغاريد لها موقع بارز في سائر أحداث هذه الرواية ومشاهدها ، بل أن من بين الهبات الفنية والوجدانية الكثير التي يتمتع بها الزين كما تصوره الرواية ، هي أن له أذناً مرهفة الحساسية ، يستطيع بواسطتها التمييز بين زغاريد النساء المزغردات على كثرتهن في أي عرس كان في ود حامد والقرى المجاورة لها ، هذا فضلاً عن شلالات الزغاريد التي تدفقت رقراقة في عرسه هو نفسه. على أن المعنى الرمزي العام الذي هدف إليه الدكتور علي الراعي من وصفه لرواية عرس الزين بأنها: زغرودة طويلة للحياة ، هو بالطبع: أنّ هذه الرواية تصور الأمل والتفاؤل ، والدعوة للمحبة والتسامح ، والإقبال على الحياة ،والانتصار لقيم الحق والخير والجمال بصفة عامة. لقد ظلت ظاهرة " الزغاريد " أو " الزغردة " هذه كمظهر فولكلوري مميز تستثير فضولي المعرفي منذ فترة ليست بالقصيرة. وقد خلصت فيها إلى افتراض ربما يكون مبتسراً ومتعجلاً نوعا ما ، مفاده أن الزغاريد هذه هي عبارة عن أداء فني فولكلوري صوتي – لكي لا نقول لفظي – نسوي عربي إفريقي بامتياز ، إن لم يكن بصفة حصرية. وهذا التوصيف الجغرافي والأنثربولوجي كأنه يفترض – إلى أن يثبت ما يخالفه - أن النساء في غير البلدان العربية والإفريقية ، لا يزغردن ولا يعرفن الزغاريد. هذا هو المشهور والمشاهد من ناحية عامة على كل حال. إذ لا يُعرف عن الأوروبيات أو الأمريكيات أو اليابانيات او الصينيات مثلاً أنهن يزغردن ،كما أننا لا ندري إن كانت نساء السكان الأصليين في أمريكا (الهنود الحمر) ، وفي استراليا ( الأبورجينز) على سبيل المثال ، يزغردن أم لا. مهما يكن من أمر ، فإن الزغاريد هي عبارة عن أصوات انفجارية انفعالية ، تخرجها النساء غالباً – وبعض الرجال في بعض الأحيان – من حلوقهن وأفواههن ، على طرائق مختلفة في استخدام ألسنتهن وشفاههن وأسنانهن في أداء تلك الأصوات. وإذا كانت الزغاريد عندنا – أعني في الفضاء العربي الإفريقي – تأتي غالباً في معرض التعبير عن الابتهاج و الفرح والسرور والاستبشار ، إلا أن موسوعة ويكيبيديا المنشورة على الشبكة العنكبوتية ، تعطي التعريف التالي لما يعرف في اللغة الإنجليزية بال ululation وهي الكلمة التي تترجم بها عادة كلمة " زغرودة " إلى هذه اللغة: Ululation is howling (wailing) in manifest expression of either jubilant joy or deep grief. وبناء على ذلك فإنه يتضح من خلال هذا التعريف الإفرنجي للزغرودة أو ال ululation ، بأنها عبارة عن " تصويت " أو عويل wailing ، يعبر به عن كلا مشاعر الفرح والسرور من ناحية ، او مشاعر الحزن والألم من ناحية أخرى أيضا. على أنّ الويكيبيديا تؤكد هي الأخرى على فكرة (الانفعال والمشاعر العاطفية) كباعث أساسي على إطلاق الزغاريد ،وذلك حينما تصف الزغرودة بأنها: A long loud emotional utterance . أما عن التخريج اللغوي لكلمة ululation والفعل المشتق منها to ululate ، فتقول عنه هذه الموسوعة بأن هذه المادة هي من قبل الكلم الحاكي للمعنى ، او ما يعرف بال Onomatopoeia ، فكأن ululation يمكن أن تقابل الوَلْولة نفسها في العربية ، من الفعل: ولْوَلَ يولْوِلُ حكاية عن صوت البكاء والنحيب فتأمّل !. بيد أن الأمر العجيب هو أن كتب اللغة العربية الفصحى القديمة ومعاجمها ليس فيها المعنى الشائع حالياً للفعل: زغردَ .. يزغردُ .. زغردةً ، بمعنى: أصدر صوتاً معينا إظهاراً للسرور والابتهاج. فكأن هذه الجذر اللغوي قد اعتراه حصر أو تخصيص دلالي عبر الزمن ، لينتهي إلى المعنى أو المدلول الشائع عنه حاليا. ذلك بأن الفعل " زغرَدَ " وكذلك " زَغَدَ " بدون الراء ، يأتي في كتب اللغة الكلاسيكية مثل لسان العرب لابن منظور وغيره بمعنى: هَدَرَ ، أي في معرض وصف أصوات الإبل بصفة خاصة. وقد جاء فيه في اللسان على سبيل المثال: زَغَدَ البعيرُ يَزْغَدُ: هدر هديرا.. والزغردةُ: هدير يردده الفحل في حلقه. وقال العلاّمة المرتضى الزبيدي في قاموسه "تاج العروس " عن مادة "ز.غ.ر.د": "الزغردة أهمله الجوهري وقال ابن دريد: هديرٌ للإبل يردده الفحل في جوفه ،وفي اللسان: في حلقه. قلتُ: ومنه زغردة النساء عند الأفراح ،وقد استخرج لها بعض العلماء أصلاً من السنة. " أ.ه ولعل السبب في إيراد الزبيدي لهذا المعنى المستحدث لمادة " زغرد " بمعنى أصوات النساء عند الأفراح " كما قال ، هو أن الزبيدي نفسه إنما كان من المتأخرين ، إذ أنه من رجال القرن الثامن عشر الميلادي ،ولهذا السبب نرجح إلمامه بهذا المعنى الذي لم يكن شائعاً في زمن المتقدمين ،أو لعله كان شائعا ولكنهم أهملوه ولم يدونوه ، وهذا جائز. ومما يدلك على عراقة هذا الحرف بهذا المعنى في العربية فشوه في سائر اللهجات العربية المعاصرة. ومما لا شك فيه أن هذا التعبير الصوتي الانفعالي المسمى بالزغرودة ، والمواقف الباعثة عليه ،هي واحدة تقريباً في كل المجتمعات تقريباً ، وإن اختلفت طرائق الأداء بين بلد وآخر ، وحتى بين هذه المنطقة وتلك داخل البلد الواحد. فالبواعث على إطلاق الزغاريد هي في الغالب إظهار مشاعر الفرح والابتهاج والسرور ، او الإعراب عن الإعجاب والتقدير والثناء ، فهي تقوم مقام التكبير أو التصفيق عند الرجال والنساء أيضا في سياقات ثقافية معينة ، او الرغبة في التشجيع والحث على القيام بفعل ما وهلم جرا. على أنّ الزغاريد قد تنطلق في بعض اللحظات التي تستدعي الحزن والألم والجزع عادةً ، إذا ما كان الموقف المعني ينطوي على ذلك القدر من المفارقة أو السريالية التي تسمح بذلك. فمثال ذلك عاصفة الزغاريد التي أطلقها جمع النسوة الليبيات لحظة شنق الشيخ المجاهد عمر المختار أسد الصحراء. ذاك مشهد وتلك زغاريد تجعل الشعر يقف مهابةً وقشعريرة. وعلى ذكر الاختلاف في طرق أداء الزغاريد ، نلاحظ أنّ هنالك على سبيل المثال فرقاً واضحاً بين الزغرودة المصرية والزغرودة السودانية. فالزغرودة المصرية يبدو أنّ أداتها الأساسية هي اللسان الذي يتم تحريكه بسرعة فائقة في حركة لولبية وتأرجح اهتزازي ، وولْولة بين الشفتين ، فكأنها تعبر عن الصوت: ألولولولولولو .... وقد يُشرب صوت اللام شيئاً من صوت راءٍ لثغاء نوعاً ما. والملاحظ أنّ زغاريد بعض قبائل جنوب السودان كالدينكا تحديداً ، تبدو أقرب في طريقة تنغيمها إلى الزغاريد المصرية منها إلى زغاريد شمال السودان. وفي هذه الأيام بالذات ، يعرض من خلال شاشات القنوات الفضائية السودانية إعلان لنوع معين من أنواع زيت الطعام ، يبدو أنه قد تم تصويره في مصر ، بآية أنه يصور سيدة سمراء اللون تقدم على أنها سودانية ، ولكنها تزغرد مع ذلك زغرودة مصرية واضحة الولولة. وقد أوشكت أن أعنون هذه الكلمة: " من وحي زغرودة الإعلان " إلى أن اهتديت إلى عبارة علي الراعي ذات البهاء والسيرورة المؤكدة. أما الزغردة السودانية ، فيبدو أنّ اللسان لا يتحرك فيها ، وإنما تُصدر المؤدية صوتاً يعتمد على تنغيم معين للصوت: " أيُّوي " بهمزة مفتوحة تليها ياء مشددة مضمومة وياء ثانية ساكنة يتم مدها باستخدام الأسنان والشفتين بقدر طول نفس تلك المؤدية هكذا: " أيويويويويويويويويا ". وهذا هو الصوت الذي أثبته الطيب صالح لتصوير الزغردة السودانية النموذجية في رواية عرس الزين. ولطالما استثارت زغاريد النساء السودانيات اهتمام الرحالة والمستكشفين الأوروبيين الذين زاروا السودان خلال القرون الماضية ، ولا يندر أن تجد مدوناً في مؤلفاتهم ومذكراتهم عبارات من قبيل: Our caravan was youyoued off by a group of native women, etc. أي أن مجموعة من نساء الأهالي قد ودّعتْ قافلتنا بالزغاريد. وفي بلاد الشام الكبرى ،وخصوصاً سوريا وفلسطين ، تجئ الزغاريد التي ينطقونها: " الزلاغيط " هناك ، جمع: زلغوطة ، تجئ في شكل مقاطع شعرية منظومة تقال في مناسبات الأعراس ، يبدأ كل شطر منها بكلمة " أويها " ويختتم كل مقطع بالصوت:" لي لي لي لي ليش " ،وهو بيت القصيد. وقد وقفت على هذا المقطع من زلغوطة شامية من مقال للأستاذة: " أماني محمد ناصر " ، نشرته بموقع منتدى جريدة شروق الإعلامي الأدبي " بالإنترنت تحت عنوان: " أجمل الزغاريد الشامية " ، حيث تقول السيدة المزغردة وهي تمتدح العروسة: أويها وحصّنتك بياسين أويها يا زهرة البساتين أويها يا مصحف صغير مطوي أويها يا عروسة السلاطين لي لي لي لي لي ليش... والزغاريد عادةً هي من صنيع النساء ،ولكن بعض الرجال قد يزغردون في بعض الأحيان. ففي كتاب الطبقات في خصوص الأولياء والصالحين والعلماء والشعراء في السودان للشيخ محمد النور بن ضيف الله 1727 – 1810 م ، ترجمة للشيخ: " سلمان الطوالي " الذي اشتهر بلقبه: " الشيخ سلمان الزغرات " ، نسبة لزغردته في لحظات الوجد الصوفي والانفعال العرفاني. كذلك يبدو أنّ ثقافة بعض قبائل شمال السودان كالشايقية مثلاً ، لا ترى بأساً في زغردة الرجال في بعض الأحيان في حالات الطرب الشديد ، والجذب الفني أيضاً ، وذلك من قبيل تلك الزغاريد التي كان يطلقها بعض أفراد " كورس " ملك الطنبور ، الفنان المبدع "النعام آدم " ، تجاوباً وانفعالاً مع أدائه الرائع. هذا ،وما زلت في الختام عند رأيي من أنّ " الزغاريد " هي واحدة من أبرز وأوكد القواسم الفولكلورية والثقافية المشتركة بين العرب والأفارقة بصفة عامة. ولئن كانت موسوعة ويكيبيديا تسعفنا بمعلومة تاريخية تؤكد شيوع الزغاريد بين نساء مصر القديمة ، وكذلك اليونان القديمة ، فلعل في هذا ذاته تعضيداً لفرضية مارتن بيرنال حول الجذور الشرقية والإفريقية للحضارة الهيلينية ،والله أعلم.