اثنان في واحدٍ كجناحي سنونوة عامر محمد أحمد حسين انا اثنان في واحدٍ كجناحي سنونوة ان تأخرت فصل الربيع اكتفيت بنقل البشارة «درويش» كتابُ شعر يطلبون حقا تركوه، بحثاً عن شعر يعينهم على الشعر، إذا أنهم كتبوا القصيد بلا قصيد قرأوه. تتجلى المأساة في تأسيس رؤاهم على أنهم يكتبون قصيدة «شابة» وهذا لعمري بداية التغيير، وكل أهل السبق «تقليديون أشرار في شعرهم» وجدوا الآباء يعبرون عن عصرهم بأدواتهم، فاستلفوا منهم الادوات ولم يخرجوا من «جلبابهم» هذا المكوث الطويل، بلا شك ساهم في تأخر الشعر واختلالات الحروف، ولكن ماذا؟ لو اننا قرأنا اهل سبق الحداثة وقارناهم بأهل رفض التقليدية الذين لا يعترفون بكل الاجيال «دون فرز» من العباسي الى المجذوب وصولا الى جيلي وتاج السر والفيتوري وشابو. هنا نستظل بالسؤال الذي لا سؤال قبله او بعده، هل حفظتم الف بيت شعر ام انكم حفظتم مقولتكم الابدية «نحن مختلفون» ان الاختلاف الحقيقي هو الاضافة لما سبق وليس «الذم» لما سبق دون اضافة. قصائد من السودان ، ديوان يمثل ذروة الكتابة الشبابية، فقد صدرت طبعته الاولى فبراير 1956م، بالقاهرة عن دار الفكر. هذه المجموعة التي ضمت بين ضفتيها «جيلي وتاج السر» تعتبر بلا شك بوابة الشعر الحديث ولكن تجاهلنا البوابة ودلفنا نبحث عن الشعر في بوابات جحيم «هاري بوتر» وما أبأس الشعر بلا شعر وبلا فكر او رؤية، انما بالتقليد هروباً من تقليدية مزعومة ورسما لحداثة ليس لها من الحداثة سوى محاولة استغفال القارئ بالغموض ونغيض الشعر. والنغيض في اللغة : القليل .. تبدأ القصيدة قصيدة ثم تضعف رويدا رويدا حتى تختفي في ثياب المقال والشتائم. فأصبح قراء الشعر يعيشون في دهر عنود وزمن كنود، تعطي فيه راية الشعر لمن لا شعر له ويعد فيه المتشاعر شاعرا ويزداد في «الشعرور» شعورا بعظمة ما يرمينا به من كلمات «مرصوصات» بعناية شديدة حتى لا تفلت منها «طوبة واحدة» وكم نحن في امتنان لا نخاف من قارعة لحرص هؤلاء على حفظ «طوبهم» في بوتقة واحدة هي وحدة القصيدة «الحجرية». يقول الشاعر الراحل « كمال عبد الحليم» في مقدمته لقصائد من السودان «لا زال الشعر هو الفن الاول بالسودان والسودان يضطرم بالشعراء كما يضطرم بالثورة على الاستعمار والرغبة في حياة جديدة، وفي هذه الارض ولد تاج السر عام 1930م، وبعد عام ولد جيلي عبد الرحمن، استقبلهم عام 1930م، المضطرب المتأزم المتهيئ للحرب للحرب والذي انتهى الى ابشع حرب عرفتها الانسانية»، ويضيف الراحل كمال عبد الحليم، «وراعني من «جيلي» لوحاته الرحبة وراعني انني ازداد تعلقا بلوحاته كلما قرأتها وان الوانها ليست من التي يبهتها الزمن، بل تزداد وضوحا ونورا، وراعني انهما من حقائق العبقرية التي تفيض بها بلادنا، بلاد الشرق المستعمر والتي تكتمل قبل الخامسة والعشرين». يقول «جيلي عبد الرحمن» في قصيدة «شوارع المدينة»: «مشيت في شوارع المدينة الحزينة تكوم الرعاع... وإخوة جياع يسعلون .. يضحكون!! وأبصرت عيناي في مفارق الطريق صبية عنيدة مقطوعة الذراع تموج في الصراع والناس في الصقيع يحلمون بالربيع وعدت من هناك من نقاوة الحقول وهمسة الغدير أبارك الجموع» المدينة«القاهرة» في نهاية أربعينيات القرن المنصرم، تموج بالاضطرابات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية، وتتنزل السنوات وصولا الى خروج الاستعمار عبر البوابة الوطنية ودخوله عبر بوابة فشل العهود الوطنية المتعاقبة، صورة تحكي عن القاهرة والخرطوم ونواكشواط، عمرها «مائة عام» تتجدد كأني بها في سرياليتها، صورة رسمها «سلفادور دالي» «بذنب حصان» ثم أتى الرواد فشهدوا الحصان بذيله المقطوع يرسم لوحة الكآبة والفاقة وقلة الحيلة. «تكوم الرعاع .. وإخوة جياع يسعلون .. يضحكون» وعلينا أيضا بتكبير الصورة واللوحة لتشمل «القرن الإفريقي» وننظر الى اللوحة بعناية، وهنا تكتمل الرؤية وتظهر الحدود (الصومال، كينيا إثيوبيا)، ابقار نافقة ومدن ضائعة وأطفال جوعى ومنظمات إغاثة أممية. «شوارع المدينة المخضوبة البيوت بالدخان والزيتون تعيش في أعماقها تعيش لا تموت».. يقول «جيلي عبد الرحمن» في قصيده «أطفال حارة زهرة الربيع»: «حارتنا مخبوءة في حي عابدين تطاولت بيوتها كأنها قلاع وسدت الأضواء عن أبنائها الجياع للنور والزهور.. والحياة فأغرورقت في شجونها وشوقها الحزين نوافد كأنها.. ضلوع ميتين وبابها.. عجوز! وفوق عتمة الجدار صفيحة مغروسة في كومة الغبار تآكلت حروفها لكنها تضوع «زهرة الربيع» زهرة الربيع، تأخرت وذبلت وشاخت وصراخها مكتوم، تناوبت عليها أقدام الطغاة وكلما فاحت منها رائحة ذكية، أبدلوها بالعطن ومجاري الصرف الصحي، ووقفوا عليها ليس من اجل ان تسقى لتعيش ولكن من أجل أن تداس لتموت الفكرة ويحيا النفاق وتكتمل اللوحة مع الراحل صلاح عبد الصبور... «الناس في بلادي جارحون كالصقور»... والحارة مخبوءة والحي «عابدين» او السجانة او الديوم او حتى امبدة وملحاقتها، لا يهم والذي يهم أن نوافذها ضلوع ميتين، وبابها عجوز، وفوق عتمة الجدار، صفيحة مغروسة في كومة الغبار.. «وترسل البنات من نوافذ البيوت أشذاء أغنيات تحن لنيون والعبير في عالم بعيد وللعريس وهو في ثيابه يميس وتورق الألحان في القلوب فتنسج الكروم من أشعة النهار لزهرة الربيع حارتنا مخبوءة في حي عابدين» لزهرة الربيع أحلامها التي تتكسر على نوافذ البيوت، تحرسها وصايا تم غرسها في العقل الجمعي، بأن ليس في الإمكان أبدع مما كان.. تترك زهرة الربيع في الشمس الحارقة تعاني من شظف الأحلام والحياة.. فأحلامها تتحول إلى كوابيس وحياتها الى معاناة دائمة، ورغم ذلك «تحن للنيون والعبير» وتهزمها «حارتنا مخبوءة في حي عابدين».. «وحين عاد كالأسى الرجال أقدامهم معروقة، وصمتهم سعال وحط كالغيوم في حارتنا الظلام تناغت العيال في الأعشاش يسألون في العشاء عن قصور وراكب الحصان في الميدان والشجر المخضوضر الكثير وانهمرت دموعهم في زهرة الربيع «محمد» ينام... والأطفال والأحلام حارتنا مخبوءة في حي عابدين»... وبالعودة الى الحلم الذي رسمه «جيلي» نقرأ الآتي: «أطفالنا في الصبح يمرحون كالطيور يبنون السدود يقفزون كالقرود محمد عيونه الشهدية الصفاء تخضل بالحنان وصابر في وجهه استدارة الريال ورفعت بأنفه يدب كالمنقار وأخته كالنور ياسمين وذات يوم مشرق السناء كاللبلور تجمعوا كأنهم بدور محمد يحكي في لثغة العصفور عن راكب الحصان في الميدان والماء من نافورة تضاء ينساب للسماء والشجر المخضوضر الكثير».. هل تحقق الحلم؟ عليك بعد العودة الى الحلم، قراءة ما تحقق منه.. نواصل مع جيلي وتاج السر في رحلة الصبا والنبوغ.