هناك جدل مستمر وحوار لاهث يعلو ويهبط بين المكابرة والواقعية، توطئة للوصول إلى إجابة شافية حول حالة الاقتصاد السوداني بوصفه ظاهرة تجمع بين الغنى في أبهى حلله «الموارد الطبيعية الضخمة» وبين الفقر في أبشع صورة «تدنى مستوى دخل الفرد الحقيقي».. وللأسف فإن معظم وجهات النظر تنطلق من منصات الانطباع، ويلعب اللون السياسي دوراً رئيسياً في بلورة رأي المتحدث «ضد أو مع»، ولذلك كان ومازال للتكهنات الحظ الأوفر في تشخيص حالة الاقتصاد السوداني التي يمكن إضافتها باطمئنان إلى عجايب الدنيا السبع لتصبح ثماني ولم لا؟ فنقص الغذاء?وقلة الماء تهدد إنسان دولة يشقها أطول وأعذب نهر في العالم، دولة تضم في أحشائها تنوعاً نباتياً ينمو في ظروف مناخية متباينة في تكامل طبيعي على ارض منبسطة صالحة للزراعة «90 مليون هكتار» وترعى في سهولها ثروة حيوانية تتغذى طبيعيا وتعدادها يفوق ال «140» مليون رأس. وكل هذه المعطيات متحدة مع غيرها في باطن الأرض كفيلة بجعل دولة السودان في مصاف الدول المتطورة اقتصاديا، بقليل من حسن التدبير وترتيب الأولويات، ولكن هيهات مادامت الممارسة غير الراشدة هي البصمة المميزة لأفعالنا التي تنم عن تناقض ملحوظ بين النظرية والتطب?ق على كافة الأصعدة. والمؤسف أننا نكابر في خداع للذات أوردنا مورد الهلاك، وأفقدنا القدرة على التركيز في توظيف قدرات هائلة كفيلة بترويض المستقبل لصالح وطن عظيم اسمه السودان. والسؤال المحوري: أين تكمن العلة التي حولت السودان إلى بلد كسيح يتسول غذاءه ويستورد الحلول المعلبة لإشكالاته ومشكلاته؟ وهناك عدة جهات درجت على أن تتطوع في تقديم وتحديد الوصفة العلاجية، فأهل السياسة ظلوا يسرفون في ترديد سيمفونية المؤامرة بأنها هي التي تكبل السودان وتحول دونه والانطلاق، وبتدقيق عقلاني نجد أن الساسة أنفسهم هم من حرث أرض الوطن الطيب لغرس بذور المؤامرة، وينطبق عليهم المثل «التسوى بأيدك يغلب أجاويدك»، وسجل التأريخ يحدثنا بأن أغلب السياسيين في السودان تسولوا خارجيا في استجداء للدعم والمؤازرة، فأصب?وا مدينين لسداد واسترداد كلفة الدعم الخارجي باهظة الثمن، فأصبحوا مكبلين ولو بخيوط من حرير للدولة الداعمة، الأمر الذي حدَّ كثيراً من قدراتهم في تعلية سور الوطن وحمايته من تلصص الجيران. ولقبيلة الاقتصاديين مصوغات مهنية ظلوا يسوقوها في تكرار ممل بأن اقتصاد السودان قادر على تجاوز محنته، دون أن يقدموا روشتة عمل مهنية محايدة. وللأسف مارس أغلب الاقتصاديين في السودان طقوس دفن الرؤوس في رمال السياسة إرضاءً للسلطان، وضلَّ الكثير من الاجتهادات الطريق إلى النجاح لأنها صممت بمقاييس سياسية في قالب اقتصادي «راجع بتمهل منفستو الاستراتيجية القومية الشاملة وقس بعناية مخرجات الخطط المصاحبة للاستراتيجية». والمفارقة أن كافة المهن المتخصصة تلتقي في كيانات مهنية لتلاقح الأفكار وتوحيد الرؤى «على سبيل المثال ات?اد للصيادلة ومثله للمهندسين وآخر للمحامين ومثله للمعاشيين حتى ...الخ» والشريحة الوحيدة التي ظلت بلا تنظيم مهني هي جماعة الاقتصاديين في السودان، فكيف لكيان غير منظم ومرتب أن ينقل تجارب الأجيال ويحصن أعضاءه ضد عوامل التعرية وتصاريف الدهر؟ وعلى ضوء هذه الحقيقة لم يستطع السودان أن يستفيد من دروس الاقتصاديين باعتبارهم قوى فكرية محايدة ومجتمعة، وهذا الوضع النشاز جعل من شريحة الاقتصاديين مجرد زهور للزينة في سدة الحكم تفوح بعطرها حسب معطيات المناخ السياسي. وبقليل من إفساح المجال للبصيرة نجد أن روشتة الحل التي تمكن الاقتصاد السوداني من النهوض والخروج من نفق المعاناة، تكمن في الاعتراف بأن جوهر المشكلة الاقتصادية متأصل في سوء إدارة الموارد وليس في ندرة الموارد، وعلى ولاة الأمر البحث عن الحلول في حدود هذه المعادلة البسيطة وكفى. وبديهية نعلمها وندركها ونعايشها مفادها أن للسودان مزايا نسبية في الكثير من موارده وثرواته التي يزخر بها، ولولا طاقة الصبر الهائلة وهي ثروة معنوية خصَّ الله بها الإنسان السوداني دون غيره، لما وجدنا تفسيراً منطقياً لظاهرة تحملنا لسقطات وإسق?طات السياسة في براءة طفولية ترغمنا على أن نحني رؤوسنا لشفرة الحلاقين السياسيين منذ زمن بعيد غابت فيه عنا شمس الحقيقة خلف سحب تضخيم الذات، وبعزم الخُلَّص من أبناء الوطن غداً ستشرق الشمس والمستقبل خطوات لا نهائية نحو الأمام. ودمتم. [email protected]