كشف أحوال المقولة الكولونيالية «إن تحليل الخطاب يمثل الآن مجرد جانب من جوانب ما بعد الكولونيالية، الا ان احداً لا يستطيع التقليل من تأثيره على ما تلاه من اجتهادات نظرية لاحقة». «ليلى غاندي-الهند» «لقد اثمرت دراسة الخطاب الكولونيالي التي بدأت بتأثير مباشر من عمل ادوارد سعيد «الاستشراق» ثم ازهرت لتضع حديقة يتكلم فيها الهامشيون ويتكلم فيها عنهم وحتى من اجلهم، وهي الآن جانب منهم من جوانب العالم». «سيفاك». عن مركز عبد الكريم الثقافي «رعاه الغمام» صدر كتاب «كشف أحوال الكتابة» للدكتور أحمد صادق احمد، وبمثلما يتجلى خطاب الآخر، في العالم، تتجلى براعة الاستهلال وقوة العبارة، ودماثة خلق الكتابة بفرعيها نظريا وتطبيقياً، ورغم قراءة أحسبها جيدة ظناً مني، لا أجد تفسيراً لكتابات الدكتور صادق في الصحف والدوريات ومتابعة لترجماته من الخرطوم حتى الدوحة المجلة، الا ان سروري زاد سرورا وانا امسك بكتابه الذي لا أجد له تصنيفاً سوى عنوان صاحبه، وهو يكشف احوال الكتابة، نقدياً وفلسفياً ويخرج علينا، بلغة غير مألوفة وعبارات أعطاها من روح الكتابة المبدعة، صفاءً رائقاً وحلو البحث زائداً تفضله بعلم غزير وبسياحة في بطون الكتب والنظريات، مع تحاشيه للحشو اللغوي والنقدي الذي تمتلئ به بعض الكتب التي تعلوها أسماء لامعة، ادمنت عدم التفحيص، وأقامت على بريق اسمها خيامها، وهي لا تلوى على مراجعة مخطوطاتها ولا ترجع لتصحيح معلومة، مما يزيد في إبعاد القارئ عنها، الا أن صاحب كتاب «كشف الكتابة» استطاع بمهارة أن يدقق ويتحقق ويتحاور ويتجادل، وان يبنى عوالمه من حروف مترعات بالقلم والخبرة الكتابية، وهذا لعمري عنوان إخراج كتاب متميز، يكشف الكتابة والكُتاب. كتاب «كشف أحوال الكتابة» «18» صفحة يبدأ بسامي سالم من قراءة العداد الى قراءة النص الى ترجمة الطيب صالح: حكاية موسم الهجرة الى الشمال.. مفتتح ب «كتابات» ومختتم ب «ترجمات» وبينهما تظهر رؤى مؤلفة سردا حكائياً، وافكاراً تصول وتجول بين الرؤى والحكايا، مع خطاب واحد تتعدد اصواته، واذا قسناه بمقياس الراوي العليم فإنه يقع في دائرة السرد السهل، واذا اقمنا له ميزان النقد فإنه يصل إلى اعلى مراقي الفكر، هذه الصورة ليست متخيلة ولكنها على تخوم القراءة لما بين السطور، تقف على مسافة واحدة مع قراءة مدارس ما بعد الكولونيالية من الاستشراق حتى «هومي بابا»وصحبه الميامين، وتذكر ليلى غاندي في مقالها «ادوارد سعيد ونقاده» «يمثل كتاب الاستشراق الذي يعامل عادة كعنصر لتحفيز وعلامة مرجعية في تاريخ ما بعد الكولونيالية الطور الاول للنظرية، وبدلاً من الانخراط في الوضع الملتبس الذي آل اليه الحال بعد انتهاء العهد الكولونيالي، يوجه سعيد عملية الانتاج النصي والخطابي للمعاني الكولونيالية وتوابعها والى كيفية تعزيز الهيمنة». وفي حكاية «محمد الدنقلاوي مع الادب الكولونيالي» يستعرض احمد صادق في قراءة تحليلية، ورغم قوله «واترك للمختصين في الدراما والمسرح معالجة النص» الا انه يستعرض الحكاية «مسرحية المهدي لكاتبها س: لايل- 0191م» «رجل طويل القامة، تبدو عليه سيماء العربي النبيل، ذو ملامح قاسية الى حد الجنون يتطاير الشر من عينيه، ملامح رجل ذي سطوة وجبروت» هكذا وصف لايل «المهدي» ولا يتركنا د. صادق في محطة لايل، بل يقفز بنا الى التاريخ البعيد «تلك صورتنا كما رسمها أحد كتبة «الادب الكولونيالي» ترى كيف هي صورتنا عند هيليودوراس الروماني، الذي كتب حكاية رومانسية عن مروي، ويضيف بأن بنية النص وشفراته تعمل على توليد الصوت متعدد النبرات للايديولوجيا، إن استعرنا عبارة «هومي بابا» التي تعمل ليس فقط على تشويه صورتنا بل التأكيد على أن الآخر يظل آخراً حتى في أكثر النصوص جمالية». ويختتم د. صادق قراءته بمقطع من مسرحية «لايبل» «إن المهدي يعود وهو حزين يحمل رأس غردون ويندفع في منولوج «غرودن أخيرا اجتمعنا او تبتسم؟ ام ترى ان تلك ابتسامة زائفة، هل الموت حلو الى هذا الحد، ام تراك تبتسم لي». ويذكر «هومي بابا» حول الصورة النمطية التي ترسم في الآداب الاوربية عن الآخر «التنميط لا يعني فقط تكوين صورة زائفة لتصبح كبش فداء لممارسات تمييزية، بل هو أكثر من ذلك، عبارة عن نص متناقض، تعتمل فيه استراتيجيات مجازية وكنائية واسقاطية، وكذلك انزياحات واحساس بالذنب والعدوانية وتقسيم للمعرفة». وبما أن الاستعمار يعلف دابته «حشيكة» اي شعير، ويوهم الآخر بانه «قمح» فإن د. صادق يستعرض بتمهل مقولاته التي يصدرها «الاستعمار» وتصبح جزءاً من تفكير المُستعمر، بضم الميم. ويستعرض د. صادق في «ليلى ابو العلا»: قبة السماء هذه ليست لي «من عمق» بنية السرد التي تتشكل برسم اليومي بتفاصيل مملة بغاية «القرف»، اتت الينا ليلى ابو العلا بكل حزن، حيث احتشدت كل علامات البؤس، وكيف أن «الجوع أعظم موت» مشهد يطل منه داء السعر والبلهارسيا والكوليرا والحمى الشوكية، ويبحر بنا في عوالم ابو العلا، مضيفاً «تنهي ليلى ابو العلا روايتها، بلغة شعرية ونفس رومانسي في حوار حميم بين رأي وسمر» «كشفت لرأي عن ثلاث لفافات من القماش، حرير بلون الصحراء، صوف بلون المهوقني وقطن بلون السحاب» «اردت بالصوف حمايتك والقطن لأنك في نقاء بياضه». وتستعرض ليلى غاندي في مقالها «ادوارد سعيد ونقاده» مقولة للانجليزي جونز قد تجد فيها الكاتبة ليلى ابو العلا العزاء للداء الكولونيالي الذي يصعب علاجه، مثل «زائرة المتنبئ» وان كان الاستعمار يأتي عنوة بلا حياء يقول جونز «البعض يكره الفرس لانهم يدينون بالاسلام، وآخرون يمقتون لغتهم لانهم لا يفهمونها، نحن نحب الاعذار، او تمويه الجهل، ونادراً ما نقبل بتفوق أحد علينا، تماماً على غرار البدائيين الذين يعتقدون ان الشمس تشرق وتغيب من أجلهم، وليس في مقدورهم تصور أن الأمواج التي تحيط بجزيرتهم، قد تترك اللؤلؤة والمرجان على اي شاطئ آخر». ويبحر بنا د. صادق الى شاطئ آخر «لمحات من الحياة اليومية في السودان»، قائلاً: «لطالما توقفت عند النصوص الكولونيالية النسوية عن السودان، هل كنت أبحث عن صوت مختلف، صوت يقينا شر الكتابة الذكورية وعنفها؟ أم يا ترى كنت أبحث عن نصوص جمالية كتبت بلطافة ورهافة النسوى» ويقفز بنا الى قراءة أخرى، بعد يأسه من لطافة ورهافة ستات الكولونيالية «برزت أسماء ممن عبرن بطرائق البحث العلمي عن انفعالاتهن ورغائبهن في مقدمتهن «السيدة ساندرا هال» التي تتجلى ميولها ونزعاتها غير العادية في أشعارها التي صدرت أواسط الستينيات» «وداعاً السودان 4691م، وقد أكملت الآنسة يومها، في هذا المؤلف عقد الكتابة الكولونيالية الموتورة، بأن كشفت عناصر تناص في المتن الكولونيالي في أن السودان لم يكن سوى جغرافيا من هم خارج التاريخ وذاكرة الآخر». وبعد أن يفرغ د. صادق من الآنسة- السيدة «ساندرا» يأتي الى الآنسة «ليوما جلي» صاحبة كتاب «لمحات من الحياة اليومية في السودان»، اذ يقول «بعد دراستها علوم اللسان والانثروبولوجيا توجهت الشابة آنذاك بانظارها الى الآخر، الذي يصلح لدراسة الآخر البدائي المتوحش، وكان من ضمن تدريبها أن تشد الرحال الى جغرافيا خام، تربط فيها بين النظري والممارسة، وكان أن شدت الرحال الى «القارة المظلمة« تحديدا الكاميرون والسودان، وفي منتصف الرحلة عرجت الى كينيا، وكان عليها بعد الإقامة وسط الآخر الأسود أن تعد درجة الدكتوراة، أين يمكن أن يتم ذلك؟ سرعان ما جاءت الإجابة لندن، حيث الأرشيف الكولونيالي. ويستعرض د. صادق في سرد جميل رحلة الخواجية، حيث الغبار والأتربة في الخرطوم، والتماهي مع أجواء الخرطوم العاصفة «أم درمان القديمة»، «حي البوستة والانتقال الى السكن في المقرن، حيث الفوضى والقذارة وتخلف سكان المنطقة، وتنتهي رغائب الآنسة «ليوما» بزيارة البركل، وتبقى ذكرى البعوض والذباب والأرضة والديدان من كل حضارات السودان وثقافته». ويستكمل د. صادق رحلته مع هذه الخواجية إلى صرخة إلى متى تظل أحلامنا مختزلة لرغائب الآخر وخطابة المنشطر». حفل هذا الكتاب المهم والقيم بالكثير من الرؤى والأفكار التي تحتاج لسبر غورها الى قراءة اخرى. شكراً د. أحمد صادق.