يبدو المشهد السياسي السوداني معتماً في بعض جوانبه وغائما في أخرى، اذ تتصدره قضيتان سمتها الأساسية المراوحة بين الحسم والتسويف، أولها الانتخابات، وثانيها المفاوضات الساعية لوضع حد لمأساة اقليم دارفور. الانتخابات، وبعد أن دخلت مراحلها الحاسمة ولم يتبقَ من مواقيتها النهائية سوى عشرة أيام ما زال الحديث عن قيامها من عدمه سارياً، فبينما يتخندق المؤتمر الوطني في خانة الدفاع عن قيامها ولو على جثته، تنادي قوى سياسية مقدرة بتأجيلها ولو أبعدت عن العمل السياسي لأربع سنوات. والحقيقة أن المؤتمر الوطني يدعم موقفه بموقف امريكي يرى ضرورة قيام الانتخابات في موعدها، وإن اختلفت الدوافع، فأمريكا تسعى الى حصول الجنوب على انفصال هادئ ودونما مشاكل، حيث يقول المبعوث الامريكي الخاص الى السودان سكوت غرايشن إن الولاياتالمتحدة تأمل أن تمهد انتخابات ابريل في السودان السبيل إلى طلاق مدني لا حرب أهلية بسبب تحركات جنوبية تكرس جهودها من أجل تحقيق الاستقلال وقيام دولة الجنوب. ولكن غرايشن ورغم اقراره بوجود مشكلات في الإعداد لانتخابات أبريل تلك التي تتحدث عنها القوى المعارضة، الا انه يصر على قيام الانتخابات في موعدها ويقول (يجب أن تجرى في موعدها حتى تتكون الهياكل الديمقراطية اللازمة لعلاج القضية الخاصة بوضع جنوب السودان الذي سيتحدد في استفتاء في يناير المقبل)، فضلا عن ان امريكا دعمت قيام الانتخابات بمبالغ طائلة تجاوزت الثلاثمائة مليون دولار، بل ان الحكومة الأمريكية نقلت إلى جهات سودانية بحسب مصادر مطلعة قَلقَ الإدارة الأمريكية من المطالبات المتصاعدة بتأجيل الانتخابات وذلك بعد ما بذل في الترتيب لها من جهد ودعم أمريكي فاق ال (300) مليون دولار، ومن المعلومات الراشحة عن زيارة المبعوث الامريكي سكوت غرايشون في اليومين المقبلين انها تأتي في سياق تهدئة التوتر بين الشريكين حتى تُقام الانتخابات في موعدها لضمان إجراء الاستفتاء في التوقيت المحدّد له يناير المقبل. ويساند موقف المؤتمر الوطني المدعوم امريكيا موقف الحركة الشعبية التي تتخوف من ان يؤدي تأجيل الانتخابات إلى تأجيل الاستفتاء على تقرير المصير، وتمسك الحركة بتقرير المصير والاستفتاء مقدم على أي شئ آخر وكل ما يمس الاستفتاء مرفوض جملة وتفصيلا، وذلك رغم رفض الأمين العام للحركة باقان أموم لتصريح الرئيس البشير الذي ربط فيه قيام الانتخابات بقيام الاستفتاء وقوله عن تحذير البشير «انه يهدد أهل جنوب السودان بعرقلة حقهم في اجراء استفتاء وهذا موقف بالغ الخطورة) وكان المؤتمر الوطني رهن إمكانية تأجيل الانتخابات إلى وقت لاحق بموافقة الحركة الشعبية على تأجيل السقف الزمني لعملية الاستفتاء المنصوص عليها باتفاقية السلام الشامل. وأكد الدكتور مصطفى عثمان إسماعيل أمين العلاقات الخارجية بالمؤتمر الوطني على حديث البشير وقال (إذا أرادت الأحزاب تأجيل الانتخابات عليها الذهاب إلى الحركة الشعبية لإقناعها بتأجيل الاستفتاء عندها فقط يمكن الحديث عن تأجيل الانتخابات). في المقابل فان تأجيل الانتخابات يكسب اراض جديدة بعد ان طالبت مجموعة الازمات الدولية المجتمع الدولي بعدم الاعتراف بشرعية الفائز بالانتخابات المقبلة وذكرت المجموعة أن المؤتمر الوطني يسعى للتحكم في سير الانتخابات لصالحه. واتهم تقرير صادر قبل يومين عن المجموعة التي تقدم المشورة في قضايا النزاعات الدولية المؤتمر الوطني بأنه يسعى لاعطاء حق الاقتراع لاشخاص قدموا للتو من تشاد والنيجر فيما حرم من هذا الحق أشخاص في المناطق المناوئة للحزب»، منادية المجتمع الدولي بعدم الاعتراف بشرعية أي فائز في الانتخابات المقبلة، وفي ذات الاتجاه كانت منظمة هيومن رايتس ووتش قد ذهبت حين تحدثت مطلع الاسبوع الحالي في تقرير لها عن إن القمع الحكومي وغيره من الانتهاكات الحقوقية قبيل انتخابات أبريل العامة في السودان يهدد بعدم إجراء تصويت نزيه وموثوق وحر. وحتما، سيؤزم عدم الاعتراف بنتيجة الانتخابات موقف الداعين لقيامها ويعزز من موقف الداعين لتأجيلها خصوصا اذا اقدمت قوى تحالف جوبا على مقاطعة الانتخابات واتجهت هذه الأحزاب الى خيار المقاطعة بعد يأسها من تأجيلها عقب إصرار الموتمر الوطني على قيامها، فما رشح حتى الآن يرجح احتمال مقاطعة أغلب القوى السياسية لها، فعقب اجتماع قوى تحالف المعارضة أمس قال المتحدث الرسمي باسم التحالف فاروق ابوعيسى ان رؤساء الاحزاب المشاركة في الاجتماع اكدوا ان الاجواء في السودان ما زالت لا تحتمل اجراء انتخابات حرة ونزيهة وخاصة في ظل الاوضاع الراهنة في دارفور مضيفا «ان اصرار المفوضية وحزب (المؤتمر الوطني) على قيامها قد يؤدي الى نسف الاستقرار بالبلاد والى حريق يدمر البلاد باكملها». ومن جهته كان باقان اموم اكد انه اذا قاطعت الاحزاب السياسية الانتخابات دفاعا عن الانتخابات الحرة والنزيهة في الشمال فستنضم الحركة الشعبية لتحرير السودان اليها.» ويصف رئيس حزب الامة الامام الصادق المهدي الانتخابات في حال مقاطعة حزبه لها بالدافوري بدلا من مباراة هلال مريخ ويقول ان النتيجة المترتبة على مقاطعة الاحزاب للانتخابات بانها ستكون (سباق بلا منافسة) . القضية الثانية، مباحثات سلام دارفور، أيضا ما زالت تراوح مكانها، بل تكاد تتقهقر بعد ان تقدمت زمنا، فبعد أن عاد الطرفان الاساسيان في المفاوضات الى قواعدهما وان شئت الى رئاستيهما طفقا يكيلان التهم الى بعضهما البعض، ففي أول تصريحات له بعد انفضاض المفاوضات لوح رئيس حركة العدل والمساواة في دارفور بالعودة إلى العمل المسلح لإسقاط حكومة عمر البشير في حال فشل مفاوضات السلام القائمة حاليا بين الطرفين في الدوحة. وقال الدكتور خليل إبراهيم في تصريحات صحفية أدلى بها في الدوحة (نحن مستمرون في التفاوض، ولو كانت الحكومة جادة بالوصول إلى سلام فنحن جاهزون، وإذا لم يتم التوصل للسلام، فإن موقفنا معروف وهدفنا هو تغيير نظام البشير، فإما السلام العادل والشامل أو الاستمرار في مشروع تغيير النظام)، متهما الحكومة بأنها تحشد عسكريا وتجهز عتادها وتستعد للحرب وليس لديها استعداد للسلام، وقال أن الحكومة غير جادة ومراوغة وهي تحاول كسب الوقت للانتخابات ومن فوره رد مسؤول ملف دارفور بالحكومة الدكتور غازي صلاح الدين على تصريحات العدل والمساواة ووَصَفَ حديث د. خليل ابراهيم رئيس الحركة، بمحاولة لتعزية النفس بعد الإضعاف الذي تم لحركته بانسحاب الدعم التشادي والإقليمي والهزائم العسكرية التي مُنيت بها الحركة في مسارح العمليّات، وقال د. غازي لصحيفة »الرأي العام« امس، إنّ حركة خليل لم تتخل عن الخيار العسكري حتى تهدد بالعودة إليه، وكان رد الدكتور أمين حسن عمر رئيس الوفد الحكومي المفاوض حول تسويف الحكومة في مواقيت التفاوض أكثر عنفا بعد ان قال بان الحكومة لا تتمسك بتاريخ محدد أو تفرض على الوساطة زمن معين لانتهاء المفاوضات، مجددا اتهامه لحركة العدل والمساواة بارتكاب خروقات في الاتفاق الاطاري تجاوزت ال (30) خرقا، وقال ان الجولة الأخيرة ستنتهي اما بتوقيع اتفاق أو الاتفاق على تعليق المفاوضات لوقت لاحق (نسبة لان تفويض الحكومة سينتهى في 11 ابريل الجاري وتتحول لحكومة تصريف أعمال لا تملك حق ابرام اي اتفاقيات محلية كانت أو دولية ومن المنطقي ان يتم حسم التفاوض قبل ذلك التاريخ) ومتفقا مع حديث الدكتور غازي قال ان العدل والمساواة تود إيهام الرأي العام بأن لها (جيش عرمرم) وهي لا تملك ذلك على الصعيد الميداني وتلجأ فقط للحديث العدائي عبر وسائل الإعلام. وبحسب مراقبين فان التفاوض في الدوحة لن يقود الى نتيجة في المسارين الخاص بالحكومة والعدل والمساواة وبالحكومة والحركات الأخرى، مؤكدين انه لا يبشر بحلول قريبة للأزمة عبر التفاوض الحالي، لسببين، الأول المتعلق بالطرفين الاولين ان مواقفهما آخذة في التباعد كما تجلى في السجالات السابقة، والثاني ان الحركات الاخرى لا يجمعها جامع ويحصى أحد المتابعين للمفاوضات وجود تسعين مفاوضا بفنادق الدوحة ويحصي الكاتب خضرعطا المنان المقيم بالدوحة الحركات المفاوضة في حركة العدل والمساواة / الدكتور خليل ابراهيم وحركة العدل والمساواة الديمقراطية وحركة العدل والمساواة القيادة الجماعية وحركة العدل والمساواة القيادة الثورية وحركة جيش تحرير السودان / التسوية والتغيير وحركة تحرير السودان (عبد الواحد محمد نور) والجبهة الشعبية الديمقراطية والجبهة الثورية السودانية وحركة جيش تحرير السودان / قيادة الوحدة وجبهة القوى الثورية المتحدة وحركة جيش تحرير السودان / وحدة جوبا ثم أخيرا حركة التحرير والعدالة برئاسة الدكتور التيجاني سيسي حاكم اقليم دارفور سابقا التي نتجت عن توحد عدد من الحركات. ويقرأ بعض المتابعين لقضية دارفور انفضاض الجلسات والتئامها بالدوحة بانه لن يقود الى الحل وبالتالي يصبح الانتظار بلا طائل بل يفاقم السوء ويأتي على حساب المنكوبين والمتأثرين المباشرين في مناطق النزوح واللجؤ محذرين من خطورة المواقف الناجمة من تشرذم وتمزق الحركات الدارفورية ومن تبعات تلك الانقسامات بان تودى الى ضياع قضية دارفور اذن المشهد الآن يبدو مغطى بسحب داكنة على الصعيدين، ولكنه بنظر الكثيرين غيم لا يحمل البشريات ولا امطار الخير، وانما بمزيد من الترقب المشوب بالحذر.