استهداف مطار مروي والفرقة19 توضح    محمد وداعة يكتب: المسيرات .. حرب دعائية    مقتل البلوغر العراقية الشهيرة أم فهد    إسقاط مسيرتين فوق سماء مدينة مروي    لماذا لم تعلق بكين على حظر تيك توك؟    السينما السودانية تسعى إلى لفت الأنظار للحرب المنسية    ب 4 نقاط.. ريال مدريد يلامس اللقب 36    كهرباء السودان: اكتمال الأعمال الخاصة باستيعاب الطاقة الكهربائية من محطة الطاقة الشمسية بمصنع الشمال للأسمنت    الدكتور حسن الترابي .. زوايا وأبعاد    بيان جديد لشركة كهرباء السودان    أحمد السقا ينفي انفصاله عن زوجته مها الصغير: حياتنا مستقرة ولا يمكن ننفصل    بايدن يؤكد استعداده لمناظرة ترامب    الأهلي يعود من الموت ليسحق مازيمبي ويصعد لنهائي الأبطال    أرنج عين الحسود أم التهور اللا محسوب؟؟؟    الصناعة.. قَدَر الخليج ومستقبله    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    سوق العبيد الرقمية!    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    أمس حبيت راسك!    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الذكرى السابعة والعشرون لتأسيس حي السيد المكي بأم درمان
في الذكرى الاربعين لرحيل الأميرلاي عبدالله خليل
نشر في الصحافة يوم 30 - 12 - 2011

يتوافق هذا العام مع الذكرى الاربعين لرحيل عبد الله بيه خليل بعد ثمان وثمانين عاما حافلات. اختزال تاريخ رجل كهذا في دقيقات أمر عسير، خاصة وهو من نمط الرجال الذين يقول عنهم الفرنجة أنهم أوسع من الحياة «larger than life».
الناس لا تعرف عن عبد الله بيه الا السياسي الذي تولى رئاسة مجلس وزراء السودان عقيب اعلان الاستقلال. في ذلك ظلم لتاريخ الرجل الحافل: عبد الله خليل العسكري، عبد الله خليل الوطني الثائر، عبد الله خليل الحزبي المؤسس والفاعل، وعبد الله خليل الرجل الذي حرص طيلة حياته على ان لا يجعل السياسة حائلاً بينه وبين صحبه على الضفة الاخرى من النهر، او تجعله السياسة يبيت بضغينة ضد أحد، وقبل كل ذلك عبد الله خليل الانسان البسيط المتواضع الذي كان في بساطته نبل وفي تواضعه كبرياء.
ففي البدء ولج عبد الله خليل مجال العسكرية - عقب تخرجه في قسم الهندسة كلية غردون التذكارية - بالتحاقه بالمدرسة الحربية في عام 8091م والتي تخرج فيها بعد عامين. ويكشف التاريخ ان عبد الله خليل كان مشاغباً - ان جاز التعبير - من صباه - اذ تطوع وهو ملازم - مثل غيره ممن حملتهم الغيرة الاسلامية - الى جانب تركيا في حربها ضد روسيا في عام 0191م وفي رتبة اليوزباشي عمل عبد الله خليل عام 2191م في الاشغال العسكرية المصرية مما مكنه من خلق علاقات وثيقة مع الضباط المصريين، وفي ذلك المجال ذرع ارض السودان شمالا وجنوبا يمسح الا?ض، ويحدد المواقع، ويدرب ناشئة العسكريين على فنون المساحة والهندسة.
الذي لا يعرفه الكثيرون ان عبد الله بيه لم يقصر استخدام تمهره العسكري على المجالات الوظيفية، بل سخرها ايضا للعمل الثوري اذ اصبح - مع قلة من زملائه على رأسهم اللواء علي البنا - عضوا في اللجنة العسكرية لحركة اللواء الابيض.
تلك المرحلة من حياة البيه كان لها اثر كبير على مستقبل حياته السياسية بعد تقاعس الاورطة المصرية بالسودان عن نجدة مناضلي اللواء الابيض عندما امطرهم الجيش الانجليزي بوابل من الرصاص، منذ تلك اللحظة قلب عبد الله خليل وآخرون ظهر المجن لساسة مصر وكان كلما سئل عن لماذا يكره مصر، رد بقوله انا لا اكرهها ولكنني عرفت وخبرت اهلها. مع ذلك لم يذهب عبد الله خليل مذهب رفاق له في اللواء الابيض في حنقهم على مصر مثل الشاعر صالح عبد القادر. انشد صالح وهو يستذكر قصيدة ابي الطيب المتنبي في هجاء كافور الاخشيدي التي جاء فيها «نام? نواطير مصر عن ثعالبها» قائلاً:
انا الطيب اسمعني فما انت مخطيء
ولا انا من ترديد شعرك اسأم
نواطير مصر ما تغير وضعها
وها هي ما زالت تغط وتحلم
وما زال ذاك الشعب يجهل نفسه
وما زالت الدنيا به تتبرم
تجاوز الضابط عبد الله خليل المرحلة المأساوية التي مر بها وارتقى في المجال العسكري رتبا لم ينلها احد من قبله من الضباط السودانيين مما اهله للعب دور قيادي في قوة دفاع السودان ابان الحرب العالمية الثانية في الصحراء الليبية. وكان اداؤه في تلك الحرب مما اهله للترقي كاول ضابط سوداني الى رتبة الامير الاى. لم تله العسكرية عبد الله بيه عن او تلجمه من السعي للعب دور في الحركة الوطنية في بداية عهدها فانضم الى مجموعة العشرة الاوائل الذين سعوا لانشاء اندية الخريجين كملتقى يتشاور فيه الخريجون في امور بلادهم. ولكن سرعان ?ا نبهه رؤساؤه في الجيش لتعارض نشاطه مع المهنة العسكرية، ولهذا تم نقله الى القيادة الاستوائية حتى يكون بعيدا عن المناشط السياسية، ولعل هذا هو الذي يفسر غياب اسم عبد الله عن الصراعات في المؤتمر على مواقع لجانه الستينية والتنفيذية. ولكن عند اشتداد الوطيس في الصراع السياسي بين توجهين: استقلال السودان عن كل من مصر وبريطانيا، والاتحاد مع مصر قرر عبدالله خليل ترك موقعه في اعلى رتبة بلغها ضابط سوداني: الامير الاى، فحتى ذلك التاريخ كانت اعلى الرتب التي حازها الضباط السودانيون هي رتبة القائمقام واعتزاز عبد الله خليل?بعسكريته هو الذي جعله - حتى وهو رئيس للوزراء - يحرص على الاشارة الى رتبته العسكرية في اللافتة التي وضعها امام باب منزله.
نأتي من بعد الى عبد الله خليل السياسي الحزبي في فبراير 5491م قرر مناصرو التيار الاستقلالي «كان يسمى الانفصالي باعتبار ان الوحدة مع مصر هي الاساس» انشاء حزب استقلالي هو حزب الامة الذي اتخذ شعاراً له: «السودان للسودانيين» الاجتماع التأسيسي لذلك الحزب ضم نخبة من الخريجين الى جانب زعماء العشائر وكانوا على الوجه التالي:» ابراهيم حامد، عبد الله خليل، محمد علي شوقي، محمد عثمان الميرغني، محمد صالح الشنقيطي، عبد الكريم حامد، احمد يوسف هاشم، احمد عثمان القاضي، عبد الله الفاضل، محمد الخليفة شريف، صديق عبد الرحمن المه?ي، السلطان محمد بحر الدين، ابراهيم موسى مادبو، سرور محمد رملي، محمد محمد الامين ترك، محمد ابراهيم فرح، الزبير حمد الملك، بابو عثمان نمر، ايوب بيه عبد الماجد، المك حسن عدلان، عبد الله بكر، وقد تم اختيار عبد الله خليل كأمين عام للحزب، ويلاحظ المرء ان لم يكن من بين العشرين الذين تكونت منهم اللجنة التأسيسية من اسرة المهدي غير ثلاثة اشخاص: عبد الله الفاضل، محمد الخليفة شريف، صديق المهدي.
حمل ذلك الوضع الشيخ سرور رملي لتوجيه سؤال للامام عبد الرحمن عن الموقع الذي يريد احتلاله في التنظيم فرد الامام «انا جندي» في الصف وقد وهبني الله امكانيات لم تتيسر للكثيرين منكم سأهبها - كما سأهب صحتي وولدي وكل ما املك للسودان» لهذا ظل عبد الله خليل الرجل الاول في الحزب حتى فبراير 9491م عندما انتخب صديق المهدي رئيسا لحزب الامة.
تسمية تلك المؤسسة الناشئة بالحزب كما اراد له صانعوه فيها مجافاة للواقع، فعند تقديم الطلب للسكرتير الاداري للتصديق على انشاء الحزب جاء الرد من مدير مديرية الخرطوم بالتصديق لنادٍ وليس لحزب امتعض عبد الله خليل من القرار وعند مجابهته للسكرتير الاداري وابلاغه ان النادي ليس حزباً، وان التصديق من مدير الخرطوم يعني انه حتى محور نشاط النادي سيظل محصورا في الخرطوم لاذ السكرتير الاداري بالادعاء بان ذلك القرار قد اتخذ لانه ليس في السودان قانون ينظم الاحزاب.
التاريخ الفوري تاريخ ملتاث اذ تتخلله العواطف المشحونة ونزوات الطامحين، والغيرة الجيلية ولكن الاستمرار في تلويث التاريخ بعد زمان وبعد توفر الوقت للباحث على القراءة المتأنية يمنع الرائي من تبين الشجيرات من الاكمة to tell the wood from the trees ومن المؤسي ان بعض الذين يسودون صفحات الصحف بتحليلات للتاريخ تكاد عدد الاخطاء فيها تفوق عدد السطور لا ينتهجون سكك الباحثين المدققين، بل يعتمدون على المعرفة السماعية في بلد تسوده ثقافة طق الحنك. كثير من هؤلاء يصورون عبد الله خليل كعميل للاستعمار دون ان تشفع له مواقفه الثورية في اللواء الابيض ودون ان يكذب ظنونهم اقصاؤه للاستوائية حداً لنشاطه السياسي في ام درمان، ودون التمعن في تلكؤ الادارة الاستعمارية حول انشاء حزب الامة. الى ذلك اضيف حادثتين مهمتين الاولى هي الرسالة التي بعث بها عبد الله خليل الى الحاكم العا? عند الاعلان عن قيام مؤتمر سان فرانسيسكو الذي اقر فيه ميثاق الامم المتحدة في تلك الرسالة كتب عبد الله خليل يذكر الحاكم العام بان ميثاق الاطلسي يعترف بالدور الذي قامت به الدول في محاربة النازية وينص على حق تقرير المصير للشعوب. ثم مضى يقول: «بما ان السودان قد اسهم اسهاماً معروفاً في الجبهة الشرقية والشمالية في افريقيا فهو يدعو الى مشاركة السودان في مؤتمر سان فرانسيسكو لتوضيح قضيته بما فيها موضوع تقرير المصير الذي اقره ميثاق الاطلسي. الرد على تلك الرسالة جاء مقتضباً من السكرتير الإداري قال فيه (أن دور السودان?في الحرب مشكور غير منكور ولكن مؤتمر سان فرانسيسكو ليس هو المكان الذي نعالج فيه قضية السودان).
الحادث الثاني كان في عام 7491 عندما عرضت قضية السودان امام مجلس الأمن. إستمع المجلس لرئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي وهو يقدم اطروحة طويلة فحواها ان السودان جزء من مصر بموجب الفرنانات الخديوية وشكك في اهلية السودان للمطالبة بحق تقرير المصير. على تلك الدعوى رد المندوب البريطاني السير السكندر كادوقان منكراً دعاوي مصر ولكنه اضاف أيضاً أن السودانيين راضون عن الإدارة الحالية ولا يريدون لها بديلاً. في الرد على دعاوي الرجلين اوضح عبد الله خليل بوصفه ممثلاً لحزب الامة، والاستاذ محمد أحمد محجوب بوصفه ممثلاً?للجبهة الاستقلالية (محجوب لم يكن عضواً بحزب الامة بعد) مذكرة جاء فيها أن السودانيين تواقون للاستقلال ويطالبون مجلس الأمن بإنهاء الحكم الثنائي فوراً وإعلان استقلال السودان عن كل من مصر وبريطانيا.
تغيب الحقائق، إن لم يكن التلبيس وقع أيضاً في امر اعلان الاستقلال. ذلك الحدث الأهم في تاريخ السودان والذي ما كان ليتحقق لولا الوفاق الذي تم في اجتماع هام انعقد في الفترة ما بين 8-21 ديسمبر 5591 في قاعة مجلس الشيوخ، فما ان استقر رأى الحزب الوطني الاتحادي على إعلان الاستقلال دون الالتزام بما نصت عليه الاتفاقية المصرية- الانجليزية حول تقرير المصير للاختيار بين الاستقلال التام والوحدة مع مصر حتى اتفقت الاحزاب على ضرورة الفراغ من اربعة أمور قبل المضي بالامر في البرلمان:
أ/ الاتفاق على دستور الدولة السودانية (ولي في هذا الامر طرفة ارويها في نهاية حديثي).
ب/ تكوين حكومة قومية.
ج/ وضع الجنوب.
د/ تكوين الهيئة التي ستحل مكان الحاكم العام.
٭ في ذلك الاجتماع شارك ميرغني حمزة (حزب الاستقلال الجمهوري)، يوسف العجب (الحزب الجمهوري الاشتراكي)، حسن الطاهر زروق (الجبهة المعادية للاستعمار)، محمد نور الدين (الجبهة الاتحادية)، ومثل الحزب الوطني الاتحادي: مبارك زروق، ابراهيم المفتي، خضر حمد، علي عبد الرحمن كما مثل الجنوب ستانسلاوس بياساما وبنجامين لوكي، وعبد الله خليل حزب الامة.
اشارتنا لدور عبد الله خليل في هذا المقام نهدف منها الى الافصاح عن موضوعيته، عند الحديث عن الحكومة القومية رأى عبد الله خليل ان رئاسة الازهري لتلك الحكومة وحصول حزبه على العدد الاكبر من الوزراء فيها امر تستوجبه الغلبة العددية لحزب الازهري في ذلك البرلمان شريطة ان لا يكون لذلك الحزب اغلبية طاغية في الحكومة. ذلك الرأي لم يرق لمحمد نور الدين الذي دعا لإقصاء الازهري من الرئاسة، موقف نور الدين، رفيق الازهري في النضال لم يكن، فيما يبدو لنا بسبب انكاره لما دعا له البيه إلا لأنه لم يكن افاق بعد من تخلي ازهري عن شع?ر الوحدة مع مصر.
تأتي الى الجانب الشخصي من حياة البيه عبد الله خليل رجل شديد الخصوصية في حياته، وعندما يفصح عن ذاته- خاصة في اللحظات التي ينصرف فيها الى تزجية الفراغ لا تجد معه الاقربين من أهله، أو من انصاره السياسيين اغلبهم كان إما من رفاقه القدامى في الجيش او الهندسة: الامين حميدة العجباني، عبد الرازق علي طه، المهندس عبد القادر حميدة العجباني أو مخالفين في السياسة إلا ان نفسه كانت تستريح اليهم: الدرديري احمد اسماعيل، مبارك زروق، عابدين اسماعيل، ابراهيم عثمان اسحق، احمد متولي العتباني.
كان ايضاً من بين الذين يكاد يفدون على منزل البيه كل صباح عبد الخالق محجوب، كان عبد الخالق أول زائر للمنزل قبل ان يفد عليه زوار الصباح الكُثر. تلك اللقاءات حملت ابن اخيه ميرغني سليمان على التساؤل: إنت عبد الخالق والبيه بتكلموا كل يوم في شنو؟ قطعاً كان الحديث دوماً ينتهي الى الشأن العام، في واحد من تلك اللقاءات- وكان ذلك في مرحلة التداول حول المعونة الامريكية- قال عبد الخالق لعبد الله خليل: ( ياعم عبد الله الشارع بيقول انت عاوز تبيع السودان للامريكان) لم يغضب عبد الله خليل بل قال باسماً ( يا ابني انا عاوز اب?ي البلد والبلد ما عندهاش فلوس، الامريكان حيبنوا لينا طرق وميناء ويدربوا اولادنا عندهم في الزراعة وحيعملوا مطارات ومسالخ في نيالا وكوستي، لو جماعتك تقدر تدينا الحاجات دي ما عنديش مانع اشوف الموضوع ده معاهم).
في واقع الامر، لم اشهد مرة واحدة منزل عبد الله خليل موصداً، كان يغشاه الغادي والرائح، بل كان المنزل اشبه ما يكون بالتكايا الملحقة بالمساجد، حيث إتسع المنزل- الى جانب أهله- لاكثر من شخص من الوافدين فيهم طالب العلم، كما فيهم من اقرباء معارفه واصدقائه من لم يجد بيتاً يأويه. الى جانب هؤلاء كان اكثر من يتلقاهم عبد الله خليل- الذي وصم بالتكبر- على رأس كل اسبوع هم مدربو وسياس الخيول إذ كان ذو وله بالخيل يزور الاسطبلات وينافس مع المعالين فيها يوماً بأكمله كل اسبوع. وذات مرة قرر واحد من هؤلاء اختصام عبد الله خليل ?عد تركه الوزارة امام المحكمة حول ملكية ارض إدعاها. اذكر اتصال الفريق الراحل الفاتح بشارة بي- وكان وقتها سكرتيراً للرئيس عبود- ليتساءل عما يجب ان يفعل، ولعل تلك المبادرة كانت بإيعاز من الرئيس عبود. قلت له لا تحاول إذ علمت من البيه ان الرجل لا يريد إلا الابتزاز وقال لو كان الرجل في حاجة الى اكثر مما طلب من ذلك لاعطيته له طواعية مما املك، أما الابتزاز فلا، تلك قصة ارويها لتداعياتها. ففي محكمة الخرطوم جنوب جاء الشاكي ولحق به المشكو ضده فنهض القاضي مامون محمد السيد واقفاً وطلب من حاجب المحكمة إحضار مقعد للبيه. ?بعنف ملحوظ قال عبد الله خليل للقاضي- وكان واحداً من أبنائه الذين يزورونه الفينة بعد الفينة (اجلس انت القاضي فكيف تريد من المشكو منه ان يجلس في حين يظل الشاكي واقفا).
قلت في مطلع الحديث ان عبد الله خليل لم يكن يضغن شيئاً على من خالفوه الرأى، أو حتى اساءوا اليه، ففي زيارته الرسمية للقاهرة التي اصطحبني معه فيها فاجأ عبد الله خليل عبد الناصر بطلب لم يكن عبد الناصر ومرافقوه يتوقعون؟ طلب زيارة محمد نجيب وصلاح سالم وكان كلاهما رهن الاعتقال. وافق عبد الناصر على طلب عبد الله خليل وتم للاخير ما اراد. وإن لم يجيء اللقاء مع نجيب مفاجئاً للرجل، إلا ان صلاح سالم لم يصدق ان يسعى الرجل الذي جند كل جهده في السودان لهزيمته في الانتخابات للقائه. نجيب ولد وعاش في السودان ويعرف الكثير عن ا?لاق السودانيين، كما ان بينه وبين جيل عبد الله خليل من العسكريين زمالة مهنية طويلة، اما صلاح سالم فلم يعرف عبد الله خليل إلا خصماً. جرت دموع غزيرة من عيني صلاح سالم خاصة عندما قال ما اقدرش! ما اقدرش اصدق. تعرف يا سعادة البيه ان زملائي في مجلس قيادة الثورة ما يزورونيش غير (زكريا محي الدين وعبد اللطيف البغدادي).
لا اظن ان من بين الذين كتبوا عن تلك الحقبة من تاريخ السودان السياسي قد نقد قيادات تلك الفترة نقداً مريراً مثل ما فعلت. على ان نقدي كان لقصور تلك القيادات في معالجة اكبر مشاكل السودان التي كان يطلق عليها اسم مشكلة الجنوب وما هى إلا مشكلة السودان. غياب الرؤية لما بين الذي كان يدور في الخرطوم، وما يدور في جوبا هو الذي قاد الى ذلك القصور. رغم ذلك ما اتيحت له فرصة فيما كتبت للاشادة بقادة ذلك الجيل على طرفي الخنادق السياسية إلا وفعلت ذلك ، فجيل الازهري وعبد الله خليل جيل لم يكن يعرف التعصب- كما عرفناه من بعد- وا?تعصب عدوان مكبوت، وجيل الازهري وعبد الله خليل كان جيلاً طاهر اليدين، خرج رجاله من الدنيا كما دخلوها، كما كان جيلاً طاهر الذيل، وطوبى لمن لم تفضحهم اعمالهم. كان جيلاً يؤدي الامانات للاقربين والابعدين فأفدحته الودائع وفي قول إبن داره:
اذا أنت لم تبرح تؤدي أمانة
وتحمل اخرى افدحتك الودائع


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.